هذه القصة جزء من رواية( تاريخ روحي ) القصصية.

                   قصة: السيدة الخرساء وقصر العزلة

سليم مطر ـ جنيف

18

في أثناء زيارتي لبلادي في نهاية عام (2004)، بعد غياب إجباري دام بالضبط (25) عاماً، سرد لي صديق هذه الحكاية العجيبة وقد عايشها هو عن كثب، ولم يخطر ببالي أبداً أن أعايشها أنا بدوري وتقع خاتمتها على رأسي!

كان هذا الصديق ولنسمه (ص) من معارفي القدماء أيام شبابي الأولى قبل هجر الوطن. علاقتنا بدأت أوائل سبعينات القرن الماضي، في أثناء نشاطنا في أحد الأحزاب اليسارية. أتذكر أننا في أثناء حملة الحكومة ضد اليساريين أواخر السبعينات، اتفقنا على الهرب من الوطن سوياً، لكنه ظل متلكئاً خائفاً حتى ألقيَ القبض عليه، بينما بقيتُ أنا مختفياً فترة، إلى أن تمكنتُ من هجر الوطن نهاية عام (1978). ومنذ ذلك الحين انقطعت الاتصالات بيننا، لكني سمعت أنه قد خرج من السجن بعد أشهر؛ حيث وافق على الاعتراف والتوقيع على تخلّيه عن حزبه، ثم أصبح عضواً في حزب البعث، وتدرَّج في التنظيم وتقلَّد مسؤوليات عديدة في الأجهزة الإعلامية. كنت أتابع أخباره بين حين وآخر؛ إما من خلال أصدقائنا القدماء، أو من خلال نتف الأخبار الصحفية التي كانت تنشر صورته كمسؤول إعلامي وحزبي مهم. في أواخر أعوام التسعينات، سمعتُ أنه هجر العراق والتحق بالمعارضة. حاولتُ كثيراً الحصول على وسيلة للاتصال به في الخارج، لكني لم أنجح. سمعت أنه كذلك كان يبحث عني، وكدنا أن نلتقي يوماً في عاصمة عربية، لكن سوء الصدف حالت دون ذلك.

وأخيراً تم الأمر بعد سقوط النظام؛ حيث اتصل بي من بغداد ليخبرني أنه قد عاد إلى الوطن مع المعارضة؛ ليتقلد من جديد نفس منصبه الإعلامي السابق، لكنه هذه المرة كان ينطق بخطاب جديد عن (الديمقراطية وحقوق الانسان وجيوش الحلفاء)! أصر على دعوتي للالتقاء به في زيارتي القادمة إلى الوطن.

ها أنا ألَبّي دعوة صاحبي (ص)؛ لأستعيد معه ذكريات ماضينا المشترك. بعد أيام من عودتي، عندما كنت جالساً معه في أحد مطاعم بغداد، فجأة لكزني قائلاً:

ـ شوف هذا الرجّال، شوفه قبل ما يروح.

عندما نظرت بالاتجاه المقصود، لمحتُ رجلاً طويل القامة يرتدي معطفاً أسود غالي الثمن رغم الإهمال الذي عليه. بدا شعره سرحاً كثيفاً يلمع بشيب فضي جذاب تشوبه القذارة. له شارب رقيق منمق، ووجهه شاحب بصفرة مرضية حادة مليئة ببقايا جروح لم تلتئم بعد، وشارب فضي رفيع أنيق يناسب بشرته البيضاء بذلك اللون الحليبي الذي يتسم به أبناء الطبقة العليا الذين لم تمس بشرتهم الشمس. عيناه بدتا من وراء النظارة الطبية تعبتان متورمتان رغم ألَقْ عتيق وبقايا نظرات جريئة وقحة. لم أستطع أن أقدّر عمره، لكنه يظهر في الخمسينات. من الواضح أنه كان في زمانه نجماً وسيماً من أبناء المجتمع الراقي، رغم الانحطاط الصحي والنفسي البادي عليه.

بعد المطعم لبَّيتُ دعوة صاحبي (ص) لتمضية تلك الليلة في بيته الواقع في أطراف بغداد، على أمل الاستماع إلى حكاية ذلك الرجل الذي ظلت صورته عالقة في ذهني لسبب لا أعرفه.

فوجئت أن بيت صديقي ما هو إلاّ قصر شامخ في وسط بستان شاسع كثيف مطل على نهر دجلة. طيلة الليل وحتى إطلالة الفجر، رحت أستمع إلى تلك الحكاية ونحن مستلقون في إحدى غرف القصر مفترشين أبسطة الحرير، وقربنا مدفئة غازية تمنحنا الدفء في برد كانون القارص. رغم أن (ص) قد أصبح متديناً يصوم ويصلي، إلاّ أنه ظل متسامحاً في الكثير من الأمور؛ فقد فتح أمامي صندوقاً في الحائط كان عبارة عن (بار) يحتوي على عدد كبير من قناني المشروبات الكحولية الأجنبية والراقية جداً، وهو يخاطبني مبتسماً:

ـ يا عزيزي، مثلما تعرف آني والحمد لله متوقف عن الشرب، لكني أقدر أمزمز وياك شوية، احتفاءاً بلقائنا التاريخي. أرجوك، اخدم نفسك مثلما يعجبك.

فوجئ عندما أخبرته أني متوقف تماماً عن الشراب والتدخين لأسباب صحية؛ ولهذا اتفقنا على تناول الماء والشاي. فظلَّت طيلة المساء والليل تعبق في المكان نكهة الشاي العراقي المعطر بالهيل، مع أنواع الحلويات.

لولا ثقتي بصديقي (ص) ويقيني بأنه يقول الحقيقة التي سمعها وعرفها، لما صدقت قصة ذلك الرجل الغريب الأطوار المدعو (س) مع تلك السيدة الغامضة العجيبة، اسمعوا إذن هذه الحكاية:

السيد (س) كان شخصية مرموقة أيام البعث، مهنته الحقيقية هي (السمسرة)؛ أي بصورة أدق (تاجر غواني)! ولكنها تظل مهنة كان معروفاً بها في وسط ضيق، أما في الوسط العام فكان يشتهر بصفات أخرى أكثر احتراماً: مثقف ذائع الصيت، حزبي كبير، رجل أعمال بارز، مسؤول دولة مهم، وهي مهن قد زاولها حقاً، لكن مهنة (السمسرة) تبقى هي المهنة الحقيقية الثابتة والأصيلة التي زاولها رغم سريتها وكتمانها عن عموم الناس.

من الواضح أن (س)، بعد سقوط النظام السابق، يعيش شتاء حياته بعد أن تبدد مجده مع تبدد الدولة التي رعته. لكن المقربون منه يعرفون أن عذابه لم يكن لهذا السبب وحده، بل بسبب آخر مَسَّهُ في الصميم من روحه، ألا وهو فقدانه لأعز إنسانة على قلبه، تلك (المرأة الخرساء) التي بغيابها فقد كل أسباب البقاء في دنيا صارت غبراء لا يذوق منها غير مشاعر حسرة ونقمة وعار. كل الذي أصابه بعد الاحتلال من تدمير قصره واغتصاب أملاكه وحرمانه من جاههُ وسلطانهُ وتشريدهُ وتحويلهُ إلى حطام إنسان، كل هذا ما كان يهمَّه ولا آلمه، لو أنهم تركوا له تلك (الخرساء)!

