النقلات التأسيسية الكبرى في تاريخ الدولة العراقية!
MESOPOTAMIA

سليم مطر 

إن مفهوم (الدولة) يعني حصراً: (مجموع المؤسسات المركزية: العسكرية والإدارية والمدنية، التي تقود جماعة ما). فلا يخلط مع مفهومي (الوطن والشعب). إن تاريخ البشرية يظهر لنا ثلاث مراحل متتالية لتشكل الدول: المرحلة الأولية المحصورة بجماعة ومنطقة محدودة (عشائر وقرى أو مدينة) ويمكن تسميتها بـ (دويلة أو امارة، او مشيخة، او دولة مدينة.. الخ). ثم المرحلة الأعقد وهي (الدولة البلادية التوحيدية) التي تتمكن فيها إحدى (الدويلات) من التوسع والسيطرة سلماً وقسراً على باقي الدويلات في منطقة كبيرة (بلاد) تشترك بالجغرافية والمصالح والثقافة. ثم تليها المرحلة الثالثة الأعقد والأكبر التي تتحول فيها (الدولة البلادية) الى (امبراطورية) أي أنها تتوسع لتشمل عدة (بلدان).

تعتبر (الدولة النهرينية: العراقية) مع (المصرية) من أولى وأقدم (الدول البلادية) في تاريخ البشرية، إذ ظهرت في أواسط الالف الثالث ق.م. ولم تتأسس دول كبيرة أخرى: (الحيثية والميتانية والصينية)، إلاّ بعد حوالي 1000 عام، في أواسط الألف الثاني ق.م([i]). ان (الدولة النهرينية: العراقية) قد حتمتها (طبيعة النهرين) وضرور الادارة المركزية(الدولة) للسيطرة على الريّ ومنع الطوفان والجفاف، وكذلك لتنظيم حياة الفلاحين وعموم السكان، بالاضافة الحماية العسكرية من غزو بدو الجبال شرق دجلة، وبدو البادية غرب الفرات.

IRAK 7

 مثل كل تواريخ الدول، مرت الدولة العراقية بتحولات ونهضات وانتكاسات وانهيارات وانقطاعات، لكن (الجغرافية النهرينية) والضرورة التاريخية حتَّمَت دائماً عودة هذه الدولة واحتيائها من مواتها.

هنا نسجل النقلات الخمس الكبرى في هذا التاريخ الطويل الذي يقارب خمسة آلاف عام. إن اختيارنا يستند على المقياس التالي: (إن أهمية النقلة تكمن في قدرتها على الخروج من الحقبة السابقة لها، والتهيأة لتأسيس حقبة جديدة)([ii]). نؤكد ان المقياس لا يخص طول الحقبة ولا كمية واهمية الانجازات، بل دور تلك الدولة في التهيأة لنقلة، او خلق حقبة جديدة:

1ـ دولة سرجون الاكدي 2ـ دولة الخليفة علي 3ـ دولة بني العباس 4ـ دولة داوود باشا 5 ـ الدولة العراقية الحديثة.

أولاً ـ دولة سرجون الاكدي حوالي 2300 ــ 2150 ق.م
Sargon

إن الانجاز التاريخي الكبير لهذه الدولة إنها نجحت ما عجز عنه زعماء (الدويلات ـ السومرية) خلال القرون السابقة، أي توحيد المدن النهرينية في (دولة بلادية واحدة) بأسم (بلاد سومر وأكد)، ثم توسعت لتشمل (بلاد النهرين) كلها، ثم أصبحت (شبه امبراطورية) بتوسعها نحو (بلاد كنعان: الشام) وساحل البحر. كذلك تم تشييد (مدينة أكد)([3]). ومن أهم ما أنجازاته تحويل (اللهجة الاكدية) الى (لغة رسمية) ثقافية ودينية مع بقاء (السومرية) لغة دينية مقدسة. بعد أقل من قرنين انتهت هذه الدولة (سلالة سرجون) نتيجة ضغوطات (العموريين البدو) من الغرب و(العيلاميين الاحوازيين من الجنوب)، حتى انتهت على يد (الغوتيين الجبليين) الذين تمكنوا من السيطرة على (سومر وأكد) لحوالي قرن. مات (سرجون الاكدي) عن عمر طويل جداً بعد حكم دام أكثر من خمسين عاماً. وأوضح دليل على عظمة هذا الملك انه اسمه بقي مقدساً لفترة 2000 عام، أي حتى نهاية بابل آخر دولة نهرينية. إذ حمل اسمه: (سرجون) عدة ملوك في آشور وبابل. والاكثر من هذا انه قد عُثر على مذكراته في نينوى مكتوبة بعده بـ (1500) عام، وقد صارت مرجعاً للكثير من الحكايات ومنها(قصة النبي موسى)([4]).

