يحق لمن يرغب ان يعيد نشر هذه القصة وجميع نصوص الموقع بشرط ذكر اسم الكاتب
  
هذه القصة جزء من رواية ( تاريخ روحي)  القصصية.
ولقد نشرت في الصحف قبل استيلاء داعش على نينوى بسنوات عديدة، وكأنها كانت تتنبأ بذلك. لاحظ ان البطلة "حواء" تمثل الموصل التي قتلها اعداء الوطن، ولكنها تبقى حية خالدة من خلال ابنتها واحفادها.
  وكان من المؤمل اخراج هذه القصة كفلم عراقي من قبل(عمانوئيل توما)، ولكن المشروع متوقف بسبب اعداء الوطن والوحدة الوطنية!!!؟؟؟؟؟
 
   
وداعـا يا نينـــوى .. مع حبــي الــى الابـــد

                                                        سليم مطر

  15

قررت زيارة بلادي بعد غياب أعوام في أوربا. صحيح إني كنت تواقًاً لزيارة أهلي ومرابع طفولتي في بغداد، إلاّ أن رغبتي الكبرى كانت أن أشاهد معبودتي (حواء).

رغم مرور حوالي الثلاثين عام، وتعرفي على نساء عديدات ثم حياتي مع زوجة طيبة، إلاّ أن صورة (حواء) بقيت دائماً حيّة في مشاعري. لم أحاول ولا مرة أن أتخيل متغيرات العمر عليها. كانت دائماً هي ذاتها في روحي. وجهها الطفولي ووجنتاها الورديتان وعيناها العسليتان وشعرها البني، لا تكف عن التوهج في خيالي ساعات الحنين إلى بلادي وأهلي. كانت (حواء) هي المصباح المتألق لماضٍ حزين مظلم. كم تحسرت في أعماقي لأني لا أستطيع أن أشاهدها مرة أخرى. كنت في كثير من الأحيان أنتبه لنفسي هامساً:

((آه لو ألتقيها مرة وحدة.. مرة وحدة بعمري.. مرة وحدة..))!

عندما وصلت الى بغداد، منذ اليوم الثاني بعد لقاء عائلتي، رحت أستفسر عن مصير حواء. أتاني الخبر اليقين بعد أن زرت أخيها الأكبر الذي لا زال يقطن في قصر العائلة الذي أصبح خراباً:

ـ هي تعيش في نينوى، في مدينة الموصل، مع زوجها التاجر وأبنائها الكثار.

لم أتجرأ أن أطلب من الأخ عنوانها ولا أية معلومة عنها تدلني عليها. فكرت ربما أحاول في زيارتي القادمة. لكن الزيارة صارت صعبة بعد أن وقع الأخ مريضاً.

يا إلهي من المستحيل أن أقاوم رغبة لقائي بحواء. أن أكلمها وأبوح لها بتعلقي الأبدي بها، وكيف أمضي عمري وأنا أنتظر لقائها. أبداً لم أحلم أن أستلبها من زوجها، ولا حتى أن أغازلها، بل أقصى ما أتمناه أن أراها، نعم أراها وأكلمها لا أكثر. بل أقبل أن أراها ولو من بعيد، من بعيد البعيد، حتى من دون كلمة. فقط أن أراها لا أكثر، ثم أتركها لحالها وأعود محملاً بكنز رؤاها، مثل مهاجر يحمل تربة بلاده إلى موطن غربته. هنالك في هجرتي الأبدية، سوف أزرع ذكرى رؤاها، نخلة في روحي.

بعد معاناة وانتظارات وترددات اتخذت أخيراً قراري:

أن أسافر إلى نينوى، من دون أي أسم أو عنوان. قلت:

إن كان قلبي صادقاً في حبي لحواء، فإنه يقيناً سوف يدلني عليها. وإذا لم ينجح بذلك، فحينها سوف أقتنع بأن حبي لها كان محض أوهام مرضية لا تستحق كل هذا العناء..

                                                                   *   *   * 

قبل سفري إلى الموصل نصحوني بأن أخفي هويتي الأجنبية، فالمغترب أكثر عرضة للمخاطر والانتقام والخطف. تدبروا لي هوية عراقية مزورة، وأخفيت في بطانة سترتي جوازي الأجنبي.

