التمثيل السردي وتنازع الرواة في إمرأة القارورة 

من دراسة للناقد العراقي عبد الله ابراهيم


تقدم رواية امرأة القارورة (15) لـ سليم مطر كامل خطة شديدة التعقيد والتنوع للسرد الكثيف، وقوام تلك الخطة هو التدافع الشديد بين الرواة من أجل الاستئثار بالسرد للإفصاح عن جملة من المواقف الفكرية فيما يخص الماضي والحاضر على حد سواء 0 وفيما ينبغي أن تنبثق حكاية امرأة القارورة من خلال السرد بيسر وسلاسة ، فإنها تشتبك مع الرواة في نوع من التنازع ، فالرواة منهمكون في وصف وضعياتهم الشخصية ومنظوراتهم وعلاقاتهم بامرأة القارورة وحكايتها ، الأمر الذي جعلهم يقدّمون ذواتهم وانطباعاتهم ورؤاهم بصورة استثنائية ، وبمقدار ما يمنح كل ذلك هذه الرواية خاصية فنية مهمة ، فانه يؤجّل ظهور الحكاية في نوع من التشويق الذي يسهم السرد في تنظيمه والتلاعب به ، قبل أن يعلن عن تفاصيلها تدريجياً من خلال علاقة الرواة بها في سياق ثقافي مختلف 0 وهو أسلوب في البناء السردي يتيح مجالا واسعا لأن تتجلّى الحكاية من خضم سلسلة الرؤى التي تتمركز حول نقطة ما ، فتكون نتيجتها تشكيل الحكاية التي هي رواية مجموعة من الشخصيات تتضافر عناصرها الفنية معا من أجل بلورة حكاية يمكن إدراجها ضمن نسيج متعدد المرجعيات بمكوناته التاريخية والأسطورية والسحرية، وهذا سهّل التراسل الشفاف بين المستويات الرمزية والواقعية للنص إلى درجة تحرّرت فيها الشخصيات من قيود الحركة التقليدية ، بما جعل التاريخ نفسه مادة سردية تمّ إلى تشكيلها حسب مقتضيات الأحداث . وهي إلى ذلك حكاية تخترق سكون الزمن ، فتعاصر سيل الأحداث المتدفّق الذي ينبع منذ ما يقارب خمـسة آلاف سنة هو عُمر امرأة القارورة 0 فالزمان بوصفه إطاراً للحدث ، يتقدّم ويتراجع ويتلوّى ويتكسّر في تساوق مع الاتجاهات المتشعّبة التي تأخذها الوقائع والأفعال المشكّلة لمادة الحدث السردية. 

إن تداخل مستويات السرد يؤدي إلى حركتين متعارضتين : حركة أولى تريد اختزال السرد الذي يحتكره الرواة لصالح الإعلان عن وضعياتهم الفكرية والنفسية ، والإفصاح عن حكاية امرأة القارورة دون إبطاء 0 وحركة ثانية مضادة تتواطأ مع الرغبات الدفينة للرواة ، وهي تُرجئ إظهار الحكاية ، فيستغل الرواة الفرصة للإعلان عن أنفسهم وحكاياتهم 0 وسنجد أن هذه اللعبة السردية ، إنما هي لعبة بلاغية متكاملة غايتها الإبلاغ عن الحكاية بطرق غير مألوفة0 والواقع ، فان حكاية امرأة القارورة باعتبارها اللّب المكوّن للرواية تتنازعها ثلاثة مستويات سردية ، تتصل بثلاثة رواة : يؤدي الأول وظيفة التقديم والاستهلال دون أن تربطه سردياً رابطة مباشرة بالحكاية ، ويؤدي الثاني وظيفة تنظيم الحكاية والمشاركة فيها من خلال علاقته المباشرة بامرأة القارورة هاجر و بـ آدم . وهذا الراوي يهيمن برؤاه ومواقفه وسلطاته المطلقة على النص ، ويؤدي الثالث ، وهو ضمير غائب ، دور الوسيط الذي من خلال سرده ينبثق صوت هاجر وهو صوت لا يكتسب استقلاله الشخصي ، إنما يقترن دائماً بذلك الراوي الوسيط الذي يتقنّع بضمير الغائب في نمط من السرد الموضوعي غير المباشر على نقيض السرد الذاتي المباشر الذي يتصل بالراويين الأول والثاني .

تبدو ، أول وهلة ، علاقة الراوي الأول بحكاية امرأة القارورة علاقة واهية ، وهي كذلك من ناحية سردية ، اذا أُخذت بالاعتبار درجة الصلة بين ذلك الراوي والحكاية ، فالعلاقة السردية المباشرة ضعيفة ، ولايحصل تماسٌ يبنهما إلاّ بشكل عابر ، يُراد منه الايحاء بطبيعة تلك الحكاية ، بيد أنّ تلك العلاقة تبدو على غاية من الأهمية اذا نُظر اليها من زاوية أخرى ، وهي تنزيل الحكاية في موقعها السردي ، وضبط حدودها ، والتوطئة لها ، ووصف الخلفية التي تعطيها قيمة في سياق السرد 0 وما أن ينتهي الراوي الأول من وظائفه هذه إلاّ يتوارى ، ولكن ذلك يحدث ّ بعد ان يروي هو حكايته الخاصة به ؛ حكاية التمزّق بين الإكراه للالتحاق بحرب لا يؤمن بها إنما يُدفع اليها مُكرها ، ومحاولاته السبع للفرار منها ، في إصرار عجيب لا يعرف الضعف والتهاون ، وبين الشوق الدفين الذي يتملّكه منذ صباه لـ أوروبا 0 ورفض الحالة الأولى (الحرب) والاستغراق في الثانية (أوربا) أمران مرتبطان في ذهنه , ارتباط نتيجة بسبب ، يقول: طيلة سبعة أعوام لم أكن أدرك من الوجود غير أهوال الحرب ، وذلك الشوق الدفين للهروب نحو حلم تملّكني منذ صباي أوربا . مامضى يوم إلاّ وكنت ارسم من عذابات الحرب لوحة لأوربا , كإلهٍ تعس يصنع من أطيان كوارثه مخلوقاً سامياً قادراً على منح اللذة لخالقه . من شبقي المكبوت نحتُّ جسد أوربا ، ومن تجارب حبّي الفاشلة صنعت قلبها ، ومن حاجتي إلى الراحة والأمان رسمت ملامحها الخضراء ، ومن توقي الى العدالة ، والانعتاق خيّطت لها ثوباً أبيض فضفاضاً يرفرف كأجنحة فراشة ويضمني بين ثناياه كما تضمني أم في عباءتها السوداء . أوربا صارت مخلّصي المنتظر وأرضي الموعودة . حتى عذاباتها كنت أراها أكثر استساغة من أمثالها في بلادي (16) 0 مايلاحظ هنا أن التمثيل السردي ينتج عالمين متناقضين: عالم الشرق حيث ينتمي الراوي،وعالم الغرب حيث يتمنّى ، والرؤية السردية لهذا الرواي لاتعرف الحياد 0 إنها تركّب صورة مكروهة وممقوته للمكان الذي انبثق منه ( الشرق) ، وتركّب صورة احتفائية ورغبوية واستيهامية للمكان الذي ينشده( الغرب) ، إنها ثنائية الخفض والإعلاء، التبخيس والتبجيل، الكامنة في وعينا المعاصر وفي ثقافتنا0 وسوف تطّرد هذه الرؤية نفسها عند الراوي الثاني ، كما سنرى . على أن الموضوع الذي هو مدار عنايتنا هنا هو علاقة الرواي بالحكاية ، فقبل أن تتشكّل أطرافها يعلن الراوي عن عدم وجود علاقة له بها 0إن المصادفة وحدها هي التي جعلته يعرفها ، ولذا فان مسؤوليته عنها تتصل بالمساعدة في نشرها فقط 0 والدفع باتجاه فصم العلاقة بين الراوي الذي يتقّنع بقناع المؤلف والحكاية ، إنما هو لعبة سردية شائعة في الرواية العالمية والعربية ، تمثلها غالباً الصيغة المتداولة الآتية : إن المؤلف عثر على حكاية مجهولة ، وإن دوره سينتهي بنشرها وهو لايتحمّل أية مسؤولية عمّا ورد فيها 0 وهذه الصيغة بذاتها هي أكثر المداخل شيوعاً الى السرد الكثيف (أشهر وأقرب الأمثلة رواية اسم الوردة لـأُمبيرتو إيكو) ، اذ انها تبرمج الاطار العام لبناء النص السردي على نحو يحتّم ظهور ذلك السرد ، بتشعباته وتفاصيله الكثيرة 0 وقد أخذت بها هذه الرواية تماماً ، وبالغت في ذلك ، فخصّص فصل كامل ، هو ( فصل ابتدائي ) ليس فقط للبرهنة على عدم وجود صلة بين الراوي الأول والحكاية ، إنما لعرض الحكاية الشخصية لذلك الراوي ، فالمبالغة في نفي هذا النوع من العلاقة إنما هي مبالغة في تأكيدها ، يقول الراوي : قبل الولوج في عالم هذهِ الحكاية الغرائبية مع ( امرأة القارورة ) العجيبة يهمني أن أعلمكم منذ الآن اني لست مسؤولاً عنها ، ولم أشارك في أي من أحداثها ، وخيالي بريء منها . في الحقيقة اني أُجبرت على نشرها من باب الواجب لاأكثر ، منذ أن عثرت على هذهِ الحكاية بطريق المصادفة قبل أسابيع ، وانا متردد في احراقها أو رميها في البحيرة (= بحيرة جنيف) ، وقد فشلت جميع جهودي لاكتشاف شخصية كاتبها الحقيقي ، إني انشرها ولم أحاول أن أغيّر في سطورها أية كلمة، تركت المخطوطة كما سلمتني إياها سيدة الحانة (17)0 وسوف يستثمر الراوي هذهِ الفرصة للبحث في الظروف التي جعلت الحكاية تصل إليه 0 وذلك مجرّد مسوّغ يُستغل كغطاء لعرض حكايته الشخصية التي تستأثر بالأهمية الاستثنائية 0 فالرواي ، مستعينا بالسرد الكثيف كوسيط تمثيلي ، يتبطنّ شخصية المؤلف للإعلان عن مواقف آيديولوجية وثقافية ، والتصريح بآراء مزدوجة الإنتماء تتصل بالعالم الرمزي للنص من جانب وبالمحضن التاريخي له من جانب آخر، وكما رأينا في تركيب صورة تعارضية للشرق والغرب من قبل في رواية النخّاس ،فإن الصورة ذاتها ترتسم في امرأة القارورة لكنها مقلوبة الدلالة0 فالراوي يمضي في وصف حالة الإستياء والتبرّم التي دُفع اليها، وهي حالة المشاركة في حرب لاتعنيه. وهذه الحالة بذاتها ستكون محفّزا حيويا بالنسبة له للبحث عن نوع من الحرية التي يحلم بها، ولهذا تتعاقب محاولات فراره من الحرب سعيا لإشباع تلك الحاجة التي بمقدار ما هي رغبة ، فانها موقف من العالم الذي يعيش فيه، وهجاء له، فالشرق طارد والغرب جاذب0 وفي اصرار يناظر اصرار بطل رواية الفراشة يفلح الراوي في الوصول الى جنيف ليجد أن حكاية امرأة القارورة في انتظاره ، حكاية الشرق السرية المعمّدة بالألم ، وبتسهيل نشرها يختفي 0 لكن القضية الأكثر أهمية في سياق السرد هي أنه توارى بسبب نجاحه في رهان لايمكن أن يفشل فيه أمثاله، لقد انتزع مكانا رفيعا لحكايته الشخصية، ولايمكن لأحد أن يمر عليه ، دون ان تلفت أنظاره تلك الحكاية لأنها البوابة التي من خلالها يدلف إلى الحكاية الأم 0