كان لقائه بها قد تم في ظرف خاص جداً. بعد حرب الكويت في يوم ربيعي من عام (1991)، كان (س) في زيارة شخصية لصديقه (ن) مدير شعبة مكافحة التجسس في دائرة الأمن العامة. عند باب المكتب لَمَحَ صاحبنا سجينة تمرق من أمامه خارجة وهي مكبلة المعصمين يقودها شرطي. هكذا خطفت ومسته بلا اهتمام. خلال لحظات قابل وجهه وجهها فتقابلت نظراتهم. شعر حينها خلال زمن قد لا يتعدى ثانية واحدة، أن برقاً قد توهج في روحه. لا يدري ما الذي أثاره فيها، لعلها نظراتها، رغم سكون ووجع ظاهر عليها، إلاّ أنه خلال تلك اللحظة أحَّس فيها وهجاً من كبرياء. دون وعي منه زفر وكاد يصرخ بها، إلاّ أنه سخر وتمالك غضبه. ظاهرياً لم تكن تتميز بأي خصلة تجلب الانتباه. كانت امرأة عادية، يمكنك أن تجد ملامحها في الكثير من نساء العراق؛ وجه حنطي، وعيون عسلية، وشعر حني، وقامة تميل إلى الطول.

خلال لحظات، تناسى (س) المسألة عندما انطلق صديقه المدير بضحكته العالية المرحبة، وهو يترك مكتبه ويتقدم ويحتضنه. رغم بعض الهاجس الذي كان يتردد خافتاً مكبوتاً في صدر (س) ويدفعه إلى السؤال عن شخصية تلك المرأة، إلاّ أنه سرعان ما انغمر في لجَّة الحديث مع المدير الذي كان ذا شخصية مزاجية متقلبة. تراه في نفس الوقت يمتلك طاقة غضب وحقد تجعله ينهار على المعتقلين تعذيباً حتى الموت، فإنه سرعان ما يستريح ويتناول الهاتف ليلاطف ابنته المشلولة ويبث كلمات حنان لزوجته، ثم ينادي أحد مساعديه الجلاّدين ليسأله عن أحوال عائلته ويساعده في حل مشاكله ويشاركه في أحزانه!

أمضى (س) زيارته العادية إلى صديقه وعاد إلى الدار، لكن الليل عندما يحل يصيب التعب حراس العقل فينسحبون تاركين خبايا النفس تنهض من أعماق سجنها لتجول في كيان الإنسان على هواها. لقد عاف النوم السيد (س)، أول الامر لم يفطن إلى السبب، ثمة مشاعر غامضة بدأت تبعث في دواخله كآبة ثقيلة، حنين إلى مجهول وتأنيب ضمير إزاء خطايا منسية، بقي يتقلب مثل محموم، وسط العتمة رأى على السقف وجه تلك السجينة مرسوماً بظلال وخيوط ضوء. حاول أن يسخر من الأمر:

((أنا الرجل العابث القابض بكفي على حشود نساء من مختلف الأشكال والأجناس وأجهل حتى أسماء الكثير منهن، كيف لسيدة مجهولة سجينة عادية وضيعة أن تحرمني من نومي))؟!

سيدة لم يشاهدها أكثر من لحظة واحدة، مَرَقَتْ مثل برق خاطف لا يمكنه أن يترك أثر في سماء روحه. قال: لعله في الحقيقة غاضب من ذلك الكبرياء الكامن في نظرتها الخاطفة، أو ربما من تجاهلها له، أو ربما من ذلك السكون الواثق الذي تنطق به ملامحها!؟ لكن الوجه راح يتكرر في أنحاء الغرفة، على السقف وفوق الجدار وحتى على الأرضية. وعندما أغمض عينيه انبثق في داخل رأسه وجه نسوي حنطي عادي، أليف قريب إلى القلب، عينان عسليتان متوهجتان مثل نجمتين، أنف منساب مثل درب، شفاه نحيفة بليلة مثل ساقيتين، أما شعرها فقد غمر وجهه بمويجات نسيم ساحر انساب في دمه.

ها هو السيد (س) وحيد على سريره وسط ظلام قصره، كطفل مهجور مرتعش منكمش على نفسه! لم يكن أمامه غير أن يترك غرفته ويجلس في الشرفة. كان بيته الذي يسميه (قصر العزلة) في منطقة (ج) في أطراف بغداد. على مرتفع يطل على نهر (دجلة) محاطاً ببساتين نخيل وحمضيات كثيفة، وأمامه عند الضفة المقابلة تمتد مزارع حنطة وعبّاد شمس خلال عدة أميال لتنتهي ببادية على مدى البصر. في عتمة تلك الليلة البليلة بضياء بدر وهّاج بين نجوم.. هناك لاح وجه السجينة!

أمضى السيد (س) ساعات في الشرفة مع السكائر والخمرة، وهو كئيب قلق غاضب حائر. لأول مرة بعد غياب طويل، تعود إليه تلك المشاعر التي طالما عانى منها وَمَقَتَهْا، ونجح في التخلص منها في الأعوام الأخيرة: مشاعر عار وإثم؛ لأنه لم يهتم بمعرفة مصير تلك السجينة!

كيف أتيح لتلك المرأة النكرة أن تغزوه هكذا في عقر روحه؛ تحرمه من نوم وسكينة؟!

راح يلوم نفسه؛ لأنه لم يرد عليها، كان على يقين أنه لو عنَّفها، ودفعها احتقاراً، أو على الأقل نظر إليها شزراً، لما تسربت إليه مثل هذه المشاعر المتعبة.

                                         *   *   * 

فجأة انقطعت الحكاية مع انقطاع الكهرباء وانتشار الظلام في الغرفة وفي أنحاء القصر. عندما قام صاحبي (ص) ليجلب المصباح؛ قمت أنا وفتحت الشباك لأتطلع في ظلمة الخارج. كان الصمت يخيم على البستان ولا تتخلله غير أصوات مويجات دجلة القريب وزقزقة حشرات وهفيف خافت لسعف نخيل تتلاعب به الريح. عدت الى مكاني بعد أن عاد صاحبي ومعه مصباح غازي نوَّر المكان، وهو يعتذر عن عطل (مولدة الكهرباء) الخاصة بقصره، بسبب المطر، ثم افترشنا الأرض وعاد إلى حكايته:

قبل أن تستغرب معنى تأثر (س) بنظرات كبرياء خاطفة أطلقتها سجينة مجهولة، وخصوصاً وهو في مهنة أشد ما تكون بعيدة عن العواطف الرقيقة ولا مشاعر الكبرياء. يجب أن نعرف أن السيد (س) رغم أنه (سمسير) محمَّل بخطايا مهنته التي لا تعد ولا تحصى، أقلها الكذب وأكبرها الإسهام بجرائم اغتصاب وتعذيب وقتل، لكنه أيضاً امتلك ما يكفي من الثقافة والذكاء ما يجعله قادراً على فلسفة مهنته؛ بحيث إنه كان يعدَّ نفسه، إن صح القول: شريفاً!

يقيناً إن هذا الوصف يدعو إلى السخرية، لكنه حقيقي؛ فهو يعدُّ نفسه شريفاً؛ لأنه أحب مهنته وجهد لإتقانها والإبداع بها، بصورة لا تخطر على البال. ثم إنه لم يشعر في حياته أنه ضحية، بل على العكس فإنه يعدُّ نفسه أشبه بطبيب مشرف على علاج ضحايا، كما كانت تردد إحدى بناته (نقصد إحدى الغواني العاملات معه):

ـ ((إحنا أبداً مو مرضى ولا نستحق الرعاية والعطف، المرضى الحقيقيون اللّي يستحقون الرعاية والعطف هم الرجال اللّي يعانون الكبت والحرمان فيجون إلنا إحنا ممرضات اللذة؛ حتى نعطيهم ما عندنا من علاجات.. أي عيني.. السمسار طبيب لذة وإحنا البنات ممرضات علاج طبيعي، وزبائننا مرضى حرمان وكبت))!