هذه المرة الأولى التي أزور فيها هذه المحافظة. تخيلتها كثيراً من صورها وما قرأته عنها. سكنت في فندق، مدَّعياً بأني أستاذ قادم من بغداد كي ألتحق بعملي الجديد في الجامعة. قررت أن أمضي هناك أسبوعاً واحداً فقط، وإذا انتهى الأسبوع من دون نتيجة، سوف أرجع إلى بغداد كي أعود إلى مأواي في أوربا وأنا مرتاح قانع بأن قلبي كان طيلة أعوام وأعوام يعيش الوهم.

ابتهجت عندما وجدت فندقي قريباً من (مرقد النبي يونس)، أشاهده من نافذة غرفتي، معتبراً ذلك علامة خير. فكنت كثيراً من الأحيان أمرق على الجامع لأتأمل البناء وقبته ومئذنته، وأراقب الناس الذين لا يكفّون عن الازدحام للصلاة حتى في أوقات حظر التجوال والتفجيرات والاغتيالات التي لا تنقطع.

عادت لي ذكريات الوقائع العجيبة في حكاية (النبي يونس) التي تعلقت بها في طفولتي، ذلك النبي الطيب الذي لم يؤمن به أهل نينوى وما صدقوا نذيره لهم. يأس منهم فهجرهم، ثم اضطر أن يغرق نفسه في البحر ليكفر عن خطيئة تخليه عنهم. لكن الله أوحى للحوت بابتلاعه وحفظه في باطنه حتى أنزله حياً على الأرض. بعدها رجع إلى أهل نينوى الذين عادت الرحمة إليهم بعد عقاب الرب والخراب الذي حلَّ فيهم.

كنت في كل صباح قبل أن أغادر غرفتي، أغمض عيني، وأخاطب نفسي:

ـ يا قلبي إذا كنت صادقاً فعلاً في حبك الذي شغلتني به كل هذا العمر، قدني إلى محبوبتك.

ثم أترك قلبي وأقدامي تقودني في دروب نينوى.

لم أدع بقعة من المحافظة إلاّ وزرتها. أحياء مدينة الموصل، والبلدات البعيدة المنتشرة بين جبال الشمال وبوادي الغرب. كنت وحيداً أتجول محمياً من قلبي رغم كل الحواجز والمخاطر وعمليات الخطف والتفجير التي تبث الرعب في نينوى كلها.

في كل مرة كنت أعود إلى فندقي، أشكر قلبي لأنه قادني في دروب السلام. لكنه ما توقف عن تذكيري بأن أيام الأسبوع تمضي وما زال لم يدلَّني على محبوبتي.

طيلة الليالي الستة ما توقفت عن عودتها تلك الأحلام القديمة المنسية التي امتلكتني السنوات الطوال في غربتي ثم تلاشت مع الزمن. أجد نفسي خائفاً تائهاً في شوارع الوطن التي يملأها رجال غرباء مدنيون وعسكريون مدججون بأسلحة ونظرات ترعد بموت يسألون الناس عن هوياتهم. وفي كل مرة كنت ألجأ إلى الهرب واللهاث في أزقة الوطن وعيون الحراس تطاردني، وأنا أجهد لإطلاق صرخاتي المكبوتة بحثاً عن هويتي الأصلية التي لم أدرِ أين فقدتها. وكالعادة مهما اختلفت تفاصيل المشاهد ووجوه الناس والحراس، فإن الحلم كان ينتهي باختناقي وأنا أغرق وأغرق في بحر هائج يسطع بزرقة لا زوردية تمتزج بسماء بنفسجية نحاسية وغيوم بيضاء سوداء..

 

                                                                 *   *   * 

ها هو اليوم الأخير يحل. إنه يوم جمعة وقد قررت أن أغادر نينوى إلى الأبد. ها أنا أكتشف خداع قلبي الساذج. تركت حقيبتي في الفندق على أمل العودة ظهراً بعد ترتيب أمر تأجير السيارة التي ستقلني إلى بغداد.

كان صباحاً متوهجاً بخضرة ربيعية شقراء تنتشر في الأنحاء. عادت إليَّ صور ذلك الحلم المتكرر الذي ظل يزورني طيلة الليالي السابقة. لكني انتبهت أن هنالك خاتمة جديدة مختلفة ظهرت لي في الليلة الفائتة. حاولت كل مستطاعي أن أستعيدها، لكني فشلت..

بقيت أسير متمهلاً محاولاً تذكّر الطريق الذي يقودني إلى الكراج. ها قد تكشَّفَ لي بأن كل آمالي بلقاء معبودتي كانت محض أوهام بأوهام:

((آه لو تعرف يا قلبي كم أنا خجل منك لأنك قد خدعتني طيلة هذه الأعوام. ها هو يومنا السابع والأخير وقد حل دون أن تدلَّني على التي ما كفت نبضاتك تهمس باسمها منذ أزمان)).