بعد أن يتوارى الراوي الأول الذي يعتبر المدشّن الرئيس للحكاية والمُمهد لها يظهر آخر يلتصق بظاهرها قبل أن يتماهى معها ، ويصبح جزءا منها 0وإلى هذا الراوي تُعزى كل السمات الفنية للعالم التخيّلي-السردي الذي يحتضن حكاية امرأة القارورة ، ومع أنه يماثل الراوي الأول في اختيار الغرب مكانا للحياة استنادا إلى جملة أسباب دفعته إلى ذلك ،وانه يعيش بوصفه فردا باحثا عن اللذة في مختلف أشكالها إلاّ أن درجة حضوره في السرد تفوق درجة حضور الأول، ورؤيته أكثر وضوحا ، وحياته أكثر تنوعا،وهو بلغة إيروتيكية – فنطازية مشبعة بالإيحاءات الرمزية يقوم بتشكيل العالم التخيّلي للنص، ويموضع امرأة القارورة فيه سواء في جذورها وامتداداتها التاريخية الرافدينية أو في حاضرها الآن 0 فتتدرّج علاقته بالحكاية من كونه في البداية مجرد راو إلى أن يستأثر بمكانته بوصفه شخصية لها موقعها ودورها في الحكاية0 مع ملاحظة التكتّم على الاسم ، وينتهي الأمر به ليكون مشاركا للشخصيتين الأساسيتين هاجر وآدمفي حياتهما ومصيرهما. وكما كنا قد رأينا ذلك في حالة الراوي الأول ، فان هذا الراوي ، وبإصرار أكثر حدة وبطريقة أفضل ، ينجح في إيجاد درجة عالية من التناغم بين حكايته وحكاية آدم و حكاية هاجر0 وعلى هذا فان حضوره في النص يظل قائما لملازمته الشخصيتين المذكورتين،وخلال ذلك يمارس ضروبا من الأفعال ، ويتفّوه بسلسلة لانهائية من الأقوال التي تكشف منظوره الشبقي الذي يجعله منغمسا في عالم اللذة إلى أقصى درجة ممكنة 0إنه باحث دائم عن المتعة ، يتصيّدها ويقتفي آثارها حيثما تكون ،ولا يتردد في التصريح بأنها جوهر وجوده ومدخله إلى الحياة والعالم ، وقد اختار الغرب ليتمكن من الاقتراب إليها 0إنه يتجدد بمقدار استغراقه الجذري في المتعة الجسدية، يقول ليس في حياتي غير الرسم والحب، وفي كلتا الحالتين المرأة هي الغاية والموضوع. كنت صياداً والليل هو نهري ، كنت لا أتعب ولا أملّ، وفي صبر الصيادين تكمن قوتي. أرمي صنّارتي في نهر الليل مرات ومرات دون كلل حتى الفجر، مرة تخرج لي علبة صدئة ،ومرة ضفدعة ، ومرة غصن شجرة ، ومرة سمكة فاطسة ، حتى تصيد تلك البُنيّة الهائجة التي تظلّ تَلْبُط بين يدي لأشويها وتشويني على نيران شهواتنا حتى الصباح0 ويكتسب هذا المنظور أهمية خاصة لأنه سيعيد إنتاج كل الأشياء طبقا لمقتضياته ، وفي مقدمة ذلك هاجر امرأة القارورة ، فمهما تعدّدت أوجه تأويلها ،وتنوعت أبعادها الرمزية ، فهي آلهة للذة الجسدية، والراوي لا يراها إلا باعتبارها وريثة تجربة في اللذة يزيد عمرها على خمسة آلاف عام ، لذة بلاد الرافدين الجارفة والعريقة 0 وحتى آدم المتقشّف جسدياً ، ينتهي بتوجيه مزدوج من اليقظة التي توقدها امرأة القارورة في كيانه ، ومنظور الراوي الذي يلح على البعد الايروتيكي للحياة ، إلى شخصية مخالفة لمعايير التزهّد الجنسي الذي كان عليه من قبل .

وهكذا فان منظور الراوي الذي ينظّم مسارات السرد ، ويُسقط عليها شلالات من الإيحاءات الجنسية ، ويفلح في إضفاء شبكة دلالية معقّدة ترشح باللذة في تضاعيف النص 0 بانتهاء الاعتصام الجنسي لـ آدم فان ينابيع اللذة تتفجر في كل مكان 0 على أن كل هذا لا يلغي بعد شخصية الراوي من ناحية الخلفيات والتكّون ، لكنه يقصيه إلى الوراء ، ويدفع إلى الأمام بشبقيّته ؛ فالنهم بالجسد وتفاصيله يستأثر بالعناية الأساسية 0 وبما أن حكاية امرأة القارورة تتجلّى عبر منظوره ، وتتدفّق من خلال رؤيته، فإن ذلك الراوي يُشغل أولا بنفسه قبل أن تمر من خلاله تلك الحكاية ، وفي كل مرة يعيد ترتيب وضعيته بما يجعل حضوره باهرا ومشعاً وأخّاذا ، فيعلن عن نفسه في مطالع الفصول الأربعة التي يتكّون منها النص ، مستخدماً صيغة المخاطبة مع مروي له يُدغم بالمتلقي / القارئ 0
إن الأمر الذي يستثير الملاحظة ، هو: فضول الراوي في الإعلان المتواصل عن نفسه 0 فهو يؤكد ، أنه البوابة الوحيدة التي من خلالها يمكن المرور إلى حكاية امرأة القارورة 0 ومن هذهِ الناحية فان سرده يتضمن كثافة هائلة تجعله حاضراً بطريقة لافتة للنظر في كل ثنايا النص 0 ومن الجدير بالذكر هنا أن سعيه في ألاّ يكون مجرد وسيط تعبر عليه الحكاية ، جعله في الصفحتين الأخيرتين يندمج تماماً في عالم الحكاية ، فاستبدل بصيغة الإفراد التي كان يستعملها طوال الرواية، صيغة الجمع ، وبوساطة ضمير الجمع للمتكلمين ختم الرواية في مشهد معبّر عن نجاحه في أن يكون عنصراً من الصعب الاستغناء عنه إلى جانب هاجر و آدم في حكاية امرأة القارورة0 والجنين الذي تحمله في الأصل مارلين ، لا ينفلت من رحمها ، إنما -كما يقول الراوي- ينبجس من دوامتنا ويطفو مع قارورته فوق الماء ويزحف على الشاطئ باتجاه حقول وبساتين وينابيع نيران أزلية .وبإزالة الحجب السردية الكثيفة التي تلفّ حكاية امرأة القارورة ، قصدتُ بذلك مستويات السرد التي تمثلها منظورات الراوي الأول والثاني ، تتجلّى الحكاية الباهرة المشعّة: حكاية التحولات المستمرة ، والعلاقات الغريبة، وتحديداً حكاية هاجر رمز الترحال والهجرة الأبدية ، والأسطورة الأنثوية العائمة فوق التواريخ والأوطان ، والحلم الذي يسعى كل الذكور إلى نيله0 ومع أن السرد يبدأ يُفصح عن الحكاية ، وتخفّ كثافته ، وتشتدّ شفافيته ، إلاّ أن صوت هاجر مازال يمر خلل وسيط سردي ثالث ، إنه يتدخل ويعيد صياغة ما ينبغي أن يكون صوت هاجر المباشر ، ويستبدل الضمائر ، ويغيّر الصيغ ، ويلخّص حيناً ، ويسترسل حيناً آخر ، ويحفر وينقّب ويعلّل ويصف ويؤوّل لكنه لا يحجب ولا يستبعد أحدا،وهو في الوقت الذي لا يختفي فيه تماما،فانه يتوارى ويتقشّف في الإعلان عن نفسه بطريقة ملفتة للنظر0 إنه ضمير ماكر لعوب، يجيد لعبته الذكورية ، فيعيد إنتاج حكاية امرأة القارورة طبقا لتصوراته الثقافية والجنسية كذكر خاضعا لفكرة التنميط الثقافي لذكورته ومسقطا التنميط ذاته عليها كأنثى، دون أن يأخذه الفضول في الإعلان عن نواياه الحقيقية 0 وستقترن الحكاية بهذا المستوى من السرد إلى النهاية ، لأنها عبارة عن التشكيل الخطابي الذي يكوّنه صوتان متداخلان: صوت هاجر وصوت ذلك الضمير الغائب المجهول الذي من خلاله يمر إلينا صوتها.فكل أنثى بحاجة إلى وسيط ضمن ثقافة مشبعة بقيم الذكورة! ! !0