باكراً في الصباح توجه (س) إلى دائرة الأمن، وجد صديقه المدير متعباً قليلاً وقد انتهى تواً من وجبة تعذيب صباحية قبل الفطور. سرد عليه بكل صراحة حكاية أرَقَهُ وعذابات ليلته. ضحك المدير كثيراً وهوَّن عليه، وأبدى استعداده أن يمنحها إليه لساعات؛ ليفرغ فيها غضبه وشهوته. تلكأ (س) ولم يدر بماذا يجيب. يقيناً إن المسألة لا يمكن أن تتعلق بهيجان جنسي؛ لأنه بكل بساطة منذ أعوام طويلة مصاب بـ (عجز جنسي)، وقد نجح بإخفاء هذا السر حتى عن أقرب أصدقائه. لعله كان راغباً بالانتقام منها وإذلالها، لكن مشاعراً لعينة بالإثم ظلت تجول في أعماقه، وهذا أمر لم يتعوده منذ سنوات طويلة، منذ أن تخلّى عن ماضيه الوضيع ودخل عالم المجد والسلطة!

عندما لاحظ المدير تردد (س) اقترح أن يقدم إليه ملفها؛ لكي يطَّلع عليه براحته ثم يقرر موقفه منها. ثم بكل رحابة صدر تركه وحده في المكتب يتصفح إضبارتها التي كان أقل ما يقال عنها إنها (عجيبة)!؟ لا بد إنها كانت قد تعرضت لعبث وتمزيق، فالتقارير التي لا تحصى المكتوبة عن هذه السيدة السجينة، تبدو متناقضة وبلا منطق، كأنها كتبت من قبل أشخاص من كل الأجناس والمهن والأعمار، وفي حقب مختلفة. ليس هنالك تقرير واحد يجزم بحقيقة هوية هذه المرأة؛ فكل تاريخها وأصلها مجهول، بل لا أحد يعرف حتى اسمها، وقد أطلقوا عليها تسمية (الخرساء)؛ لأنها صماء لم تجب بكلمة واحدة رغم كل الإذلال والتعذيب. ما عرفوا عنها أي شيء، ولم يتمكنوا أن ينتزعوا منها أية معلومة؛ فبالإضافة إلى خرسها فإنها لم تبدِ أية علامة على معرفة القراءة والكتابة. ثمة آراء متضاربة حتى عن تاريخ ومكان العثور عليها. بل إن أحد التقارير يؤكد أنها كانت سجينة منذ أوائل تأسيس الدولة العراقية؛ أي: منذ أكثر من سبعين عاماً، علماً بـأنها ما زالت في ريعان الشباب؟! هنالك تقرير يقول إنهم قد عثروا عليها منذ أعوام في البادية الغربية تجول تائهة وحدها. بعض آخر يقول إنهم عثروا عليها معتكفة في مغارة في جبال الشمال، وآخر يدَّعي أنها من أهل الأهوار، وآخر يظن أنها من عائلة بغدادية عريقة!

لم يشاهد (س) في حياته مثل هذا الملف العابث، هذا الغموض العجيب الذي يحيط بهوية إنسان. من بين كل هذه التناقضات والملابسات الغرائبية هنالك شيء واحد تتفق عليه جميع التقارير: إنها إنسانة مريبة؛ لأنها بين حين وآخر وهي نائمة تهذي بكلمات غامضة توحي بمعرفتها بأسرار خطيرة، عن مؤامرات وانقلابات واغتيالات وحروب وأحداث عديدة لا يعرف بها غير رجال الدولة الكبار؛ ولهذا فإنها متهمة بالتجسس، وقد أمضت كل هذه السنوات على أمل أن تخضع ذات يوم وتعترف عن مصدر معلوماتها.

أصابت الحيرة (س)، أمام هذه المرأة اللغز قال: ما له والمتاعب، ليدعها وشأنها تتدبر حالها مع سجّانيها. لكن قوارض الإثم ظلت تنبش في ضميره الذي خاله قد مات منذ أعوام طوال، كأن مصير هذه المرأة قد تعلق بقراره هو وليس غيره، كأنه يعرفها ويعرفها ويعرفها منذ أن وُلدَ، بل ربما في حيوات سابقة، كما يدَّعي المصدقون بتناسخ الأرواح؛ هل كانت معبودته.. أخته.. أمه.. ابنته.. توأمه؟!

بعد مداولات مع صديقه المدير واتصالات بالهاتف مع المسؤولين الكبار، تم التوصل إلى حل: أن يأخذ السيد (س) تلك الخرساء معه إلى قصره لفترة ما، وهنالك يتصرف بها كما يشاء؛ فلعله إن امتلكها وأشبع نزواته منها سوف يتخلص من الحيرة التي كبلته بها. لكن سيادتهم فرضوا شروطاً عدة، أهمها أنها لن تغادر القصر أبداً ولن تتصل بأحد غير السيد (س)؛ أي: أن تبقى سجينة تحت رعايته، وأن يجلبها لهم متى يطلبون، ثم أن يخبرهم في حالة حصوله على أية معلومات تخص هويتها وتاريخها.

                                                  *   *   * 

فجأة اهتزت غرفتنا بضجيج حاد اخترق هدوئنا وأزال خدرنا. انتفضتُ متسائلاً عن الأمر، لكني فوجئت باستمرار صاحبي على وضعيته وعدم مبالاته بالضجيج وكأن الأمر طبيعي. وخاطبني بهدوء قائلاً وهو يتناول استكان الشاي:

ـ ما كو شي.. أكيد طائرات أمريكية تحاصر مخابئ مسلحين.

أحسست بالخجل وكأني كشفت عن ضعف في حساسيتي، فعدت إلى جلستي وأنا أصطنع الهدوء واللاّمبالاة. وعاد (ص) إلى حكايته:

قبل أن أسرد عليك الفصل المهم من حكاية (س) مع تلك الخرساء العجيبة التي أذهلته بأسرارها وأخذته معها في أسفار عجاب جعلته يغور في متاهات سرمدية من سؤال وجواب. لكي تكون على بينة من الأمر، أرى من الواجب أن أكشف لك أولاً بعضاً من تاريخ (س) الشخصي. لا يخفى عليك بأنه كان من جماعة صدام، وعمله كله مع قادة النظام ورجالاته. قد يبدو الأمر طبيعياً بالنسبة للكثيرين، لكن بالنسبة له لم يكن بهذا الوضوح؛ فكان يشعر في أعماقه بأنه قد خان مبادئ شبابه وتنكَّر لقيمه وطموحاته. خدع وتجسس وتملق وسبب الأذى للكثير من الأبرياء. لكنه كان أيضاً بين حين وآخر ينقاد لذلك الميل الغامض الذي قد يستحق أن يسمى ضميراً، ويدفعه لمساعدة المظلومين ما أن تحين له فرصة. كم من المغضوب عليهم خلَّصهم من غياهب سجون أو من قرارات موت محقق، وكم من القتلة والسفلة تدبر لهم المقالب وبعثهم إلى قيعان جهنم!

عاش (س) حياته الأولى مثل الكثير من أبناء العراق، في ضنك العيش وقسوة الحياة. يقال إن الجوع لا يمكنه أن يحيا وحده، بل عليه أن يتنفس الإذلال لكي يدوم. والمشكلة أن هذا الإذلال لا نعانيه من أصحاب الجاه والمال قدر ما نعانيه من أبناء جلدتنا من الجوعى وضحايا الظلم. الجميع يشتركون بإذلال الجميع كأنهم ينتقمون بذلك من سادتهم بعيدي المنال. الآباء يذّلون الأبناء، الكبار يذّلون الصغار، الرجال يذّلون النساء، المعلمون يذّلون التلاميذ، الموظفون يذّلون المراجعين، هكذا في شبكة جهنمية من الإذلال اليومي العلني والمتستر. أما (س)، فمنذ أن استقوى عوده وبدأ يدرك هذه الحقيقة المرة، قرر أمام ربه وضميره أن يتمرد على جوعه وذله؛ ولهذا قرر أن يبحث في الكتب عن دروب الخلاص. أصبح مثقفاً عاشقاً للمطالعة والكتابة. ومع الأيام قادته الكتب إلى خيار الماركسية فأصبح شيوعياً في أول شبابه بداية السبعينات. تعلَّمَ أن يقدس الفقراء ويحلم بالثورة التي سوف تحررهم من الظلم. راح يقرض الشعر ويدبج المقالات النارية عن الثورة القادمة.