كنت أحس بمشاعر مترددة بين خيبتي لعدم بلوغ مرادي وتحقيق حلم حياتي، وارتياحي لتحرري من وهم أثقل عليَّ طيلة عمري. تارة أعاتب قلبي لأنه ظل يخدعني طيلة تلك الأعوام، وتارة أشكره لأنه أخيراً كشف لي عن وهمي.

بقيت أمشي عن غير قصد غارق في تأملات عابرة وخيالات وأفكار تزدحم في روحي. إذا بي أنتبه إلى أني قد أضعت طريقي. وجدت نفسي في حي أنيق تنتشر فيه بيوت غنية قديمة الطراز تشبه (منطقة السعدون) في بغداد حيث كان بيت (حواء).

كان الوقت يقترب من الظهيرة وشمس الربيع تزداد سطوعاً وحرارة، فبدت الدروب خالية إلاّ من بعض المارة. فجأة لم أدرِ كيف انبجست ذكريات صباي، أيام كنت ألوب مثل ذئب جريح بحثاً عن أية فرصة للقاء محبوبتي. يا إلهي إنها ذات الأحاسيس وكأني لا أزال كما أنا في عز فتوَّتي. آه من جدار الفقر العملاق الذي كان يقف شامخاً مثل جبل أمامي يفصلني عن أميرتي القاطنة في قصرها الاسطوري.

هنالك في البعيد بدا في نهاية الشارع الفرعي قصر ضخم يشبه إلى حد بعيد ذلك القصر الذي كانت تعيش فيه (حواء) أيام زمان. رحت أقترب دون أن أتجرأ على إظهار تحديقي المبالغ خشية أن أثير الشكوك والمشاكل.

فجأة رأيت فتاة شابة تخرج من هناك بصحبة صبي. كانا يتجهان نحوي. بدت الشابة مثل كل النساء في هذه الفترة ترتدي ربطة على رأسها وثياب طويلة وقورة. كلما اقتربت، بدت ملامحها تتكشف عن حقيقة مذهلة لم أكن حتى أن أتجرأ على الحلم بها:

إنها حواء.. نعم حواء نفسها كما تركتها منذ ثلاثين عام! حتى صوتها الذي سمعته وهي تنادي الصبي:

ـ تعالَ عيني.. امشي..

جفلت لأول وهلة معتقداً بأنها تخاطبني. استعدت توازني عندما أدركت إنها كانت تعني الطفل. يا الله هو نفسه ذلك الصوت الرنّان بأنغامه الطفولية وصداه المعدني مثل ناقوس صغير. كم بدت غريبة في تلك الربطة السوداء التي كانت بالكاد تخفي خصلاته. يا له من انعكاس خلاّب بين السواد والشقرة:

((كيف حصل هذا؟ إنها هي ولا يمكن أن أخطأها إطلاقاً. من الممكن أن أشتبه بكل الناس حتى بأمي وأبي، بل وحتى بنفسي، لكني أبداً لن أشتبه بحواء. رسمها محفور في كل خلية من كياني. أدرك وجودها حتى من بين مليون امرأة. لا زالت هي نفسها برشاقتها ومحياها الطفولي الباسم رغم حزن عجيب طاغ))!

كدت أن أصرخ بها:

((حواء.. حواء.. أما تتذكريني.. أنا صديق صباك، أنا الفتى المعتوه الباحث عن رضاك.. أنا الطيب، أنا الحالم، أنا المعذب بجفاك))..

لكني تمالكت نفسي متذكراً حالي والوضع الذي أنا فيه. شعرت بنار شعواء تلتهب في أحشائي. ألسنتها ذكريات وذكريات عشتها طيلة سنوات صباي. كنت في عز شغفي مثل غريق أتحين أية فرصة كي ألتقط حتى لو لحظة واحدة أتمكن بها من مشاهدة حواء، أن أقترب منها، أكلمها. لكن مانع الفقر كان لعيناً جباراً مثل وحش جهنمي يحرس بوابة النعيم:

((يا الله كيف الآن بعد كل تلك الأعوام وأنا رجل ناضج، أعيش ذات المعاناة، متردد ضعيف أمام ذات الموانع التي ظلت تحرمني من الاقتراب من معبودتي. يا الله رحماك، أنا أبداً لا أبتغي أي حرام، فقط أكلمها لا أكثر، أبوح لها بشجون حبي المخبوء في أعماق روحي مثل جمرات تحت رماد. حواء أنت ملاكي، أنت أختي وابنتي ونبع حناني. يا رب اغفر لي كفري بك وتمردي عليك في أول شبابي لأنك لم تساعدني في حبي لها. أنا الآن رفيقك الوفي، أناجيك مثلما أناجي صديق حنون. رحماك يا إلهي ساعدني هذه المرة ولبّي دعوات حبي. وأنت يا قلبي الملتاع المرتجف، أرجوك اهدأ قليلاً، ما لي أراك تعود لخفقان صباك، كما كنت أيام حبك المعذب. اطمئن يا صغيري، ثق بي، فأنا لم أعد ذلك الفتى المعتوه، ألا تراني أمامك قد أصبحت رجلاً مجرباً بعد تلك الاعوام الطوال من الشوق والانتظار. أرجوك اهدأ اهدأ، ودعني أرى دربي))...

انتبهت إلى حواء قد مرقت وصارت خلفي، وعليَّ أن أعود إليها.

توقفت حائراً، ولم أتجرأ أن ألتفت. بقيت، تارة مستمراً بسيري، وتارة أتوقف، ثم أسير، حتى اتخذت أخيراً قراري أن أعود وأنا أصطنع حركة توحي وكأني قد تذكرت شيئاً. أخرجت أوراقي كما لو كنت أبحث فيها، وأنا أتقدم خلف معبدوتي والصبي الذي معها.

دون شعور، وجدت نفسي أعود لدور قديم قد نسيته تماماً في أوربا:

((آه، ها أنا أتبع فتاة.. أية لذة وإثارة في متابعة المحبوب. تجتمع فيها كل ملذات التوق والتحدي والترقب مثل طفل قلق يخشى على سلامة أمه)).

سنوات المراهقة أمضيتها وأنا أتبع حواء أثناء ذهابها وعودتها من المدرسة، وأثناء خروجها مع أخواتها. لم أنس محاولاتي الفاشلة أن ألتقط لها سراً صورة أحتفظ بها قرب قلبي. أتفقت مع صديقي الحميم (عماد التلكيفي) وأستأجرت (كامرة) وأختبئت وراء إحدى أشجار (بارك السعدون) وألتقطت لها خفية صورة أثناء عودتها من المدرسة. لكن الصورة ظهرت خالية، وكان من الصعب تكرار المحاولة.

ابتسمت ساخراً من نفسي:

((أأتجرأ الآن أن ألتقط صورة لها؟ أيسمح لي عمري بمثل هذه الخطوة الصبيانية. شكراً لك يا قلبي لأنك قد قدتني إليها. أعرف الآن أنك أبقيتني طيلة الأيام الماضية، كي تهيأني لتقبّل هذه الحظوة التي لم أحلم بها. اعذرني لأني لمتك، يا قلبي ومنبع حبي.. هاهي معبودتي لا زالت كما هي شامخة زاهية مثل بستان. آن الأوان يارب أن تنفخ في صورك العظيم لتبعث الروح في جثمان حبي. وأنت ياطائر العنقاء انطلق من أعماق قلبي وحلق في أعالي الأكوان وخذني هناك بعيداً بعيداً نحو جلال الرحمن))..

                                                                    *   *   * 

لم أدرِ كم أمضيت من أزمان وكم اخترقت من دروب وأنا أتبعها مثل بدوي مسحور بسراب جنان. إذا بي أخيراً أنتبه فجأة إلى أني في مقبرة؟!

رأيت حواء جاثية والصبي جنبها يلوب حائراً. لم أفهم أول الأمر ما يحصل، واحتجت إلى بعض الوقت كي أدرك أنها أمام قبر. رأيتها تخرج من حقيبتها قطعة قماش وتنظف ظاهر القبر، ثم تضع بضعة شموع وتشعلها. وشرعت تردد صلوات وأدعية وهي تبكي. جزعتُ وكدتُ أن أتجه إليها لأشاركها حزنها:

((أوه يا عيني يا روحي ليش تبكين.. أرجوك كفي عن النحيب.. ترى دموعك حمم لهيب تجري في صدري.. أرجوك يا حواء أرجوك..)).