تندرج حكاية امرأة القارورة في نظام دائم التحوّل ، وبذرة التحوّل التي توجّه كل شيء ، وتكون سبباً له ، هي هاجر المتحوّلة من كائن فانٍ ، إلى كائن خالد ، ثم إلى كائن فانٍ مرة أخرى 0 وهذا التحوّل المركزي ستمتد آثاره إلى فضاء الأحداث والشخصيات وإلى السرد نفسه، وعلى هذا فان نظام العلاقات المتحوّل هو أشدّ ما يثير الاهتمام في النص ،إذ ليس ثمة وضعيات ثابتة ، بل هنالك صيرورة دائمة ، وهو الذي يغلّب البحث في العلاقات على البحث في الوضعيات 0 والحقيقة فانه بسبب نظام التحولات الذي يهيمن في رواية امرأة القارورة ينتهي كل شيء إلى غير ما بدأ به ، حتى الوضعيات الابتدائية التي يمهّد لها السرد ، سرعان ما تلتحق بنظام التحولات الشامل في النص 0 فالرواة و آدم ومن ثم الأفعال والفضاءات ، تستجيب لمبدأ التحوّل في شخصية هاجر التي كانت سلسلة متواصلة الحلقات من التحوّل المستمر ؛ من كونها امرأة عاشت في أور بعد الطوفان ، إلى حبها الجارف للشاب تموزي ثم زواجها منه ، والإغراء بالخلود لتكون حبيبة وعشيقة دائمة ، وانتهاءً بفك طلسم الخلود عنها بعد خمسة آلاف سنة 0 وخلال ذلك تتجلى من خلال أصنام أنانا ـ عشتار ، فتثير الغيرة في نفس كيجال آلهة العالم السفلي ،وبمقتل تموزي يغتصبها ملك غريب ، يتضح إنه ابنها ، واعتباراً من هذه المرحلة تصبح هاجر أمّا وعشيقة مستباحة لمائة وخمسين من الأبناء والأحفاد الذين يتوالون عليها في نهمٍ شبقي هو ومزيج من العشق والاغتصاب 0 وحين تنتهي إلى الحفيد الأخير آدم تتدخّل جملة ظروف تفضي إلى إزالة الخلود عنها،والعيش بوصفها امرأة معرّضة للفناء شأنها في ذلك شأن جميع البشر 0 وفيما يقوم بتخليدها شيخ بسيماء نبي ، يقوم شبيه له ـ ربما نفسه ـ بتخلصها من الخلود 0 وبين هاتين اللحظتين يفترع عذريتها المتجددة رجال تناسلوا منها : طغاة، ورسل ، وأدعياء ، وسحرة ، وملوك ، وأنبياء ، ومطاردون ، وضحايا 0 في مقدمتهم تموزي ، وبينهم إبراهيم وموسى وفرعون وخاتمهم آدم 0وكل هذا يحُدث تحولاً في جملة العناصر الفنية المكوّنة للنص ، فالشخصيات تغيّر انتماءاتها فتهجر بلادها وتلجأ إلى بلاد أخرى ، وذلك يؤدي إلى تغيير كامل في الفضاءات السردية ، وتغيير كامل في نسق الأفكار التي ترددها الشخصيات بحسب الفضاءات التي تظهر فيها . إن السرد ذاته يتحوّل من كونه سرداً مغرقاً في كثافتهِ إلى سرد أقل كثافة ، ثم أخيراً إلى سرد هو مزيج من الكثافة والشفافية . وفي التفاته معبّرة عن نظام التحول الدائم يقفل النص سرديا بمشهد هو ذروة التحولات ، وبه ينفتح أفق آخر للتحولات الدلالية 0 ففيما يرجّح أن هاجر قد اقتيدت أسيرة ورهينة إلى البلاد التي ولدت فيها، يُحدث فناؤها تحولاً في مصائر الشخصيات الأخرى : الراوي ، و آدم ، و مارلين 0 فالسائل الذي عبّأه الشـيخ من سيناء في القارورة وحلّ محل هاجر مُزج بالنبيذ الأحمر ، وبالارتواء منه فاض الخلود على تلك الشخصيات 0 وفيما كانوا فانين و هاجر خالدة ، أصبحوا خالدين وهي فانية ، وفيما أفلحوا في تحقيق حلم الحرية الدائم كُبّلتْ هي بقيود البلاد التي ظهرت فيها . فتقاطعت المصائر في نوع من التحوّل الدائـم 0

ينتهي النص حينما يكف السرد عن تجهيز المتلقي بمصائر أخرى للشخصيات ،وتنتهي الرواية ككتاب ، لكن التفكير في أمر صوغ الأحداث وتحولاتها الدائمة لاينتهي ، فكل نص يفجّر مشكلة لدى المتلقّي 0 وقد يكون النص الروائي نفسه اطاراً مناسبا للحديث عن تقنيات السرد وطرائق تركيب المادة التخيلية ، كما سيتكشّف لنا ذلك في الفقرة الآتية0

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريد الصباح العراقية/ 12/4/2009

 

تناوب الواقعي والغرائبي في” امرأة القارورة

 

الناقد العراقي  فاضل ثامر


منذ البداية تعلن رواية "امراة القارورة "للروائي العراقي سليم مطر عن نفسها بوصفها رواية تنتمي الى مخيلة فنطازية جامحة. فامراة القارورة،هي ايقونة او تعويذة يحملها بطل الرواية (آدم) عبر المدن في منفاه