لكن حماسة الإيمان هذه سرعان ما انهارت عند أول تجربة اعتقال عاشها (س) في أواخر السبعينات وهيمنة صدام على الدولة. صحيح أنه صمد وتحمل مختلف أنواع التعذيب وحتى الاغتصاب، إلاّ أن الأيام وأخبار هروب القادة الى الخارج وخيانتهم لقضية الثورة والكفاح، جعلته يفقد الأمل تماماً وينتكس وينقم على كل ماضيه النضالي. خلال ظلمة السجن بدأت الحقيقة المرة تظهر له: لقد اغتصب منه الجلادون فحولته. أصبح خصياً وفقد كل الصلابة والقدرة على المعاشرة. صارت ذكورته لحمة ميتة. حاول المستحيل لكي يمارس عادته السرية. لم تنفعه حتى الصور الخليعة التي حصل عليها من المعتقلين. أصابه هذا الأمر بالرعب، وجعله يواجه تلك الحقيقة المرة التي طالما أجَّلَ مراجعتها في أعماقه. رغم شبابه وثقافته إلاّ أنه حتى سجنه لم يكن قد تذوق طعم المرأة. علاقته بها ظلت مبهمة وغامضة. إحساسه بها إرتبط دائماً بقضية الجوع والحرمان. لن ينسى، كيف إنه ذات يوم في أول مراهقته كان يشتغل تحت شمس بغداد الحارقة والجوع قد أنهكه والعرق ينزف من جبينه ويحرق عيونه. كان لحظتها يشتهي برد الظلال وصحن من الرز والمرقة أمامه يلتهمه بلذة. إذا بشابة ترتدي (ميني ﭽوب) تخطف من أمامه تتمايل بشموخ بأفخاذها البضة البيضاء. فجأة من دون شعور تكونت صورة واضحة ملونة أمامه مثل شاشة سينما: الفتاة عارية تماماً وقد تحولت الى دجاجة مشوية في صحن الرز والمرقة!!

منذ ذلك اليوم، وهو يمارس عادته السرية على تلك الصورة الطريفة الشاذة!!

أما الآن في عتمة السجن والعزلة فان إكتشافه لحقيقة إخصائه قد هزَّ كيانه من أساسه ولوَّثَ علاقته بالحياة بكل تفاصيلها. خيبته برجولته جعلتهُ ناقماً على الله وعلى الأحزاب وعلى المثقفين والسياسيين وعلى جميع الذين يتشدقون بوعود الخلاص. أصبح كتلة من الحقد والرغبة بالانتقام من كل رجال بلاده، جميعهم، الجلادون منهم والضحايا. راح يمضي وقته منعزلاً عن باقي المعتقلين وهو يبحث عن أي طريقة لإرضاء شهوة الانتقام التي كانت نار جهنم تحرق بكيانه. تخيل تفجير القنابل وسط الحشود واغتيال الناس بالسكين وتسميم مياه الشرب وخنق الاطفال بالمهود واغتصاب النساء بالقضبان.. الحقد وحده كان يمنعه من الانتحار.. الانتقام وحده كان يغذي فيه نسغ الحياة!

أخيراً اهتدى الى حل جهنمي يضمن سلامته وديمومة حياته وبنفس الوقت التشَّفي بعذابات أعدائه. بالصدفة عثر على قطعة جريدة ممزقة فيها مقال عن الروحانية الآسيوية. كان يؤكد على ان الله عندما يريد أن ينتقم من مِلَّة، ليس بالضرورة أن يسلط عليها الجوع والحرمان، بل يمكن أن يسلط عليها البطر والتخمة. لحظتها أتاه الوحي:

((لأكافحنهم بـتخمتهم وبطرهم. إن كان شبقهم هو الذي جعلهم يغتصبوني ويقتلون فيَّ رجولتي، فإني بـ (الشبق) ذاته سوف أنشر سموم الموت والتفسخ في كيانهم.. بالشبق سوف أنخر أرواحهم وأستولي على عقولهم وضمائرهم وأقتل الرجولة في أبدانهم. بالشبق سوف أستحيل الى شيطان يغوينهم حتى حتوفهم..))..

لكي تنطلق خطته الجهنمية، قرر أن يبدأ بالانتقام أولاً من رفاقه الذين خدعوه بوعودهم الخلابة. بدأ بالاعتراف عليهم وتوريطهم صدقًا وكذباً واحداً بعد الآخر. أطلقوا سراحه بعد أن وقع على انتمائه للبعث. لم يكتف بالاعتراف والتجسس على رفاقه، بل راح يلاحق رفيقاته السابقات ويتلذذ بالإيقاع بهن ليشارك رجال الأمن بتعذيبهن واغتصابهن. كان مهووساً بالانتقام من نساء أولئك الذين خدعوه بمشاريعهم الزائفة. مع الزمن راح يصطاد النساء هنا وهناك، أي نساء، ويصطنع لهن أية تهمة ويقدمهن لمن عذبوه. كان يحس بلذة غامرة بمجرد أن يقدم النساء البريئات الضعيفات إلى أولئك الجلادين. محنة السجن أظهرت إلى السطح حقيقته العميقة التي نجح خلال سنوات النضال أن يغطيها بشعارات وأحلام عذرية: إنه يقدس الأقوياء ويحتقر الضعفاء. كما يردد هو أحياناً في حالة ثمالته، أنهُ مازوشي مع الأقوياء وخصوصاً الجلادين ويتلذذ بخنوعه لهم، وهو أيضاً سادي يتلذذ بسحق الضعفاء وإذلالهم وخصوصاً النساء. هكذا إذن، دخل السجن مناضلاً ومثقفاً ثورياً وخرج منه مخصياً وبعثياً وسمسيراً وفياً لمهنته. صار واضحاً إن المهنة الوحيدة التي تناسبه والتي بها سوف ينتقم ممن أخصوه، أن يكون: سمسيراً..

بصورة أدق: سمسيراً مثقفاً وسياسياً محنكاً...

                                                       *   *   * 

ـ لازم الأمريكان ابتلشوا بجماعة كبيرة!

عندما سمعت هذا التعليق من صديقي (ص)، تصورت لأول وهلة أنه مستمر بسرد حكايته! احتجت لوقت لكي أدرك انه كان يتحدث عما يجري خارج القصر. حينها فقط انتبهت إلى نفسي إلى أني كنت متناسياً تماماً ضجيج القصف والطائرات، مع استمرار صاحبي بسرد تلك الحكاية! أدركتُ مستغرباً كيف أني قد أرغمت نفسي بشكل غير واعٍ على عدم الاستماع إلى دمار الخارج، بسبب خشيتي أن أكشف عن ضعف في حساسيتي. فهمت من (ص) إن هنالك قريباً من البستان ثمة حرب دائرة بين الجيش الأمريكي ومجمومة من المسلحين. وكما بدى لي من خلال صديقي أن هذا أمراً طبيعياً قد تعوَّدَ عليه العراقيون ولا يستحق منّا وقفة ما.. ثم عاد إلى حكايته:

مع الأيام إتقن السيد (س) مهنته واكتسب مهارات جديدة جعلها أداة لتغيير حياته بكاملها. بعد الجلادين اتجه إلى المثقفين من أبناء طبقته. بدأ يرسل لهم بغوانيه لإغوائهم وكسبهم لصالح طموحاته بالصعود والانتقام من ماضيه. ثم توصل إلى الإداريين من مسؤولي الثقافة في الصحف ومؤسسات الدولة والحزب. كان يختار مدير الجريدة الفلانية ويرسل له إحدى شغيلاته، لتعود مع قرار تعيينهِ صحفياً من الدرجة الأولى. ثم من خلال بناتِه أقنَعَ بعض الكتّاب المغضوب عليهم، أن يشتري منهم مواضيعهم وترجماتهم، وينشرها باسمه. مع الزمن أصبح إسماً كبيراً في عالم التأليف والترجمة، وكل هذا ساعده على الصعود السريع في مراتب الحزب.