ثانياً - دولة الخليفة (علي بن أبي طالب: 656 ـ 660 م)([5])
ALI

وتكمن أهميتها الخطيرة، رغم قصر مدتها (أربعة أعوام) إنها شكلت نقلة معنوية كبرى إذ أعادت الامل الى العراقيين بامكانية إحياء دولتهم المنسية منذ أكثر من الف عام. حيث كانت قد انتهت تماماً بعد سقوط بابل على يد الاخمينيين الايرانيين في القرن السادس ق.م. واستمر العراق بلا (دولة وطنية بلادية) وخاضعاً بصورة متتالية لدول أجنبية ايرانية ويونانية([6]). وكان انتشار المسيحية في العراق خطوة حاسمة في التشكيل المعنوي الثقافي الديني للنهضة الوطنية العراقية([7]). حتى حسم الأمر مع الفتح العربي الاسلامي وبدايات بروز الدور العراقي.

وهنا تكمن أهمية هذه الخطوة التاريخية الكبرى التي قام بها (الخليفة علي) بنقل عاصمة الدولة الاسلامية الناشئة من (الحجاز: مكة) الى (العراق: الكوفة)([8]). واكتملت هذه الخطوة السياسية الادارية بخطوات معنوية وطنية تتمثل بتقريبه العراقيين سواء منهم العرب كذلك الانباط (السريان) واشراكهم في الادارة وفي جيشه وإعفائهم من ضريبة الجزية وغيرها([9]). وهنا يكمن السبب الاول لالتفاف العراقيين حول (الخليفة علي) وبعده عائلته، الى حد تقديسه بعد مقتله مع أحفاده([10]). بعد نهاية (دولة علي) خضع العراق للأمويين الشاميين لحوالي القرن، إستمر العراقيون بقيادة(التحالف العلوي ـ العباسي) في كفاحهم لتأسيس دولتهم، حتى النجاح بتحقيقها مع قيام الدولة العباسية في عام 750 م.

ثالثاً - الدولة العباسـية (750ـــ 1258م)([11])
ABBASID

وهي أهم وأعظم دولة عراقية منذ سقوط (بابل) التي انتهت قبلها بحوالي 1200 عام. وتكمن الأهمية العظمى لهذه الدولة، إنها تركزت في العراق ودامت خمسة قرون بعاصمتها العراقية (بغداد). علما بإن الدولة العباسية بعد مرور قرن على تأسيسها (العصر العباسي الاول) تحولت جغرافياً وسياسياً واداريا الى (دولة عراقية)، بعد استقلال جميع البلدان الاسلامية من افغانستان حتى الاندلس بدول خاصة بها. هكذا عملياً تحولت (الدولة وسلطة الخليفة) الى إدارة العراق وحده. ثم ان الانجاز العظيم لهذه (الدولة العراقية) انها أشرفت على خلق واحدة من أعظم الحضارات العالمية ألا وهي (الحضارة العربية الاسلامية) التي كان العراق أهم وأكبر معاقلها: بغداد والكوفة والبصرة والموصل. بل يصح القول بأن حوالي نصف المبدعين هم من العراق، والنصف الثاني من جميع البلدان الاسلامية.([12])

رابعاً - دولة داود باشا (1817ـ 1831)([13])  

IRAK_OTAMAN.png

رغم إن هذه (الدولة) لم تدم سوى 14 عام، إلاّ أنها تعتبر نقلة كبرى في مشروع الدولة العراقية بعد غياب كامل لستة قرون، أي منذ سقوط بغداد 1258. وقد فتحت الباب أمام العراقيين الى التفكير بإعادة إحياء دولتهم المنسية منذ قرون. إن (داود باشا) هو آخر ولاة المماليك الذين حكموا عموم العراق بولاياته الثلاث (الموصل وبغداد والبصرة). ولد في (تفليس ــ جورجيا) عام 1767 من عائلة مسيحية وقد باعه أهله وجُلب إلى (بغداد) وعمره حوالي ستة أعوام. وقد تعلَّم العربية والتركية والفارسية، واعتنق الإسلام. كذلك تعلَّم معارف البغداديين، وكتب الشعر، ثم أصبح مساعداً لوالي بغداد المملوكي (سليمان باشا) وتزوج من ابنته. وعندما أصبح قائداً للجيش عام 1814 شن الحملات لتأديب القبائل ومنعها من الغزو والتخريب خصوصاً في أنحاء الفرات. وحدَّ من نفوذ المنتفق وشيخها حمود. ووضع العسكر لحماية زوّار كربلاء من اعتداءات البدو والوهابيين. ومن ثم أصبح والياً بعد وفاة صهره. اشتهر خصوصاً بنزعته الاستقلالية العراقية، حيث كان متأثراً بتجربة والي مصر المقدوني الألباني (محمد علي باشا) الذي سبقه ببضع سنوات بإعلانه استقلال مصر عن الدولة العثمانية. فأعلن داود رفضه الخضوع للسلطان العثماني (محمود الثاني) ودفع الأموال له.