تذكرنا بمصباح علاء الدين السحري الذي يخرج من جوفه مارد عملاق يلبي طلبات مالكه.فهذه القارورة العجائبية يخرج من جوفها عند لمسها ضباب خفيف سرعان مايتجلى في صورة امراة حقيقية .ومثلما يخرج المارد ليقول لمالكه (لبيك لبيك،انا عبدك بين يديك) في قصص الف وليلة تخرج هذه الامرأة الساحرة لتقول لحامل القارورة آدم: (سيدي لاتخف اني لك ولاجلك جسدي لجسدك وروحي لروحك .. ملذات عشرات القرون والاسلاف امنحها لك..)(ص33)
وهكذا تقيم الرواية تناصا بنيويا وسرديا مع حكاية المصباح السحري في (الف ليلة وليلة) لكنها تنحو منحى اخر، ربما اكثر واقعية ومرارة،وان لم تفارق هذا الفضاء التخييلي الغرائبي الذي تتحرك فيه .الروائي طبعا لايعتمد تقنيات الحكاية الشعبية او الخيالية التقليدية وانما يطلق قمقمه من خلال نسيج سردي معقد ومتشابك في آن واحد. فالراوي الرئيس الذي يستهل السرد يحاول ان يضع مسافة بينه وبين السرد الحكائي من خلال تقنية (ماوراء الرواية) Meta-fiction او ماوراء السرد حيث يحاول التبرؤ من السرد واحالته الى مخطوطة سلمت له في مدينة جنيف من قبل امراة غامضة هي امراة الحانة .ولهذا فهو يزعم لنا بانه مجرد ناقل او ناشر لتلك المخطوطة التي تنطوي على الحكاية الغرائبية :حكاية امراة القارورة .لكننا من الجهة الاخرى لانواجه الحكاية ذاتها وراويها الجديد ادم،بل نواجه ايضا الراوي الرئيس الذي يشارك ادم عملية اكتشاف القارورة الفنطازية حتى ليخيل لنا ان الراوي الرئيس وادم هما شخصية واحدة او وجها عملة واحدة
يعلن الراوي الرئيسي في مستهل الرواية عن علاقته بالحكاية :)قبل الولوج في عوالم هذه الحكاية مع (امراة القارورة) العجيبة،يهمني ان اعلمكم منذ الان اني لست مسؤولاً عنها ولم اشارك في اي من احداثها وخيالي بريء منها .في الحقيقة اني اجبرت على نشرها من باب الواجب لا اكثر.منذ ان عثرت على هذه الحكاية بطريق المصادفة،وقبل اسابيع،وانا متردد في احراقها او رميها في البحيرة."(ص5).
وعلى الرغم من طرافة حكاية امراة القارورة وقدرتها على شحذ مخيلة القارىء واثارة فضوله وانتباهه،الا انها ليست القيمة الجوهرية في هذا العالم الروائي الضاج .فالجوهر يكمن في تلك العوالم السرية والغرائبية التي يعيشها الراوي والبطل معا في ظروف الحروب المجانية التي كان يشنها النظام الدكتاتوري ويدفع ثمنها المواطن العراقي،وقبل كل شيء الجندي الذي يساق رغما عنه الى اتون جبهات القتال التي لاترحم احدا ولاتبقي اثراً.
والرواية من جانب اخر بحث عن الهوية :الهوية العراقية التي راحت تتعرض للتشظي واحياناً للتلاشي في عقل العراقي المغترب الذي اضطر للاقامة في المنفى هربا من الاضطهاد والدكتاتورية ولذا وجدنا المؤلف منهمكاً بدراسة موضوعة الهوية في كتابين هما (الذات الجريحة) 1996 و(جدل الهويات) 2003.
المؤلف من خلال انتاج حكاية القارورة انما كان يهدف الى الدفاع عن الهوية العراقية في مواجهة العولمة والتعريب وقسوة المنافي الثلجية .وكان المؤلف على حق عندما تحدث في كتاب (السيرة الذاتية) الذي نشره تحت عنوان (اعترافات رجل لايستحي - سيرة روائية عراقية)2008 عن الدلالة التي تحملها روايته (امراة القارورة)وعلاقتها ببحثه الروحي عن هويته :"لم اكن ادرك حينها ان (امراة القارورة) تلك السيدة الخالدة التي ظلت خلال الاف الاعوام تعيش في قارورة توارثها جيل بعد جيل ابناء عن اباء كانت هي امومتي وانوثتي وبلادي القابعة في قارورة روحي" (ص113).
ومن الملاحظ ان المؤلف يوظف ضمير المتكلم اساسا في كل مايرويه من وقائع واستذكارات، حتى ليبدو الراوي ممسكاً بتلابيب خيوط السرد ومهيمناً بصورة كاملة على حركة المشاهد والزمن فتغدو الرواية بكاملها سيرة شبه ذاتية (بيوغرافية) لحياة الراوي في البحث عن هويته الضائعة التي يحاول السرد ذاته ان يمنحها الشرعية في صراع مع حركة الزمن والوجود بمنظور بول ريكور ومن خلال تبئير داخلي وذاتي للراوي البطل.كان ادم قد نسي القارورة الخشبية التي اخذها من صندوق ذكريات ابيه ووضعها في قبو داره في جنيف، لكن المصادفة وحدها هي التي قادته إليها عندما وجدها مرمية في القبو فراح يمسدها باصابعه التي اصطدمت بغطاء يرتفع ونفذت منه رائحة بشرية وضباب وصفير خافت وحزين وصوت هامس "سيدي لاتخف.اني لك ولاجلك " (ص33) وهكذا تبدا علاقة ادم السرية بامراة القارورة التي امضت حياتها في تلك القارورة يتوارثها الابناء عن الإباء" من يمتلك قارورتي يمتلك اسرار روحي وجسدي " (ص34) هكذا نجد ان هذه اللعبة التخييلية تخلق أسطورتها الخاصة في عالم يتراوح بين الإيهام والصحو في تناوب للخطاب المثيولوجي والخطاب الواقعي داخل هالة التخييل والرؤيا.ولكي يضفي المؤلف هالة اسطورية وميثولوجية على شخصية امراة القارورة. يبتكر لها تاريخاً وسلالة وعمقاً في التاريخ عندما كان اسمها (هاجر) تعيش مع شعبها في اور بعد الطوفان الكبير حيث كان ابوها اميراً من سلالة الملك المقدسة .وبعد ان وقع (تموزي) في عشقها تعهد بمنح نصف ثروته لمن يمنح معشوقته الخلود. ويرحل تموزي مثل جلجامش بحثاً عن سر الخلود لحبيبته الى ان حققه لها شيخ حكيم ادخلها داخل قارورتها الخالدة (ص44-45) لتعيش عبر العصور خالدة داخل تلك القارورة بانتظار ايدي مالكيها وورثتها الجدد."هكذا ظلت سيدة القارورة لالاف الاعوام تنتقل من ارض الى اخرى خلال اكثر من خمسة الآف عام .. حتى ورثها ادم عن ابيه " (ص50 - 51) وقد لاحظت مبالغة في تكريس الفصل الثالث الموسوم " ماضي القارورة " لملاحقة حياة سيدة القارورة عبر العصور،وكانها كناية عن روح الانسان الرافديني عبر التاريخ والذاكرة التاريخية الخصبة للإنسان العراقي حيث انتهى بها المطاف الى (آدم) وهو ما اضاءه المؤلف في كتابه الجديد " اعترافات رجل لايستحي " عندما اشار الى ان امراة القارورة ترتبط ببحثه الروحي عن هوية وانها كانت امومته وانوثته وبلاده القابعة في قارورة روحه (ص 113) كما المحنا الى ذلك سابقاً.نكتشف خلال السرد الكرونولوجي ان راوي المخطوطة كان يجهل وجود القارورة لدى آدم الى ان طلب منه الاخير وكانا في جنيف ان يعطيه غرفته لبضع ساعات خمن فيها الراوي ان لديه عشيقة سرية لايود كشف حقيقتها:" لم يكن يخطر ببالي اي شيء عن هاجر. لم اكتشفها الابعد فترة " ص 58 ومعنى هذا ان اية اشارات سابقة انما كانت مجرد استباقات سردية مهدت لهذه المعرفة اللاحقة، حيث نكتشف ان المؤلف كان مولعاً بتوظيف مثل هذه الاستباقات السردية لإثارة فضول القارىء كما هو الحال عند الحديث عن صورة السجينة التي افحمت خيالات صباه. (ص61) تبدا إحداث الرواية من نقطة النهاية إي في العام 1988 وبالذات بعد ان وجد الراوي بطريقة ما نفسه في جنيف(سويسرا) هارباً من اتون الحرب المجانية وسيف الاضطهاد وبعد ان امضى سبعة اعوام في الحرب إي منذ العام 1981 اي العام الاول للحرب ويحاول الراوي الرئيس خلال الفصل الاول ان يمهد للمخطوطة التي ينشرها من خلال عرض الصعوبات التي واجهها في ظروف الحرب وحتى وصوله العجائبي الى سويسرا. واذا ما كان الراوي يزعم بانه سيترك السرد لراوي المخطوطة بدءاً من الفصل الثاني، لكنه نسي ذلك عندما اشار الى انه سيروي "هذه الحكاية العجيبة التي ساعرضها لكم في فصول قادمة " (ص8)وما يعزز ذلك " ادعاء سيدة إلحانة اني صاحب مخطوطة هذه الحكاية واني نسيتها عندها منذ ايام، وانها تعرفني من رواد إلحانة منذ سبعة اعوام." (ص24)ويبدو ان اسم ادم الذي سيعرف به صاحب المخطوطة، هو الاسم الذي اطلقه الراهب (عمو توما) على الراوي اثناء عثوره عليه جريحاً وفاقداً للوعي في جبال كردستان نتيجة قصف عنيف قضى على بقية رفاقه. وتكتسب الرواية بعدها العجائبي والفنطازي من خلال تعرف الراوي على تمثال امراة القارورة التي كانت منقوشة على جدران المغارة التي عمل فيها طباخاً في الجيش.وخاصة بعد ان تعرضت المغارة الى القصف وتحطم التمثال الى شظايا واجزاء اكتشف خلالها وجود ذلك النفق العجيب الذي يمتد الى اعماق الارض ويخترق الازمنة والامكنة بطريقة عجائبية حتى وصل الى سويسرا " اجهل حتى الآن كم من زمن قد مر علي وآنا ازحف بين متاهات إنفاق قادتني الى اعوام وعوالم عشتها خلال الآف الاعوام، كاني استحلت الى طاقة من نور، اطوف بين عصور واوطان واقوام .مئات المرات انولد ومئات الشخصيات عشت ومن ثم مت حتى وجدت نفسي اخرج من بين صخور شواطيء جنيف ". (ص24) لكن رواية(امراة القارورة) ظلت ملتصقة بمعاناة الواقع الحسي المرعب للمقاتل العراقي الذي كان يقاد رغما عنه الى سوح القتال في حروب خاسرة ومجانية.

بالتاكيد فان الرواية منذ بدايتها كانت إدانة وصرخة عالية ضد تلك الحرب وضد اية حرب من خلال اعتماد آلية السرد الواقعي الحديث. وبعد ان يتركنا الراوي في نهاية الفصل الاول لنقرا المخطوطة المزعومة نكتشف ان الراوي مازال معنا، وهو هنا حاضر بنصفين:

النصف الاول يمثله الراوي الضمني الذي استهل الفصل التمهيدي الاول، والنصف الثاني يمثله صاحب المخطوطة (ادم) لكننا يخامرنا إحساس اكيد بتماهي الوجهين.
وإذا ما كان السرد في الفصل الاول يتم من خلال سرد من الدرجة الاولى يدور حول الراوي البطل ذاته وتجربته ومعاناته، فان السرد في الفصل الثاني يتم من خلال سرد من الدرجة الثانية يدور حول شخصية مجسدة اخرى هي شخصية (ادم) التي تقع افتراضا خارج وعي الراوي الجديد الذي يوظف هذه المرة ضمير الغائب (هو) ليروي لنا حكاية شخص آخرممسرح هو ادم مع امراة القارورة المنحوتة من خشب الساج الاحمر التي عثر عليها مصادفةً في صندوق خشبي يضم بقايا ذكريات ابيه الجندي الذي رحل في العام السابق. (ص 26) وبالتاكيد لايمكن ان يكون من باب المصادفة ان يطلق جنود المطبخ على التمثال الرافديني اسم (امراة القارورة) ايضاً على هذا التمثال. فعملية التماهي واردة كثيراً وكاننا امام فصام سيكولوجي، وسردي متواصل.وها ان الراوي الجديد: راوي المخطوطة يميط اللثام عن بعض اوجه هذه العلاقة: " فاتني ان اخبركم اني كنت اعرف ادم منذ ان بدانا معاً ندرك الحياة.. سافرنا معاً، ومعاً خضنا تجربة اغتراب وتفتيش عن حلم.كنا كعنصرين سالب وموجب، باندماجنا كنا نصنع كهرباء وجودنا." (ص 26) كان الراوي الجديد او راوي المخطوطة يخاطب جمعاً من المروي لهم: " دون ان اطيل عليكم سرد التفاصيل، ولكي تكونوا على بينة بظروف العلاقة بين ادم وامراة القارورة هذه " (ص 28) و " طبعاً ايها السادة لا اود ان اطيل عليكم الحديث. " (ص 56) يكشف لنا راوي المخطوطة عن وصوله بصحبة ادم الى جنيف صيف 1981 إي عام اندلاع الحرب وكانا قد غادرا بغداد عام 1978، اي أمضيا ثلاث سنوات في الترحال قبيل ان يستقر بهما المقام في جنيف. (وبالتاكيد فهذه التواريخ تختلف عن تواريخ الراوي الرئيس ناشر المخطوطة الذي امضى سنوات الحرب في العراق ونجح اخيراً في عام 1988 في الهرب عبرفنطازيا نوع من (نفق الزمن) كما يبدو. ويشير راوي المخطوطة الى تكامل شخصيته وشخصية ادم: (وقد يصح القول انه كان الفكر والعقل والخوف والانطواء، وانا كنت الروح والشهوة واللهو والاندفاع. للخلاص من منفى وطن اخترنا اوطان منفى.. (ص 28) ويصف راوي المخطوطة التشابه بينه وبين ادم " كأننا توأمان في بدن واحد." (ص31)
كما شعر الراوي وهو يقف مع صديقه ادم على ضفة بحيرة جنيف بان وجه ادم يشبه وجهه، وهو ماكان يمقته: " رفع نحوي وجهه الذي بدا لي مغاليا في الفته واعتياديته، كما لو كان وجهي في مرآة. اشد ما امقت ان اكون شبيهاً به. " (ص76)
صورة الوجه المتماثل في المرآة هذه تذكرنا برواية " موسم الهجرة الى الشمال" عندما فوجئ الراوي وهو يتطلع الى وجهه في المرآة برؤية وجه مصطفى سعيد. وهذه الدلائل السردية تقدم افتراضاً حول تكاملية الشخصية المنشطرة الراوي وادم في شخصية واحدة. وتتجلى حالة التماهي في مشهد تقبيل ادم لامراة القارورة: " عندما انسابت شفتاه (ادم) على شفتيها، انسابت شفتاي ايضاً. " (ص96) وهذه الحقيقة المتمثلة في تكاملية شخصيتي الراوي وادم المنشطرتين تدفعنا الى إنارة ذلك ببعض معطيات التحليل النفسي الفرويدي للشخصية الانسانية آذ يميل فرويد الى تقسيم النفس الانسانية الى ثلاثة مستويات: القسم الاول ويطلق عليه (الهو) وهو الخزين العام المشترك لكل الغرائز والدوافع الواعية واللاواعية.القسم الثاني (اللبيدو)، وهو يرتبط اساساً بالطاقة الجنسية والغريزية، ويشير فرويد الى تنميطات لهذا اللبيدو منها(اللبيدو النرجسي) الذي يركز على (الانا) او الذات بطريقة كبيرة قد تتحول احياناً الى حالة مرضية ذهانية.اما القسم الثالث وتمثله (الانا) وتتفرع منها (الانا العليا) وهي تعنى بالسلوك المنطقي والعقلاني للنفس الإنسانية وبالالتزام بالقيم والاعراف الاجتماعية والاخلاقية الإنسانية. ويذهب فرويد الى الاعتقاد بان النفس الإنسانية هي ساحة لاصطراع هذه القوى المتعارضة وبشكل خاص بين غريزة الحياة او الشبقية الايروتيكية .Eros او (اللبيدو) وغريزة الموت و التدمير والعدوان (ثناتوس) Thenatos .ومن خلال هذا التحليل يمكن النظر الى شخصية الراوي في رواية " امراة القارورة " والى حد كبير شخصية مصطفى سعيد في رواية " موسم الهجرة الى الشمال " بوصفها تمثل (اللبيدو) النرجسي الفرويدي، وخاصة في تضخم الطاقة الجنسية، والارتماء في الملذات واحيانا ً الرغبة في التدمير. ومن الجانب الاخر تمثل شخصية ادم في رواية " امراة القارورة " والى حد كبير شخصية الراوي في رواية " موسم الهجرة الى الشمال " " الانا " وربما " الانا العليا " حيث التقيد بالسلوك العقلاني والاخلاقي في الحياة الاجتماعية.
وتثير رواية " امراة القارورة " مجموعة من الاشكاليات الكبيرة، منها اشكاليات سردية، حول مستويات تعالق ماهو واقعي وما هو تخييلي، حيث يخامرنا الاحساس في لحظات معينة بان الحكاية من جوهرها قائمة على الإيهام وان آدم انما يمارس نوعاً من الاستمناء الحلمي ليس الا. كما ان الراوي الرئيس يخلق لنفسه عالما ميثولوجياً وفنطازياً للخروج من حالة الاستلاب التي يعاني منها في الواقع اليومي.اذ يشير الراوي راوي المخطوطة في لحظة تامل فلسفية الى ذلك الواقع الحلمي عندما قال: "اتساءل احياناً ان كان تعلق ادم بعالم حورية حلمه ليس سوى تبرير لحتمية موت، ومكافحة رعب فناء، واضفاء جمال على قبح غياب... (ص142) ومن الاشكاليات السردية تلك التي تتعلق بشخصية الراوي الذي يدير السرد في متن المقدمة (الفصل الاول) وراوي المخطوطة الذي يدير السرد في الفصول الخمسة الاخيرة التي تمثل المتن الاصلي للرواية. وعلى الرغم من زعم الراوي بانه لاعلاقة له بالمخطوطة وسردها، لكن يخامرنا الشعور بوحدة هذين الراويين او الساردين وهو مااكدته سيدة إلحانة في جنيف والتي اخبرته بانه كان قد سلمها تلك المخطوطة في زمن ما، عندما كان احد رواد حانتها المعروفين. ومعنى هذا ان الراوي الذي عاش في ازمنة واماكن كثيرة هو الذي كتب المخطوطة، فيكون هو الراوي الرئيس للنص الروائي، مع الاخذ بنظر الاعتبار الى تباين الكثير من المرويات والحكايات والوقائع والتواريخ، وهي اشكالية سردية اخرى، لكنها يمكن ان تعد مسوغة ضمن اليات السرد العجائبي او سرد الواقعية السحرية الذي استمد منه الروائي الكثير من المقومات والمستويات السردية والبنائية اذ لايمكن فهم هذا التعارض بين المرويات المختلفة، التي يفترض ان يكون قسم منها واقعياً، فضلاً عن مرويات حلمية ورؤى متخيلة تحاول ان تؤثث لها نسيجاً سردوياً واقعياً ومنطقياً. فهناك رحلة الراوي الرئيس ومعاناته في زمن الحرب المجنونة وهربه من ذلك الواقع بطريقة سحرية غامضة شبيهة باللعبة التخييلية التي تعتمدها بعض روايات الخيال العلمي في الانتقال عبر مايسمى ب " نفق الزمن " للعبور الى اماكن وازمنة اخرى، وهو ما سبق للقاص الانكليزي ه.ج.ويلز وان جربه في روايته " آلة الزمن " في وقت مبكر من القرن العشرين، وحذت حذوه لاحقاً روايات من الخيال العلمي وافلام سينمائية كثيرة. آذ نجد ان التواريخ والوقائع التي يذكرها راوي المقدمة ومنها اشتراكه في الحرب للفترة من 1980وحتى 1988 ومن ثم خروجه السحري وتلك التي يوردها راوي المخطوطة الذي يشير الى انه قد غادر العراق قبيل الحرب اي عام 1978 وانه امضى ثلاث سنوات بصحبة ادم حتى حط بهما الرحال في جنيف في عام 1981. كما ان لقاء الراوي بامراة القارورة يبدو مثل الحلم لانه كان يحدث مراراً ويعود الراوي ليكتشف حلميته وايهاميته، كما حدث ذلك عندما صحا الراوي من حلمه ليكتشف انه كان وحيدا في غرفته (ص 88). ولايمكن ان نجزم فيما اذا كان لقاء ادم ومادلين والراوي بسيدة القارورة في الحانة حقيقياً او تخيلياً، لانه عندما يفتح عينه يجد نفسه وحيداً على الشاطئ وقد اختفي ادم وقارورته. (ص110) في الواقع يمكن ان نعد تعدد زوايا النظر في تقديم هذه المرويات عامل قوة لطبيعة السرد التخيلي الذي تعتمده الرواية. اذ نجد مرويتين عن كيفية وصول القارورة الى ادم، الاولى تتمثل في عثوره عليها ضمن صندوق يضم ذكريات ومخلفات ابيه الراحل فيلتقطها معه ويرحل خارج العراق. والثانية يرويها الراوي راوي المخطوطة في رحلة حلمية تخيلية عندما شد والده على كتفه واخرج قارورة خشبية، وعلقها برقبته وهو يقول " اني ورثتها عن اسلافي، وها انا اورثها لك لتورثها انت بدورك الى نسلك " ...(ص84)ومن الاشكاليات السردية والفكرية الكبرى التي كشف عنها السرد الروائي القرار المفاجئ الذي اتخذه (ادم) بتحرير امراه القارورة من سجنها وتحويلها من كائن خالد الى كائن فان. وقد كلفه ذلك وصديقه الراوي السفر للبحث عن الشيخ الذي منحها الخلود قبل خمسة الاف عام والذي يعيش في احدى مغارات جبل سيناء حيث قدم لهما زجاجة فيها سائل اذا ما وضع في القارورة تفقد امراة القارورة خلودها وتعود انسية. وبعد وضع السائل في القارورة لم تعد هاجر امراة القارورة. (ص 131)
لكن هذا القرار قاد الى " كارثة " حقيقية اذ رفضت السلطات السويسرية منحها حق اللجوء واعادتها بالطائرة الى العراق، وهو ما اورث ادم ورفيق رحلته الراوي احساساً بالاثم والذنب ازاء المصير الغامض الذي ينتظر امراة القارورة عند وصولها الى العراق. لكن هذا الكابوس يمتزج ثانية بحالة حلمية تخييلية " اخرى عندما ينبجس من دوامتنا جنين يطفو مع قارورته فوق الماء:وعبر لجة الحيرة وغبش الرؤية تتجلى سيدة القارورة فوقنا شامخة بقامتها الخلابة ". (ص148) وبهذه الضربة التخييلية يطرح الراوي سؤاله الختامي ": من هنا تبدأ حكايتنا الحقيقية القادمة." (ص 148) وكأنه يستعير لغة المسلسلات التلفزيونية التي تنتهي بنهايات مفتوحة على حكايات مثيرة جديدة. وهذه الاشارة السردية ضافت الى اشارات اخرى تصب في مجرى تعميق الطبيعة الميتاسردية او الميتا روائية لرواية " امراة القارورة " خاصة في الاتكاء على مروية ملحقة متمثلة في المخطوطة التي سلمتها الى الراوي سيدة الحانة في جنيف. كما تكتسب دلالة خاصة في هذا المجال المقدمة الميتاسردية التي يستهل بها الروائي الفصل السادس والا خير من الرواية: " لكي اجنبكم الملل من الإسهاب في سرد الحكاية ادخلكم مباشرة في فصل انتقالي ويمكنكم اعتباره (اخيراً) ان كان لكل بداية آخرة " (ص129) حيث نجد هذا التوكيد على قصدية السرد والكتابة الميتا رائية. روائية " امراة القارورة " من الروايات التجريبية العراقية الجريئة التي تفيد من تجربة مدرسة " الواقعية السحرية " لدى ادباء اميركا اللاتينية وتنجح في توظيف الإرث الميثولوجي التاريخي والشعبي لبلاد الرافدين وربطه بطبيعة الفرد العراقي ومعاناته في عصرنا من خلال بحث مضن عن الهوية والذات والجمال والجوهر الانساني الكامن داخل اعماق الإنسان العراقي. وهي فضلاً عن ذلك رواية موقف رافض لاشكال العنف والقهر والحرب وصرخة مدوية من اجل الحرية وإدانة لانظمة الاستبداد والتسلط الشمولية في مزاوجة موفقة بين مستويات السرد الواقعي الحديث ومستويات السرد الواقعي السحري او الايهامي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موقع كتابات10/6/2009