لمحت من بعيد صورة معلقة على شاهدة القبر. حاولت أن أقترب كي أراها، لكني خشيت أن أجلب انتباهها. ما الذي يمنعني أن أكلمها؟ يا الله كم أنا خائف. لم أحسب أبداً بأني هكذا أعود من جديد إلى ذات المشاعر الجياشة القلقة القديمة، التي ظننت إني قد تخلصت منها إلى الأبد أثناء حياتي في أوربا.

هبت ريح وشرعت السماء برش رذاذ مطر، فانطفأت الشموع وشرع الصبي بالعويل، وحواء لا زالت تصلي وتبكي، بينما كنت جاثماً متكوراً كحيوان برّي بين القبور. مشاعر جياشة كانت تتلاعب في روحي مثل ريح تعصف في قصر مهجور. وفي اللحظة التي قررت فيها أن أتجه إليها، رأيتها تنهض وتمسك يد الطفل وتركض متعثرة بين الصخور.

بقيت حائراً متردداً أن ألحق بها أو أتجه الى القبر لمعرفة هويته. حينما حسمت أمري ونهضت راكضاً لأشاهد الصورة بسرعة ثم ألحق بفتاتي، تعثرت رجلي وسقطت على الأرض وارتطم رأسي بحافة القبر. شعرت بوجع في جبهتي وقد سالت دمائي على التربة. لم أستطع أن أمنع عيناي من النظر إلى تلك الصورة، فكانت صدمة ما بعدها من صدمة.

شاهدت وجهاً مألوفاً لأمرأة! إنه مألوف إلى حد بعيد بعيد مسَّ شِغاْفْ قلبي وأشعل نيراناً في أعماقي. من هي هذه السيدة؟ إني أعرفها بكل يقين.. لم أصدق، رحت أزحف كي أتيقن، لكني كنت أحدس بمصيبة:

((رحماك يا ملائكة الرحمة والمحبة، رفرفي عليَّ واجعلي نسمات الصبر تهب على قلبي الحائر. أحس قواي تنهار وكياني يرتعد))..

نعم إني بكل يقين أعرف هذه السيدة!

زحفت أكثر وأكثر وأنا أدعوا كل قوى الكون الطيبة أن تعينني لأدرك خطأ ظنوني.. لا.. لا إنها هي.. لم أدرك كم مرة ومرة ومرة قرأت العبارة المكتوبة تحت الصورة:

حواء القادر (1956 ـ 2007) استشهدت في حادث تفجير......

((مستحيل.. يقيناً إني واهم. كيف يكون هذا قبر حواء، وأنا كنت أراها بعينَي هاتين منذ لحظات. هنالك خطأ ما. ما زالت حواء حيَّة شابة خالدة هنا في قلبي.. هنا في نينوى.. هنا في هذه الدنيا. حواء حية، نعم إنها حية)).

امتزجت دموعي ودماء جبهتي بقطرات المطر وأطيان المقبرة.

دفعت القبر عني كأني أريد أن أتخلص من تلك الحقيقة المرعبة التي تواجهني. قمت مثل ميت ينهض من تابوته، ورحت أركض وأركض، هارباً من حواء القديمة الميتة، عسى أن ألحق بـحواء الحية الشابة والصبي الذي معها. لاح أمامي نهر دجلة فياضاً نحاسياً متوهجاً بحمرة شفق وغيوم حبلى برعود وبروق. حينها فقط تذكرت ذلك المشهد الجديد الذي اخْتُتِمَ فيه حلم الليلة الماضية:

بينما كنت أغرق كالعادة في تلك الأمواج العاتية، ظهر لي من الأعماق كائن جبار عجيب.. إنه يشبه.. نعم.. بل كان هو ذاته.. الحووووت!

 

                                                                     *   *   * 

وداعاً يا نينوى.. وداعاً.. بعيون دامعة أودعك قلبي ومأوى حبي..

يا زهور الربيع أنبتي على تربة ذكراي وانتثري في بساتين شبابها الأبدي..

يا عصافير الحب غرّدي في ليالي وحشتها وأسمعي قلبها أغاني عشق مؤجل..

وأنت ياشمس، بددي بأنوارك ظلمات عزلتها، ولتتوهج بك دروبها أينما سارت.

وأنت يا يونس، يا أخي، يا نبي تقي، انهض، اخرج من حوتك، وانثر دعواتك..

اسند منارتها الحدباء، واجعل دجلتها غزيراً بحب ومياه..

وداعاً وداعاً يا موطن قلبي..

وداعاً يا حواء..

وداعاً يا نينوى.. مع حبي إلى الأبد..