بحكم ثقافته الواسعة وسفرياته المتنوعة، اقتبس فنون الإغواء والبغاء الغربية. خلق شبكة واسعة من الغواني من مختلف الألوان والأجناس، خصوصاً من بلدان المعسكر الاشتراكي السابق. علَّمهن كيفية إغواء الرجال ومساعدتهم على اكتشاف ملذاتهم المجهولة. من خلالهن عَرَفَ إن الغالبية الساحقة من رجال الدولة والحزب والطبقة المثقفة لا يختلفون عنه في حالته النفسية. كانوا ساديون قساة لا يرحمون مع الضعفاء، ورعديدون ضعفاء مع الأقوى منهم. يقال إن الرجل الحسّاس المجبر على ممارسة القسوة في وظيفته، بحاجة إلى تعويضها وتفريغ شحنة الخنوع المكبوتة بأية وسيلة كانت، ومن أفضلها وأسهلها هي التعرض للإذلال والعذاب الجنسي من قبل امرأة طاغية تشبه الأم. لهذا علَّم (س) غوانيه كيفية القيام بدور الأم الطاغية واستعمال فنون التعذيب بالأدوات الخاصة التي استوردها من أوربا: السياط والقيود والمقاعد الخاصة والأعضاء من الكاوشك والأقنعة والثياب الجلدية، وقد أضاف إليها (نعال المرأة البلاستيكي) كخصوصية وطنية. لإشاعة ثقافة (السادية ـ المازوشية) هذه وأوصى بترجمة المقالات والكتيبات التي تتحدث عن هذا السلوك، واستورد عشرات الأفلام الجنسية المتخصصة بمثل هذه الحالة.

مع الأيام تعوَّد غالبية مسؤولي الحزب والدولة والجيش والشرطة والنخب المثقفة والمتعلمة أن يزوروا شقق (س) السرية ليتعرضوا إلى الإذلال والشتم والتعذيب الجنسي على يدي الغواني. ثقفَّهم بمختلف الخيارات المعروفة في مباغي أوربا. بعضهم يعامل كأمرأة وهو يرتدي سراويل النساء، وبعضهم يعامل كطفل ينام في الكاروك (المهد) وفي فمه ممَّة الحليب وأمه البغي تهدهده وتصفعه ثم تمارس له العادة السرية. وآخرون يفضّلون أن يمثلّوا أدواراً وضيعة وقاسية مختلفة تتناسب مع مهنتهم الأصلية. فالجلاد يحب أن يمارس دور سجين معذب، والمعلم يمارس دور تلميذ مذنب، والحاكم يمارس دور متهم محكوم بالإعدام. بل أحد السادة المسؤولين المعروفين بجرأتهم في مكافحة المتمردين وسحق رؤوسهم بعصاه، كان يعطي مسدسه المملوء فعلاً بالرصاص لكي تهدده الغانية حتى إنه يقتنع حقًا أنها سوف تقتله فيشرع بالبكاء والرجاء وينطق بالشهادة استعداداً للموت.

مع الزمن صارت قيمة الغانية وأجرتها تحدد بمدى قبولها بالقيام بدورها الإذلالي والتعذيبي حتى أقصى الحدود. فالسيدة (سوسو) مثلاً كانت باهظة الثمن ومرغوبة جداً لأنها كانت تجمع بين قوة الشخصية وبرودة الأعصاب ومهارة الإمتاع، فهي أثناء قيامها بأطفاء السكائر على أبدان الراغبين أو تهديد البعض بالسكين لحد تجريحهم، فإنها بنفس الوقت، كانت قادرة على مداعبتهم بحنكة ودهاء بحيث إنهم كانوا يبلغون ذروة اللذة رغم أوجاع الحروق والجروح!

كم كان (س) يحس بالمتعة والتشفي وهو يتفرج، عبر نافذة خفية، على الرجال المعروفين بأنَفَتِهِمْ وبطشهم وكبريائهم التلفزيوني، واحدهم يولول شاكياً مثل ولد، بينما إحدى الغواني تجلده بالنعال الوطني على مؤخرته المكشوفة!

كل هذا مَكَنَ (س) أن يفرض سطوته في مجالات الدولة والحزب والثقافة. بحفلة مجون واحدة تتناثر فيها البنات والخمرة والحشيشة، كانت تلبّى له أعجز المطالب.

من خلال وساطة إحدى بناته التي لا ترد لها كلمة اختار الحزب أحد كتب (س) من ضمن برنامجه للتثقيف الإجباري، وكان كتاباً شيقاً ومفيداً عن تربية الشبيبة وأخلاق المجتمع القومي الجديد!

                                               *   *   * 

لأول مرة انتبهت إلى صاحبي (ص) يتأثر بضجيج القصف ويقطع حكايته مرتبكاً، عندما أحسسنا فجأة باهتزاز القصر بعد سقوط قذيفة قريبة منه. قام وفتح النافذة، ثم عاد ليطمئنني قائلاً بأن القذيفة لم تمس داره، بل سقطت في البستان المجاور. جدد لنا قارورة الشاي وجلب لنا فطائر (كليجة) وقنينة ماء معدني، وعاد إلى سرد حكايته:

بعد أن اطلعت على مختصر سيرة (س)، يمكن الآن أن نعود إلى قصته التي ابتدأت مع تلك السيدة الخرساء. ذلك اليوم أخذها مباشرة من دائرة الامن إلى بيته (قصر العزلة)، فهو أمين تحت رعاية حارس مسلح ومحاطة بسياج مراقب بالعديد من أجهزة الإنذار. في هذه الدار كان يزاول وحدته عندما يتعب من صخب بغداد ومن نشاطاته الثقافية والسياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى مهنته الأساسية طبعاً.

سَلَّمَ (س) السجينة إلى الخادمة زوجة حارسه وأوصاها بالعناية بها وترتيب غرفة لها. تركها هناك ونزل إلى بغداد وانشغل في نشاطاته المعتادة حيث يمضي الليالي في شققه العديدة. كانت الحياة في بغداد التسعينات تزداد اضطراباً وصعوبة بسبب الحصار وفرار العديد من كوادر الدولة والحزب والنخب المثقفة والمتعلمة إلى الخارج هرباً من الوضع المتفاقم سوءاً وفقراً. في خضم هذه الأمور كاد (س) ينسى خرسائه تماماً ولم يفكر حتى بالسؤال عنها. بعد مضي أكثر من أسبوع في إحدى الليالي وجد نفسه يطلب من سائقه أن يمضي به إلى (قصر العزلة). كان مخموراً محشوشاً تعباً نعساً فذهب إلى سريره مباشرة وبدأ يغرق في نومه..