 

سليم مطر في (إمرأة القارورة)

  

النص المفتوح وإشكالية التشتت

 

وديع العبيدي

ثمة مغزيين في العبارة التي يحملها الغلاف الداخلي للكتاب [مغامرات إمرأة عمرها خمسة آلاف عام]؛ الأول: التشويق والاثارة، مما قد يضيفه الناشر للترويج، أو وضعها المؤلف؛ لمراوغة القارئ والايحاء اليه انما هو أمام حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة أو حواديث الجن والحوريات. وهنا يتحقق الهروب منذ اللحظة الأولى مع سبق الاصرار والترصد وبعدة مستويات:

1- هروب من العسكرية والحرب.

2- هروب من الواقع إلى المخيلة.

3- هروب من المكان إلى الميتافيزيقا.

4- هروب من الوطن إلى الخارج.

5- هروب من الهمّ الرئيس الشاغل إلى فكرة جانبية غير مؤرقة.

6- هروب من الذات إلى المجرد.

7- هروب من الدكتاتور/ الموت إلى المرأة.

هذا الهروب اختزل معالجة ثيمة الحرب والدكتاتورية في واحدة من الروايات المبكرة الصادرة خارج منشورات أدب المعركة وحلّق بها في آفاق تفاوتت بين الميثالوجيا والفكر التجريدي. ان هروب الكتاب من تحمل وزر ثيمة رئيسية والتوجه بها نحو القارئ بعيداً عن المراوغة والالتباس قاد إلى أمرين: أولهما استنزاف امكانيات الكاتب الفكرية والأدبية في كتاب واحد (146 ص). والثاني صعوبة تقديم كتاب لاحق بنفس المستوى الفني. وهذا يؤشر مبلغ الخسارة الفنية لمقدرة روائية مميزة، أرادت أن تقول كل شيء وتحقق كل شيء دفعة واحدة، فتنقلت من الحرب والسياسة إلى التاريخ والدولة والدين والمرأة في لهاث واحد دون أن تمنح كل واحدة الفرصة الكافية للمعالجة، فكانت (إمرأة القارورة) وثيقة معرفية ودالة على موسوعية ثقافية وهمّ فكري شاغل في أكثر من اتجاه. ففي حين يغري المؤلف قارئه بما يقدمه من أفكار على مائدة روايته، يحرم (قارئه) من الاقتراب من تلك الافكار أو تكرار المحاولة.

تبتدئ الرواية بسرد (جندي) عن تذمره من العسكرية ومحاولات هروبه (السبعة)، ثم استعراض الهروبات بنفس لا يخلو من روح المغامرة والأعاجيب وما يتعرض له من حوادث ويلتقيهم من شخوص وأجواء. وكل تلك الهروبات تنتهي بالفشل وإعادته لوحدته بما فيها هروبه الأخير الذي يعيده إلى مطبخ المراتب ولقائه بتمثال الأنثى وما يدور حوله من قصص وحكايات. هذا العرض السريع والحكائي لقصص الهروب من الجيش العراقي وهو في حالة (حرب) التي تمثل حالة تعبئة استثنائية شاملة بالمفاهيم العسكرية، قدّم صورة مسطّحة للحياة العسكرية العراقية وظروف حرب الثمانينيات التي قصمت ظهر أجيال من الشباب العراقي وأوصلت الوطن إلى الهاوية، وإلى وضعه تحت الوصاية الايرانية بشكل مباشر أو غير مباشر بعد خمسة عشر عاماً. فالسبب الذي يبرر به فكرة الهروب ليس عادياً وانما يتضمن الكثير من الاستسهال والسذاجة، وكأن الذين لا يهربون مقتنعون بالحرب أو أنهم يريدون (النصر أو الشهادة) حسب الشعار العربي الخالد. انه لا يريد الموت في حرب بينما قادة الطرفين (يتناكحان). ان رفع المحكي (المتداول) إلى مرتبة المكتوب الأدبي والتاريخي يمنح النص مصداقية وشفافية عالية. بينما اختلطت الجديّة التي تنطوي عليها حالة الحرب والموت بحالة معاكسة من الاستهانة. لقد صوّر الفصل الأول جانباً مباشراً من شعور الجندي العراقي في ظل الحرب، ولكن هذا الجانب بقي خالياً من العمق الفكري ومجرداً من الأبعاد النفسية التي يوظفها المؤلف في مكان آخر وفي اتجاهات أخرى في الرواية. قد يبرر المؤلف مروره السريع هذا بكونه هامشاً ضيقاً للانتقال إلى ما يعتبره فكرة الرواية الرئيسية [الأنثى/إمرأة القارورة]. بينما يمثل الفصل الأول ومجرياته القاعدة الاساسية التي تقوم عليها كل بنية الرواية وليس بنية التمثال فقط، والهشاشة في جانب منه سوف تنعكس على جوانب أخرى. ولو أن المؤلف بذل جهداً مضاعفاً لتغيرت صورة العمل تغيراً كاملاً وجعلتنا أمام مشهد آخر وحديث آخر. إشكالية (إمرأة القارورة) هي إشكالية الجاهزية التي تعاملت بها وكتابتها خلال فترة قياسية مستعجلة، أنها ليست رواية المؤلف، ليست رواية البطل. انها رواية البطل المنشطر المتسم بالعجلة والتهور، أو أنها رواية الذهان المتأرجح بين شخصيتي [آدم/ كمال]، المفكر المتأمل في قطب والمتسرع المتهور في القطب المقابل.

لم يرد في سرد أي من تلك الهروبات شيء عن سلطة الخوف وجوّ الارهاب الذي يعشش في زوايا الذات العراقية وجغرافيا البلاد. كما اختزل المؤلف الصور والأساليب التي يلجأ إلها الجندي للتغطية على هروبه وتمرير نفسه عبر نقاط السيطرة وعناصر الانضباط العسكري التي يطلق عليهم الجندي لفظ (الزنابير)، وقوى الأمن الداخلي والعناصر الحزبية التي كانت تتمتع بصلاحية رمي وإعدام كل جندي يشتبه بهروبه. وقد أهال على بعض [المقيمين خارج المدن] صفة النخوة والحماية التي تدفعهم للمجازفة بوضع أنفسهم في كماشة النظام. لقد قلب ثمانينيات العراق المجتمع العراقي رأساً على عقب، فجعل قاعدة المجتمع في الأعلى (الحزب والدولة والجيش) وجعل هرم المجتمع من النخب الاجتماعية والمثقفة في نهاية السلم، وظهر رأس السلطة في غير مناسبة ليؤكد أن

(إمرأة القارورة).. مفهوم الجماعة وإشكالية الهوية

ليس بهذا الغموض، وبغرائبية أقل، تأتي (امرأة القارورة) للكاتب والمفكر سليم مطر، محملة بخطاب متعدد وبنية متعددة، دون أن تخفي رؤيتها السياسية. يمحور الكاتب فكرته حول تمثال (امرأة) داخل مبنى أثري على الحدود بين العراق وايران، استخدمه الجيش العراقي خلال حرب الثمانين مطبخاً للمراتب (جنود الوحدة). الراوي هنا جندي عراقي في مطبخ المراتب، يقضي وقت استراحته مستلقياً أمام التمثال متمعناً فيها وفي القصص المتداولة حولها. تبدأ الرواية بسرد الجندي لحياته العسكرية في حرب ليس له فيها ناقة ولا جمل، مستعرضاً قصص هروبه (السبعة)، وملابسات كل هروب وملحقاته، مذكرة بسواليف الغزوات الشفاهية، وصولاً إلى تنسيبه للعمل في المطبخ. بعد ذلك تتخذ الرواية بعداً آخر، يتنقل بين الميثولوجي والتاريخي والفلسفي وصولاً إلى الروحانية، وذروة الخطاب الوجودي المحض في الصفحات الملحقة في آخر الرواية. مبتدئة من ثيمة الحرب (الأرضية)، منتهية بثيمة (وجود) قائم على عبث ونزوة. ليقول أن للالهة نزوات ورغبات وسأم كالانسان الذي خلقته على غرارها. لكن تعويل الكاتب على خيط آخر من المعنى، لعلّه التبس في ظل التعددية.

فالخطاب السردي ينقسم وفق ذلك إلى ثلاثة مستويات:

1- خطاب ذاتي/ اجتماعي، يبدأ بالجيش والحرب ويمتدّ الى اللجوء وملابساته وقصة تسليم اللاجي وإعادته عن طريق البوليس.

2- خطاب تاريخي ميثولوجي، محوره (إمرأة القارورة)، يتداخل فيه الخاص والعام ويتضافر له التاريخ بعهوده القديمة والوسيطة وما بعد الوسيط والمعاصر، موظفاً لها نسيج العائلة وأجواء العلاقات الاجتماعية، لتبرير انتقال روح (إمرأة القارورة) عبر آلاف السنين من زوجة ملك سومري لاجئة مرفوضة في سويسرا بعد أن تكون جابت المشرق والمغرب عبر التاريخ.