وقام بتشييد المعاهد العلمية ومصانع النسيج والمدارس والجوامع وقرَّب الأدباء والمثقفين([14]). كذلك قام بتشجيع التجارة والزراعة واعتنى بالري واهتم خصوصاً بالجيش واستقدم الخبراء الأوربيين منهم الضابط الفرنسي (مسيو ديفو) لتحديث الجيش والصناعة العسكرية. كذلك أسس أول صحيفة في بغداد بأسم (جرنال العراق) باللغتين العربية والتركية. لكنه كان في نفس الوقت قاسياً جداً في فرض الضرائب على التجار والعشائر، وأراد أن يفرض هيبة الدولة، فحارب العشائر العراقية المتمردة وأخضعها، مثل عشائر الدليم والمنتفق، لكنه واجه منذ بداية حكمه مشكلة (إمارة بابان الكردية) في السليمانية ومحاولات الاجتياح (الإيرانية القاجارية).([15]) وقد حصل توافق (بريطاني ـ ايراني ـ عثماني) على اسقاط دولة (داود باشا) لأنه ركّز الدولة الوطنية وضرب مصالحهم السياسية والاقتصادية([16]). هكذا ضعفت سيطرته وانشقاق حلفائه من الجماعات العراقية المختلفة، عشائرية ودينية، بالاضافة الى تكالبت الكوارث الطبيعية، فاضطر اخيرا الى الاستسلام لجيش (السلطان محمود الثاني) عام 1830. فأرسله السلطان شيخاً على الحرم النبوي في المدينة وقام بعدة اصلاحات هناك حتى توفي عام 1851.

خامساً - الدولة العراقية الحديثة (1921 ــ وحتى الآن)

IRAK DRAPO

وكان اول زعمائها (فيصل بن حسين الحجازي) إذ تم تنصيبه ملكاً على (بلاد النهرين: العراق). تكمن أهمية هذه(الدولة الحديثة) إنها نجحت باحياء الدولة العراقية بعد غيابها لسبعة قرون منذ نهاية الدولة العباسية في 1258. وكما العادة هنالك عاملان لنجاح قيامها واستمرارها: الداخلي المتمثل بتراكم وتنامي حاجة وادراك العراقيين بضرورة إحياء دولتهم التاريخية الخاصة بهم ضمن جغرافيتهم الطبيعية المتمثلة بـ(ارض النهرين). بالاضافة الى العامل الخارجي المتمثل بالاستعمار البريطاني ونهاية الدولة العثمانية. فبعد مماحكات وألاعيب كثيرة قامت بها (مس بيل) السيدة الإنكليزية الماسكة بالملف العراقي، أزيح المرشَّحَين العراقيَين: (طالب النقيب) من أعيان البصرة، و(الشيخ خزعل الكعبي البصري) أمير الأحواز. لكن رغم أن (فيصل) لم يكن عراقياً إلاّ أنه كان رجلاً حكيماً مثقفاً. قرَّب النخب العراقية من سياسيين ومثقفين ورجال الدين، وجهد من أجل إحياء (الهوية الوطنية) الجامعة. والعمل على توحيد العراقيين من خلال تقريب الشيعة والأكراد والتركمان والسريان واليهود والصابئة إلى جانب إخوتهم السنّة، وإشراك جميع الفئات في إدارة الدولة. علما بأن هذه(الدولة الحديثة) لا زالت حتى الان مستمرة رغم جميع التغييرات الشكلية:(ملكية ثم جمهورية، ثم فوضوية بعد 2003).

 المصادر:


[1]ـ هنالك تقديرات تقول إن الدولة الصينية ظهرت في أواسط الألف الثاني، في نفس الفترة التي ظهرت فيها (الدولة الحيثية في الاناضول) و(الميتانية في شمال النهرين وسوريا) بين (1600 ـ 1400 ق.م).

[2]ـ إن تاريخ (دول النهرين: العراق) طويل وقد حكمته سلالات مختلفة مع انجازات حضارية كبرى. فمثلاً إن دول (سومر) و(حمورابي) أو (آشور بانيبال) الخ، رغم أهميتها الكبرى إلاّ أنها تعتبر استمرارية لمرحلة واحدة رغم انقطاعها، ألا وهي (المرحلة النهرينية: العراق القديم). كذلك مثلاً (النظام الجمهوري بعد عام 1958) لا يمكن اعتباره نقلة كبرى بالدولة العراقية، بل استمرار بنفس الدولة المستقلة رغم اختلاف طريقة الحكم من ملكي الى جمهوري.