لم يدرِ كيف بين الحلم واليقظة بدأ يتهادي إليه صوت غناء. كان ترنيماً حنوناً، من شدة إلفته ظنه يأتيه من دواخل أحلامه. بالتدريج مع تنامي انتباهه بدأ يدرك أنه ليس بحالم وأن الغناء يأتيه من خارجه. لم يتبين إن كان أنثوياً أم ذكورياً، لكنه كان شجياً بموّال عراقي حزين لم تتضح كلماته. مثل همس طفولي يتصاعد بعتب صداقي حتى يبلغ مداه في نحيب جياش ومناجاة يائسة راحت تقطع نياط قلبه. انتبه (س) إلى دموعه قد بللت مخدته. انتفض ونهض غاضباً. هذه المرة الأولى التي يبكي فيها هكذا بكل ضعف وبؤس. لقد خان العهد الذي قطعه على نفسه في معتقله لحظة قرر فيها أن يعترف ويقلب تماماً صفحة حياته السابقة: بأن لا يدع الحزن ومشاعر الأثم تجتاح قلبه ولن يترك عينيه تدمع أبداً حتى لو قطَّعوا أوصال الكون أمامه!

لم يكن يدرك من أين يأتيه ذلك الصوت. فكر ربما الخادمة قد نست المذياع في إحدى الغرف، فاتجه إلى القاعة وسط الدار وراح يتنصت ويتبع مصدر الصوت. كلما اقترب كانت النغمات تتضح أكثر فأكثر. رغم غضبه وإصراره الواعي على الرفض، إلاّ أن موجة حنين راحت تتصاعد في روحه. وجد نفسه أمام باب غرفة لم يغلق تماماً. من الواضح الآن أن الأنين لم يكن في مذياع. دفع (س) بحذر الباب. كانت الغرفة معتمة إلاّ من ضوء فجر منساب عبر نافذة مفتوحة. هناك على حافة النافذة بدت ظلال إمرأة جالسة موشَّحة بأنوار سماء فضية شاحبة. راح يقترب بحذر وهدوء وهو مجذوب مسحور. ظلت تغني وهي ترمق السماء كأنها تناجي قمر ونجوم متلألئة. عبر ضباب الفجر الواهي ظهرت ظلال بساتين تحيط بنهر دجلة، مع حقول حنطة وعباد شمس وبادية بعيدة وأفق لا ينتهي. خيّل لـ (س) إن الطبيعة كلها، النخيل والاشجار والنهر والبادية والفجر والريح، كانت هي التي تشدوا عبر حنجرة المرأة. للحظة حانت من المرأة التفاتة نحو (س)، فعرف أنها سجينته الخرساء! ما إن لمحته صمتت وعادت ترمق السماء وكأنه غير موجود.

هل من المعقول أنها هي نفسها؟! كيف يقولون عنها خرساء وهي تصدح بهذه التراتيل التي لم يسمع مثيلها. اقترب منها أكثر ليتأكد من صحة رؤيته، حتى لمس كتفها، ومن دون تفكير كلمها وهو مبهور مبهوت:

ـ يا سيدتي.. هذه أنت.. أرجوك استمري بغنائك.. استمري..

لكنها ظلت صامتة جامدة وهي ترمق السماء. من دون وعي توجه نظر (س) معها بحثاً عما يشغلها. هناك في الأعالي شاهد القمر ونجمة الصباح (الزهرة) متلألئان في عينيها. حينها فقط شعر أنه أمام إنسانة غير عادية!

                                             *   *   * 

اضطررت أن أقطع كلام صاحبي (ص) معتذراً، لأني بدأت أشم رائحة حريق. صحيح أن ضجيج القصف والطائرات لم يتوقف، إلاّ أني أرغمت نفسي على تجاهله، لكن الحريق قد يكون خطره مباشر. وقف صاحبي وراح يجول في أنحاء الغرفة وهو يتشمم، ثم عاد ضاحكاً وهو يقول:

ـ لازم أوربا أثَّرت بيك ياعزيزي.. صاير حساس جداً.. حرق الكليجة تتخيله حريق..ها ها ها..

لم أخبركم بأني منذ ساعات بدأت ألاحظ على صاحبي (ص) تغييرات بطيئة على ملامح وجهه كلما استمر في سرد حكايته. لا أدري كيف؟ ثمة تغييرات طفيفة قد تكون بتأثير العتمة وتلاعبات الضوء الغازي. بدأ كما لو أنه أصبح أكثر حزناً وأكثر رقة وأكثر تأثراً بما كان يسرده من وقائع.. أقول كما لو إن كان بصورة ما معني بما كان يجري لبطله (س).. لا أدري كيف أصف لكم شعوري.. أعترف أنه أمر مبهم وصعب الإيضاح.. ربما ستفهمونه مع مجريات الحكاية..

أزاح فطائر الكليجة عن المدفأة، وعاد إلى حكايته:

منذ تلك الليلة، بدأت حياة صاحبنا تتغير. راح يعود كل ليلة إلى (قصر العزلة) مخموراً محشوشاً، فقط لكي يتنصت الى شجى السيدة الخرساء. رفضت أن تغني بحضوره، أو بحضور أي كان، ولا في أية ساعة، بل فقط عندما يهلُّ الفجر. تجلس إلى النافذة وسط العتمة وتصدح مناجية القمر ونجمة الزهرة تودعهما وهما يغيبان مع إشراقات الصباح. كان (س) كل فجر يفتح بابها بحذر ويحبوا على الأرض ويختبئ مثل طفل ليجلس في العتمة قريباً من النافذة، ويمضي ساعة أو أكثر في غيبوبة أنغامها. كانت تغني بمختلف الألحان الشائعة. يأتيه شدوها تارة رقيقاً حنوناً يعبق بنسيم فوّاح من ثمار أرض وضباب سحر وهمس أحبَّة، وتارة حاراً جياشاً يصدح بعواصف وأمواج وتساقط صخور حزن وغضب. يبدأ بهمس طفولي ثم يتعالى بحوار صداقي معاتب حتى يبلغ مداه في نحيب جيّاش يقطع نياط القلب فيبكي (س) ويرتجف وتنهمر دموعه حارة لا تنضب.

ذات مرة خطر في باله بصورة عابرة أن يدعها تتنزه في البستان المحيط بالقصر. أصابته الدهشة وهو يراها تتمايل أمامه بقامة شامخة تهفهف بثوب ليلكي فضفاض وشعر حنّي طويل. بدت حرة منطلقة مثل طير فرَّ من قفصه. راحت تعانق جذوع النخيل والحمضيات.. تمرِّغ كفيها بالأتربة والأطيان..تلاحق الطيور والضفادع. عندما شاهدت دجلة أطلقت صرخة همجية ثم آهات وهمسات وولولات شغف وتعجُّب مثل طفل يكتشف العالم تواً، أو مثل أم تعود إلى أحضان أطفالها بعد غياب طويل. ركضت ورمت نفسها في النهر وراحت تغتسل وترتوي ككائن بدائي يخزِّن عطش قرون. فجأة غطست في الأعماق وغابت. أصاب (س) الهلع فرمى نفسه نحوها وهو يطبش هنا وهناك منادياً إيّاها من دون جدوى. لم يدري كم طال انتظاره وبحثه وهلعه حتى فقد الأمل وأصبح متيقناً أنها قد غرقت. فجأة شاهدها تخرج من بين الدغل وتختفي بين الأحراش مطلقة فحيح وحشي، ثم عادت إليه وقد التفَّت أفعى رقطاء حول ذراعها وهي تداعبها بصداقة وحنان!!

منذ ذلك اليوم دخل (س) مع السيدة الخرساء، في عالم طقوسها البدائية بالتجوال في الطبيعة واكتشاف خباياها. كل عصر كان يقضي معها ساعة أو ساعتين في البساتين وعند ضفاف دجلة. كذلك كل يوم جمعة كان يرحل بها إلى منطقة جديدة من البلاد، يتركها تسير أمامه في البساتين والجبال والبوادي وعلى ضفاف الأنهار. كانت تعرف الدروب والزوايا شبراً شبراً. تتلمس الارض والنباتات والحيوانات بشغف وانبهار كأنها تتبادل معها طاقة الحياة. تقوده إلى مخابئ الأرانب وجحور الثعابين، تلاعب الثعالب والذئاب، بينما العصافير والفخاتي تحّط على كتفيها وكفيها. يفوح منها عبق الأرض بأطيانها ونباتاتها وأحيائها. كالحرباء تتلون حسب المحيط، تارة سمراء كأديم الأرض ومياه النهرين، وتارة خضراء ذهبية كحنطة وشعير. رغم صمتها في ساعات التجوال، إلاّ أن (س) كان يتنصت لصوتها ينبع من خلايا الأرض، من أطيانها ونباتاتها وأحيائها، بل حتى من مسامات بدنه هو وأحشائه. صار مقتنعاً بأن صوتها كان صوت الحياة، بل هي الحياة ذاتها..