3- خطاب فلسفي ديني/ وجودي، يتناول ظاهرة الدين والحاجة الروحية وفكرة الربوبية كمنطق متدرج يتوج الهرم الديني السلطوي. وفي هذا السياق تظهر إشارات الى طقوس ومظاهر المتصوفة وتأثيراتهم (الخارقة) على روح هذه المرأة. وبشكل تلتبس معه العلاقة وصولاً إلى خطاب وجودي يتراوح بين شعري صوفي إلى تجريدي محض.

ان السؤال الذي يشغل القارئ في خضم ذلك، عن الصلة المبررة بين أبعاد السياحة التاريخية والفكرية، والرسالة التي أراد المؤلف ايصالها بالنتيجة. ان قصة الجتدي لا تفتأ أن تذوب في المجرى الرئيسي للرواية بعد الفصل الأول ، بينما تظهر قصة اللجوء في أحد الفصول الأخيرة وهي الأخرى تختزل في فرضية لجوء (إمرأة القارورة) ورفض الطلب وتسليمها لبلدها. في الفصل الأول نجد تمثال إمرأة في مبنى أثري على الحدود استخدم مطبخ عسكرياً حيث تم تنسيب الجندي بطل الرواية. وفي الفصول اللاحقة تظهر فكرة القارورة التي تضم المرأة في بيت العائلة في غرفة الوالد. بعدها يتم تعميق/ تعريق هذه الفكرة ومنحها بعداً تاريخياً يحيل على سومر وحروبها إلى آشور وخروجها من حدود الرافدين إلى أقوام الشام ومصر وروما قبل أن تعود (ّ) ثانية. دون تبين الصلة بين تمثال في مبنى اثري شرق دجلة بحضارة سومر على ضفاف الفرات. وقد حرص المؤلف على اجراء مزاوجات وتلاقحات تاريخية عبر تزويج (إمرأة القارورة) إلى رجال من أقوام وأثنيات لا حصر لها، لحين عودتها إلى عائلة الجندي ثم خروجها معه إلى بلد اللجوء. خلال ذلك يحرص المؤلف أن يشير أن هذه المرأة شاركت أقوام أزواجها محنهم ومآسيهم وأفراحهم، وتقفز صورة من طفولة المؤلف عندما كان يعمل في مطعم وقام بتوصيل وجبة طعام إلى جلاد في سجن لتعلق نظراته بجسد (مرأة) معلقة أثناء التعذيب، وتتصل تلك الذكرى - الشبقية- في مخيلة الطفل الذي سيذهب إلى سويسرا، وعلاقته بصديقه [قرينه] االذي يعاشر (إمرأة القارورة) وما تثيره فيه من ذكريات ذات طابع شهواني أكثر من شيء آخر. فحركة امرأة القارورة هنا هي ثيمة حسية جنسية صرفة تتمحور حول مفاتنها ومباهجها الخالدة التي لم تفقدها عبرالسنين. ضمن هذه الرؤية وبالمقارنة مع أجواء الانفتاح الأوربي وسيما مشهد المرقص هي رواية الانثى الخالدة التي (تعلك) الرجال وتستبدلهم جيلاً بعد جيل دون أن يقضوا عليها أو ينتهوا منها. فهي ملامسة رقيقة لظاهرة المرأة – الإلهة – تاريخياً، المرأة الأم والمرأة الخالقة والمرأة الزوجة والعشيقة. وهي تلوين مفتوح على قصة زليخة المصرية ويوسف في العهد القديم عندما عادت بكراً لتتزوج يوسف النبي في استحالة تاريخية. ان اللغة الجنسية المفعمة بالشبق واللذة غير خافية خلال الرواية، بما يجعل منها بحق رواية (جسد) تضاهي أروع القصص الواردة في هذا السياق. لكن المؤلف أدخل جسد المرأة في مناورة تاريخية صعبة واستحالات عجائبية عبر آلاف السنين وجغرافيا ممالك العالم القديم [حوض البحر المتوسط]، للخروج بالموضوع إلى أفق خطاب أممي/ ميتا قومي حول الهوية الأثنية والثقافية المشتركة لحوض البحر الأبيض المتوسط. ولمنح المرأة/ الجسد الدفق واليمومة والسيرورة المستمرة لعبت الميتالوجيا والدين والتصوف دوراً مساعداً في حركة نسيج الرواية. لماذا المرأة؟ لماذا الجسد الانساني؟ للماذا جرى تسخير العاطفة البشرية والمشاعر الحسية وأخطر مراكز اللذة والشعور لتمرير وتبرير خطاب سياسي؟.

وإذا سلمنا أن الخطاب السياسي هو فحوى الرواية، فما هو دور الخطاب اللاهوتي المرفق بنهاية الكتاب. وما هو لون المياه التي يعود بها إلى مجرى الرواية الرئيسي. ان الملاحق المرفقة في نهاية الكتاب تفتقد الصلة المباشرة بالمتن الروائي. وهي خارجة من مضمار السرد إلى لغة الشعر الصوفية المحلقة في أراجيح الفلسفة والمخيلة. فهي وثيقة الصلة بلغة نفر من المتصوفة الذين صوروا الربّ على هيئة الانسان (ونفخ فيه من روحه)، وهي غير منقطعة عن رؤية الخطاب التوراتي. لقد جمع المؤلف من المصادر والمرجعيات لكل مستوى من هذه المستويات النصية والقرائية ما يجعل منها نصاً قائماً بذاته وخطاباً متجهاً إلى نفسه. لكنه تخذ من كل ذلك مجرد وسبلة لتحقيق خطابه الروائي، الذي غاب بين السطور عن أفق الرواية.

الرواية المركبة

يطلق مؤرخو الأدب مصطلح الرواية المركبة أو النص المركب أو نص داخل نص ورواية داخل رواية عندما تتعدد مستويات السرد واتجاهاته داخل النص، فتتكشف رواية عن رواية عن رواية بالتتالي مثل استحالات الأفعى، حتى الوصول للنص النهائي وتتحقق الصلة ما بين النصوص المتداخلة أو المتراكبة ومستويات السرد والتلقي. ورواية سليم مطر هي رواية مركبة على المستوى البنيوي ومركبة على المستوى الدلالي. من الممكن فتح النصوص وفصلها عن بعضها فتتيسر قراءات أخرى أو تفكيك النص دون فصله عن بيئته الروائية للوقوف على ضفاف المعنى.

من مظاهر المفارقة هنا، بساطة الحبكة أو تلقائية السرد التي يبتدر المؤلف بها القارئ، ثم يأخذ السرد بالتشابك والتعقيد، تارة مع تعدد قصص الهروبات وتداخلها، وتارة مع تعدد الروايات والتأويلات عن (إمرأة التمثال) – لا أدري إذا كان ربط التمثال بالمطبخ يحتمل دلالة أخرى لدن المؤلف-، ومع تعدد قصص الهروب يتم نسج قصص (سواليف) جديدة، ويحصل السارد/ البطل على أسماء مختلفة، وتتكشف صفحات جديدة عن قصة ثالثة تنمو تفاصيلها في زاوية مقابلة.كان من الممكن هنا تأمل عالمين روائيين ينموان متجاورين أو متداخلين، لكن العوالم هنا –كما سبق الذكر- تتعدد والخطابات تتداخل، وكأن المؤلف/ التلقائي، تخطر له كل بضع صفحات فكرة جديدة فيضعها موضع التنفيذ. وكلما طرأ له أمر فسح له مكاناً في النص، فنما القص إلى قصص، والقصص إلى رواية، والرواية إلى روايات، وانتهت الروايات للتعبير عن فكرة عبث الخليقة التي لا تتعدى نزوة إلهية. وهي مقاربة فكرية لقصص الخليقة عند الاغريق، وإشارة باطنية لحقيقة الوجود الانساني، التي لا تتعدى – شهوة آنية- تصعد بين سيقان زوجين وتتجسد في صورة الكائن/ الطفل (الانسان). وهي عين الصورة التي يوردها القرآن عن خلق الانسان من مضغة ثم علقة ثم..، وبالربط بين دلالة هذه الآية، مع دلالة (وجعلنا منكم شعوباً وقبائل) – قوميات وأثنيات- وكل ذلك عبر علاقات التزاوج والعائلة > والصراع.

الرواية الموسوعية

يقول أحد الفلاسفة أن الأفكار ملقاة على الطريق، ووظيفة الكاتب التقاطها. لكن المؤلف الحديث لا يلتقط الأفكار فقط من مضانها وانما يزاوج بينها ويتفنن في ترتيبها لتصنيع دلالات جديدة وتوليد معانٍ جديدة واستجلاء آفاق فكرية وروحية جديدة.

ان تعدد مستويات البنية وتشابك اتجاهات الخطاب يجعل منها (رواية موسوعية) بالمعنى الموجب لظاهرة التشتت، فهي لا تترك باباً من أبواب العلوم والمراجع الفكرية والدينية لا تطرقه من قريب أو بعيد، حتى تجد لكل شيء فيهاً أثراً. وتمنح مستويات التلقي تعددية أفقية وعمودية، تقابل أنساق النص. ووظيفة سليم مطر تقديم فاكهة روايته هذه للقارئ كثمرة جديدة، قد تبدو للوهلة الأولى عسيرة الهضم، فالأشياء الجديدة والجميلة تتطلب جهدا اسثنائيا لأنها أكثر دواماً من غيرها.