[3]ـ مكان (مدينة اكد) غير مؤكد. يترواح بين (قرب بابل) على الفرات، أو(مكان بغداد الحالية) على دجلة.

[4]ـ هذا مقطع من مذكراته التي عثر عليها منقوشة في آثار نينوى من القرن الثامن ق.م! وهذا دليل على استمرار تقديسه وتداول اسطورته طيلة تاريخ النهرين:

((أنا سرجون، ملك الأكاديين، ملك القوة. أمي قديسة، أبي لم أعرفه. أعمامي أحبّوا التلال. مدينتي أزوبيرانو (الزعفرانية)، الواقعة على ضفاف الفرات. أمي القديسة حملت بي، وولدتني في السر. وضعتني في سلة وغطت عينيّ بالقار وألقتني في النهر. التقطني «عكي» من النهر وهو يتناول إبريقه. اتخذني «عكي» ابناً له. ورباني عينني بستانياً لحديقته. وأنا بستاني، أحبتني عشتار. ومضت الأيام إلى أن صرت ملكاً لمدة 56 عاماً)).

طالع: ــ ويكيبيديا بالانكليزية والفرنسية: Sargon of Akkad

كذلك:

ــ Joan Goodnick - Westenholz, Legends of the Kings of Akkade: the texts, Winona Lake, Eisenbrauns, 1997, p. 37 - 49

ــ The land of the two Rivers. 63 - 64 Leonard Corttrell.

[5]ـ في 18 ذي الحجة سنة 35 هـ ــ 16/ 6/ 656 م تمت مبايعة (علي بن أبي طالب) خليفة بعد مقتل الخليفة الثالث (عثمان بن عفان). في 25 ذي الحجة 35 هـ ــ 23/ 6/ 656 م.

[6]ـ عن انتقال الخليفة علي إلى الكوفة: تاريخ الطبري 5/ 579.

ـ من المعلوم أن جميع المحتلين السابقين للعراق اضطروا إلى أن يتخلوا عن بلدانهم الأصلية ويجعلوا عاصمتهم في العراق: اليونان والإيرانيون اختاروا بابل ثم المدائن كعاصمة لهم. لكن هذه الدولة بقيت أجنبية ومحجوزة فقط لجماعاتها الخاصة بها، وتعامل العراقيين كتابعين مُحتلين.

[7]ـ عن أهمية المسيحية العراقية ابحث عن موضوعنا: نحو رؤية جديدة لتاريخ الاديان: مثال المسيحية والاسلام..

[8] ـ كما يصح أن يعتبر الشاميون والمصريون الخليفة معاوية والسلالة الأموية رمزاً إيجابياً لأنهم اتخذوا من الشام ومصر مركزاً للإمبراطورية العربية الإسلامية الصاعدة.

9ـ من علامات تودد علي الى العراقيين قوله الشهير: ((قال علي عن أصل قريش: «نحن قومٌ من كُوثى». أراد كوثى العراق.. وهي سُرَّةُ السَّوادِ من مَحالِّ النَّبَطِ..)) ابن منظور في لسان العرب:2/182

ـ (ويعني كوفة العراق: راجع لسان العرب ـ حرف الكاف).

[10] ـ عن رعاية الخليفة علي للموالي:

ـ كتاب الفتوح: جزء 4/ ص 149.

ـ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: جزء 7/ ص37ـ 42.

[11]ـ لنا دراسات مفصلة عن عراقية وحضارية الدولة العباسية: ابحث عن العناوين التالية:

ـ العصر العباسي العراقي.. ظالم.. أم مظلوم!؟ فضل العباسيين على الاسلام وعلى الشيعة!

ـ الدور العظيم والمنسي للعراقيين في صنع الحضارة العربية الإسلامية.

[12]ـ نفس المصدر السابق

[13]ـ عن الوالي داود باشا، طالع:

ــ داود باشا موسوعة الأعلام، خير الدين الزركلي 1980.

«داود باشا».. الموسوعة العربية، هيئة الموسوعة العربية، سورية ــ دمشق.

«داود باشا».. الموسوعة العربية، هيئة الموسوعة العربية، سورية ــ دمشق.

[14]ـ أصدر وقتها المؤرخ (عثمان بن سند البصري) كتاباً عن هذا الوالي الوطني أسماه: «مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود».

[15]ـ عن حروب العشائر الكردية وغزوات القاجاريين:

ــ علي الوردي ج: 1، ص: 253.

ــ ستيفن همسلي لونكريك (أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) ــ بغداد 1962 ــ ص245.

[16]ـ عن النفوذ البريطاني، راجع دراسة الدكتور علي مدلول الوائلي عن: رسالته: (شركة لنج للملاحة 1861 ــ 1914 ــ دراسة تاريخية).