                                             *   *   * 

خيل لي، أني بين حين وآخر، كلما توقف ضجيج القصف والطائرات، كنت أسمع من بعيد البعيد أصوات غناء. قلت يقيناً إني أتخيل تحت تأثير حكاية صاحبي. لكني بعد تكرار الأمر، أبَحْتُ لصاحبي بما يدور في خلدي، وأنا أداري بضحكة هازئة معتذراً عن خيالاتي. رغم أن صاحبي قد شاركني السخرية، إلاّ أني لاحظت خلجات مرتبكة بدت على صوته. ثم بعد حين، اعتذر مني قائلاً بأنه ذاهب ليجدد الشاي.

قمت ناظراً من النافذة. بانَ البدر متوهجاً في كبد السماء، والنجوم متناثرة حوله في جميع الأنحاء، فتتخلل تلك الأنوار ظلام البستان. من بين النجوم رأيت نجمة قريبة متوهجة أكثر من غيرها، فخمَّنتُ أنها قد تكون (نجمة الصبح ـ الزهرة) التي كان أبي يستيقظ عليها ليؤدي صلاة الفجر ويرحل إلى عمله.

عبر النخيل وأشجار الحمضيات تمكنت من رؤية شاطئ دجلة، وعلى صفحته تتهادى وديعة مويجات متلألئة بأنوار الكون. بين حين وآخر، كان الفضاء يقدح بنيران القصف المتبادل في جهات غير مرئية، فتتوهج السماء والمياه والبساتين، كما لوكانت تحت تأثير برق خاطف. ومن بعيد البعيد يتهادي صوت غناء نسوي ممزوجاً بالضجيج والانوار والريح.

عاد صاحبي (ص) جالباً من جديد الشاي والمياه المعدنية، مع صحن قيمر (قشطة) محلى بالدبس. وعاد إلى حكايته:

هكذا يا أخي، عبر هذا التجوال بدأ (س) يعيد اكتشاف بلاده، التي كان يتباهى بكتاباته بأنه يعرفها شبراً شبراً. أدرك بأنه في الحقيقة لم يعرف إلاّ مدينته بغداد وبعض المدن الكبرى. قال إنه صار مقتنعاً، بالحقيقة لم يكن يعرف سوى عبودية المدينة بصخبها وضيقها ومجونها وطغيانها الخلاّب الخادع الذي لا يرحم الضعيف وطيِّب القلب. تجواله مع سيدته جعله يكتشف الجانب الخالد والسرمدي من بلاده، أريافها وبواديها وأهوارها وأطيانها وأنهارها وجبالها.

يبدو أن علاقته بسيدته الخرساء لم تفرض تغييراً على سلوكه ونظرته للحياة، فحسب، بل شمل تأثيرها ناحية عميقة لم يتوقع أبداً أن تتغير هكذا فجأة: رجولته!! ذات ليلة استيقظ مرتعباً على حلم كان فيه يضاجع خرساءه. أصابه الحزن لأنه كان متيقناً من اكتشافه كالعادة خيبة أمله. لكن حدثت المفاجأة التي لم يتوقعها أبداً: كانت ذكورته حية!؟ نعم هكذا بدأ يستعيد رجولته ويحس بقدرة فعلية على المعاشرة. اكتشف بأنه فعلاً يشتهي سيدته. بعد تردد طويل قرر ذات ليلة وهو ثمل محشوش أن يعَبِّر لها عن رغبته بها، لكنه سرعان ما تراجع بعد أن رأى منها ذلك الصمت الوقور. حينها قرر أن يهجر أية محاولة معها وأن يشبع شهوته مع غوانيه.

ظلت الأيام والأعوام تمضي والسيد (س) يحاول أن يجمع بين حياة الخطيئة والمجون في بغداد وحياة الطهر والتعبد في (قصر العزلة). كان يصحو في الظهر ويمضي الساعات بالعناية بنفسه في قاعة الرياضة والحمامات والسباحة، وأحياناً التجوال مع خرسائه. عندما يحل الغروب ينزل إلى بغداد ليعيش صخبها ومجونها حتى آخر الليل، ثم يعود قبيل الفجر لكي يتطهر بشجي خرسائه. كل مرة تنتهي من غنائها، كان يجثوا أمامها يشكوا لها عذاباته وحيرته في حياته. هكذا صارت راهبة اعترافاته. يسرد لها كل موبقات ليلته: كم خدع وعذب واغتصب أو حتى قتل أو سبب القتل. وكانت هي لا تبدي غير الصمت وأنظارها متجهة نحو السماء. وتمسح بكفها على رأسه فيحّس بخدر لذيذ يعيد إليه ذكرى أمه تفَلّي له شعره وهو نائم في أحضانها.

لو يشاهده أصحابه وغوانيه في تلك الحالة، لما صدَّقوا أبداً. ها هو (س) الباطش الداعر الذي يتملقه أهل المال والسلطان وتحت سطوته شبكات حسان من كل جنس ولون، يمتلكهن لحظة يشاء كما يمتلك أي سيد جواريه.. هكذا يتحول إلى زاهد متعبد في حضرة خرساء مجهولة التاريخ والهوية. ها هو المتمرد الخليع الناقم على الله والوجود، راح بالتدريج يستحيل إلى إنسان آخر.. بدأ ضميره يصحو وينمو مثل جنين يحيا وينمو في أعماقه. أصبح حاملاً بضمير تعب مشوه، ويا ويله وسواد ليله من ساعة المخاض! كيف له أن يحافظ على جاهِهِ ومالِهِ وسلطانِهِ برفقة ضمير معذب يحرقه على حياة حافلة بكل ما هو منافٍ للضمير.

هذه الحياة المزدوجة لم تكن سهلة أبداً. كان (س) تواقًاً للخلاص من مجونه وضياعه. السمو عن مستنقع الموبقات الذي كان يعيش فيه ويستمد من أقذاره سلطانه وجبروته. كل فجر بعد اعترافه بآثامه، يقسم لها، بأنها كانت ليلة الفسق الأخيرة، وأنه سوف يتخلى عن حياة ملوَّثة، ليمضي عمره معها. يهجر كل شيء ويهيم في البوادي بعيداً عن حضارة خرقاء ببريق وهّاج زائف، زيف حياته كلها. لكن الغروب ما إن يحل ويبدأ الشفق النحاسي يوشح البساتين والحقول ومياه دجلة بحمرة الكآبة والمجون، حتى تتصاعد عواءات مكلوبة من أعماقه تحثه على الثمالة ومناجاة رفاق الخطيئة. حبال طويلة شائكة وقوية متجذرة في أحشائه وعظامه، تشده إلى حياة الليل والتلذذ بمشاهد العذاب السادي المازوشي، والفكاك منها كان يعني موته. فيحتسي كؤوس الخمرة وأنفاس الحشيش ثم ينزل إلى بغداد.

الأعوام تمضي وعذاباته تتفاقم والوطن من حوله يذوي ويحتضر تحت حصار لا يرحم ويغادره خيرة أبنائه، بينما الدولة يستفحل سرطانها ويستولي عليها بالتدريج رجال منحطون تفاقموا مثل جراثيم في أزبال هزائم وخيبات. تضاعف الطلب على الغواني بصورة متسارعة تفوق الحساب. كلما استفحلت أزمة الوطن واقتربت النهاية التي يدركها الجميع، تكاثر الرجال المرتادون لغرف التعذيب. أصبح لدى (س) عشرات الشقق في أنحاء بغداد، بل صارت لديه فروع في جميع المحافظات بما فيها محافظات الشمال المحمية. بسبب الحصار صعب استيراد أدوات التعذيب الجنسي، فتمكن (س) بحكم علاقاته المتشعبة أن يتم تصنيعها وطنياً. كان (س) فخوراً باختراعه طريقة وطنية للمشاركة في رفض التهديدات الأمريكية: أمَرَ برسم الأعلام الامريكية على شراشف المضاجعة وجعل غوانيه يرتدين نفس بدلات ضابطات الجيش الأمريكي، وتعلّمنَ النطق بشتائم وبذاءات أمريكا أثناء حفلات التعذيب. لقد لاقت هذه الطريقة إقبالاً منقطع النظير، حتى قيل إن سيادة ابن الرئيس قد طلب نفس الأجواء للياليه الخاصة.

كم كان (س) يشعر بالأسف لأنه في تلك الظروف لم يترك بلاده ويهاجر مع خرسائه مثل الملايين غيره. بدهائه وماله وعلاقاته ومعرفته بأسرار المعارضين، كان بالإمكان أن يتبوأ منصباً قيادياً في المعارضة ويصبح الآن في صفوة الحكام الجدد. الكثير من زبائنه الأوفياء من كوادر الحزب والدولة والثقافة التحقوا بالمعارضة وعادوا يقودون الدولة الجديدة التي حطمته الآن. أدرك جيداً أن الكثير من قادة النظام الحالي يودُّون القضاء عليه خوفاً من كشفه لأسرارهم.

                                                   *   *   * 

كانت جلستي تسمح لي أن أشاهد النافذة مقابلي، بينما صاحبي (ص) كان ظهره إليها. بدأت ألمح من بعيد، اندلاع نيران كانت تتفاقم في أرجاء البستان. لكنني ولسبب مجهول لا أستطيع تفسيره حتى الآن، بقيت متجمداً في مكاني شاعراً بخدر لذيذ وكأني في عوالم حلم وفقدان. كانت كلمات صاحبي تأتيني على شكل صور كما لو كان هو نفسه جزءاً من فلم يجري أمامي. بدت لي مشاهد النيران وهي تحرق النخيل وأشجار الحمضيات وتشع في أرجاء السماء وفي مياه دجلة، كأنها جزءاً طبيعياً من أحداث تلك الحكاية التي أسمعها وهي تجري أمامي:

كما ترى يا أخي فإن هذه الحالة الاستثنائية كان مقدراً لها أن تنتهي. ذات ليلة عاد (س) إلى قصر العزلة ثملاً منتكساً حائراً تاركاً وراءه بغداد تعيش بانتظار ساعة الصفر للاجتياح الأمريكي. كان الجميع في حالة نفسية تحت الصفر بانتظار هزيمة محتمة، بينما عويل اللذة يتعالى من جميع شقق التعذيب الجنسي في الوطن. كان في حالة إحباط وخيبة وتأنيب ضمير؛ بحيث إنه اقتنع حينها بأن ليس أمامه غير واحد من حلَّين: إما أن يقتل نفسه.. أو يقتل خرساءه.. أو يموت الاثنان معاً!!

في هذه الأثناء هبت عاصفة راحت تثير الضجة في الفضاء وتضرب جدار القصر بقبضات وحشية. سحب (س) مسدسه واتجه مباشرة إلى غرفتها. كانت كعادتها جالسة في العتمة عند النافذة المغلقة تراقب بزوغ الفجر من خلف الزجاج رغم حلكة السماء التي اجتاحتها جحافل غيوم سوداء. كانت الريح تطلق زعيق موحش مثير للشفقة، بينما خرسائه ما زالت في تأملها المناجي. من دون انتظار أو تردد صَوَّبَ مسدسه نحوها واستعد لإطلاق رصاصة الرحمة. في هذه اللحظة ولأول مرة رآها تنظر إليه.. لم يكن يرى في العتمة ملامح وجهها، لكن عينيها كانتا متوهجتين ببريق مثل نجمتين أو جمرتين أو عينَي حيوان مفترس.. حين قدحت البروق توهجت خرسائه فَبَدَتْ مثل إلهة خرافية تمارس سطوتها على الوجود. من خلفها تحولت قامات النخيل إلى أشباح محاربين بسيوف نارية. أصابه الجزع وتجمدت أصابعه على الزناد وشعر بالاختناق كأنه في واحد من كوابيسه التي طالما شاهد فيها أمه ملفعة بالسواد تأتيه وهو مرتعب مختنق. لا يدري كيف وجد نفسه فجأة يلقي بالمسدس على الأرض ويجثو أمامها واضعاً رأسه في حضنها وهو يجهش ببكاء مر.

امتزج صوته بانفجارات رعد وهو يعتذر منها طالباً الغفران.. يعاهدها بأنه سوف لن يخونها أو يتنكر لها أبداً.. منذ هذه الساعة سوف يهجر كل أملاكه وغوانيه وسلطانه ويهرب بها خارج الوطن.. سوف يعيشا وحيدين في جزيرة نائية أو واحة مهجورة..

فجأة اهتز الكون بانفجارات جبارة كأن الأرض كلها قد استحالت إلى حرب شعواء.. إلى بركان ثائر.. كل شيء راح يتداعى.. السماء والأرض والحيطان وحتى بدنه. وعندما أمْسَكَهَا لكي يهرب بها عبر النافذة تفجَّر كيانه وشعر بأنه يغيب عن الوجود.. حتى اللحظات الاخيرة ظل متشبثاً بمعبودته.. ما عادت تهمه حياته أبداً.. هي وحدها، خرسائه وآلهته.. بأنفاسه الاخيرة انبثقت صرخات مخنوقة:

ـ اهربي.. اهربي.. خلصي نفسك.. أرجوك اهربي..

وهو في ضباب فقدان وغبش موت متفاقم رآها تطبع على جبينه قبلة وداع وتشرع بالارتفاع كأن قوة عليا تجذبها نحو الفضاء، فتعلو وتعلو متسامية نحو سماء تنقشع عنها الغيوم..

                                                       *   *   * 

في اللحظة التي بلغ بها صاحبي (ص) جملته الاخيرة، اهتز الكون من حولنا كأن السماء قد سقطت علينا، وتفجرت الأرض في بركان هائل، لتبلع صاحبي وغرفتنا والقصر وكل ما هو مرئي من حولي، ثم أنا كذلك ابتلعني الدمار وغبت عن الوعي وعن الوجود بأكمله؟!

لا أدري كم من الزمن قد مضى عليَّ، عندما فتحت عيني لأجد نفسي تحت الأنقاض وحيداً لا أرى غير خراب القصر وجذوع نخيل وأشجار محترقة ودخان وصمت ينتشر في الأنحاء. خرجت من جحري ورحت أزحف مثل حيوان جريح، كلّي حروق وخدوش ورضوض، وأنا أشعر بعطش قاتل وكأن حرائقاً لا زالت مندلعة في جوفي. بعد جهود عظيمة بلغت أخيراً جرف النهر ورحت أشرب وأشرب. دون أي تفكير ارتميت في قارب مهجور وتركت دجلة يأخذني أينما يشاء. وأنا مستلقٍ على ظهري محدّق إلى السماء تشّع بحمرة فجر متصاعد. ومن بعيد تهيأ لي كأني أسمع شجى غناء نسوي يمسَّ قلبي وَيغَمَرَ روحي بحزن وفرح وسؤال..