بين الذهان والانشطاروالتناسخ

يكتشف القارئ منذ الفصل الأول ان الشخصية الرئيسية تتماهى في حالات متباينة وتقترن بأسماء متعددة، وفي علاقتها بالتمثال تتكشف عن حالة من التناسخ أو الاستحالة تبعث الحياة في الحجر. وهي نفس الظاهرة التي تقوم عليها ظاهرة (امرأة القارورة) التي تستحيل إلى ماء وتختفي في بطن القارورة (مصباح علاء الدين – استبدال فكرة المصباح بالقارورة). وظاهرة التناسخ – تحول الروح من جسد إلى جسد ومن كائن إلى كائن – التي من صورها الطوطمية. إذ تحولت روح أميرة سومرية عبر آلاف النساء ومئات القرون إلى (الشيوعية) التي تتعرض للتعذيب في بداية الستينيات ثم اللاجئة في التسعينيات المرفوضة اللجوء. أما الظاهرة الأكثر إثارة للانتباه فهي ظاهرة انشطار بطل الرواية إلى شخصيتين منذ حادث رؤية (الشيوعية) في مركز تعذيب الأمن. يصف المؤلف أحد الشخصيتين بأنها أكثر اعتدالاً وتعقلا من الثانية الأكثر عاطفية وهلوسة. وهو مستوى آخر كامن داخل بنية النص.

ان البنية العامة للنص تخضع للبساطة والتلقائية، وهو مذهب سردي حديث ينص، على أن الكاتب يذهب للكتابة بدون أية فكرة مسبقة. ولكن خطاب الرواية خطاب ثقافي عقلاني متداخل، يستند إلى رؤية مسبقة. فإذا أمكن توصيف وقوع جانب من مساحات السرد أسيرة الذهان أو التشوش الفكري، فأن الخطاب الرئيسي للرواية حافظ على مساره، وبالشكل الذي تكرر وتوضح في كتبه وطروحاته اللاحقة. ان الشخصيتين المترادفتين من العراق إلى سويسرا تكملان بعضهما البعض وتنسجمان بالتئامهما دون تدمير الواحدة للأخرى كما هو معروف في حالات الفصام الذاتي أو النفسي. وإذا كان سليم مطر قد استخدم فكرة الاستحالة والتناسخ من الميثولوجيا القديمة لتأكيد الأصول المشتركة للهوية/ الهويات العراقية (الجريحة)، فقد استخدم فكرة الانفصام/ الانشطار من العلوم النفسية لتصوير الشخصية العراقية/ السياسية أو الحركة السياسية العراقية في اتجاهاتها أو اتجاهيها المتنافرين بين العقلانية والتهور ولكن المكملتين لبعضهما – حسب المؤلف- سواء في التيارين القومي والأممي في الستينيات أو التيارين القومي والطائفي اليوم.

مشروع الهوية المشتركة

ان أثر الطروحات الماركسية غير خافية في بنية النص لاسيما انجلز في العائلة والدولة والدين أو ماركس في فكرة الصراع والجدلية التاريخية . لكن فكر سليم مطر لا يتقاطع مع القومية ولا الدين، وانما يدعو لحالة انسجام وتوافق اجتماعي تاريخي يقوم على مستويين: مستوى القواسم العامة المشتركة في المقام الأول، ومستوى الخصوصيات الذاتية بالمقام الثاني..في التصنيف السياسي هو طرح توافقي، والمأخذ أنه يتطلب توافق جميع الأطراف والأطياف الممثلة في أطار الدولة. أما المأخذ الآخر فهو أن حركة الاختزال والاضافة قد تطيح بالخصائص العامة وترفع الخصوصيات إلى مستوى العام، وهنا ينسف المشروع وتتغلب فئة من الفئات لفرض خطابها (الايديولوجي) ورؤيتها (القومية/ الطائفية) على الآخرين. وهي في الاطار العام رؤية - وسطية-، غير ثابتة، أي أن نقطة المحور قابلة للحركة على خط طوله مائة وثمانين درجة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. ان القلق هو مصير الطروحات الوسطية في المجتمعات الهشة والحياة السياسية السطحية المتقلبة. لقد أراد المؤلف التخلص من الأطر التقليدية الضيقة التي حكمت الهوية أو الخطاب الوطني العراقي، ولكن الذي تحقق هو العكس تماماً. ترسيخ الهويات المحلية أثنية وطائفية وتسييجها بسياج الفدرالية وحماية حكومية وضوابط أدارية محلية، لم تنسف فكرة الهوية المشتركة والانتماء الوطني من جذورها، فحسب وانما، سمحت للهويات الكبيرة بابتلاع الهويات الأصغر واختزالها وتهميشها.وفي هذه النقطة يبرز السؤال الأساس الذي طرحته الرواية، الجذر السومري والجدلية التاريخية وانعكاسها في الراهن العراقي.

امرأة القارورة وخصوبة الرمز

[هكذا ظلت سيدة القارورة خلال قرون وقرون تمضي الأجيال من "حفيد -عشيق" إلى نسله. (...) معشوقتهم تظل السرّ الأبدي الذي يجتمعون عليه ويستمدون منه جذوة أرواحهم.].

(إمرأة القارورة) دالة رئيسية في رواية سليم مطر[ص148]، وشحت عنوان الكتاب وتكررت في عناوين فصولها المتتالية وكما يلي:- ف1: في البدء كانت القارورة/ ص5.- ف2: انبعاث سيدة القارورة/ص25.- ف3: ماضي القارورة/41.- ف4: حاضر القارورة/56 .- ف5: آباء وأرباب القارورة/74.- ف6: قرصان القارورة/89.- ف7: سيرة سيد الوجود/ 111. – ف8: ضياع القارورة والرحيل إليها/ 129 .قد يفيد التكرار اللفظي معنى التوكيد أو الارتباط البيني خلال السرد، لكن الواقع أن كل فصل كان يقدم صورة جديدة واستحالة أخرى تضاف إلى قاموس المرأة والقارورة، دون أن يعني ذلك صلة جوهرية تعود على المراة المحددة بذاتها. وهذا ما منح دالة (امرأة القارورة) خصوبة متواصلة لاستنفاد ما يغني جوانب الخطاب. تقوم الفكرة الرئيسية [لإمرأة خالدة منذ خمسة آلاف عام] على فكرة التناسخ أو خلود لروح وانتقالها من هيئة/ جسد (فانٍ) إلى هيئة/ جسد آخر. على اعتبار أن (الجسد) قابل للفناء [التحلل للمواد الاساسية] والروح خالدة [غير قابلة للفناء والتحلل]. ويمكن تأويل الظاهرة حسب فلسفة الذوبان والفناء والانبعاث عند بعض الصوفية حسب دالة الماء التي تظهر في القارورة، أو الاحتراق والانبعاث من الرماد لطائرالفينيق حسب القصة السومرية، دون أن يغير ذلك شيئاً من الدالة والدلالة. أما فكرة القارورة نفسها فهي تحوير جزئي لفكرة (المصباح السحري لعلاء الدين) من قصص ألف ليلة وليلة. بينما تمثل فكرة المرأة والزواج المتعدد مقاربة معكوسة لحالة شهريار وتعدد زيجاته.

"كل شيء في هاجر كان يتجاوز حدوده الطبيعية".. ص55

" الآن وأنا أنظر في عيني (آدم) وهو يحكي لي عن حوريته (هاجر) لم أعد اشاهد تلك السجينة معلقة مشرفة على الموت كما رأيتها دائماً في عينيه.." ص64

"أسيرة أرمنية اشتراها من مدينة أخوالي" ص97

"عازار" ص 103 : ابنة أحد أمراء قرطاجة

بين الفلسفة والواقعية البدائية

تختلف (إمرأة القارورة) عن النص العادي بكونها نصاً فلسفياً، مما يمنحها نكهة غير عادية. دخلت الفلسفة في ثنايا الخطاب السياسي والاجتماعي والديني والوجودي وتجاوزته إلى طريقة المعالجة والتعامل مع الأدوات والتفاصيل المتحركة في النص. ان التبسيط والتحليل من خصائص المعالجة الفلسفية، وهو ما قاد النص إلى إشكالية فكرية. لقد أراد المؤلف وضع حل لمعضلة سياسية/ اجتماعية معقدة في ظل التقدم التكنولوجي وغزو الفضاء ، بالارتكاز إلى مفاصل ومكانزمات بدائية تراجعت أهميتها وتطورت أساليبها وأغراضها.

قسم المؤلف أدواته [كتيمة اجتماعية] إلى قسمين: امرأة ورجل. ثم أناط بكل منهما وظيفة محددة في السياق التاريخي العام، المرأة كدالة للجنس ومشتقاته، والرجل ووظيفة الحرب [صراع/ نهب/ غزو]. وعلى مدى الفصول المتعاقبة استمرت هاتان الوظيفتان متلازمتين، بشكل قسري لاختراق منظومات مدنية أكثر تطوراً في السيرورة الاجتماعية سواء في النظام السياسي (تعذيب المرأة الشيوعية) أو المجتمع المدني (إشكاليات اللجوء وقضايا الاجانب). ان الامعان في تبسيط الثيمة كاد يعدمها وبالتالي يجعل مغزى الخطاب موضع جدل. مما لا شك فيه أن الحياة قامت على الجنس، وكان الجنس أحد أبرز مكانزمات الصراع بين البشر، أفراداً ومجموعات. وتجتمع القصص الديني والتاريخي والميتالوجي على خدمة هذا الغرض. وسواء صحت نظرية جيمس دارون في [التطور وأصل الأنواع] أم لا، فثمة تسليم لا إرادي، - لا حيلة للبشر في مواجهته-، في تمثيل آدم (!!)أباً للبشر – حقاً أو فرضاً-، وأن الخليقة اليوم هي بنت الطوفان (نوح/ أوتو نبستي)، وسكان العالم ينحدرون من أبناء نوح الذي توزعوا أطراف اليابسة (سام وحام ويافث). أما الخلافات والاختلافات التالية بين ذريات كل واحد والآخر، فقد بقي بعيداً عن المعالجة الجادة والموضوعية. وفي هذه النقطة يتركز جهد الكاتب من خلال تحريك [جسد الأنثى] على زوايا الطاولة الثلاثة [آسيا- أفريقيا- أروبا] وصولاً لخطاب الهوية المعاصر، تساهم وتذوب فيه دماء الأقوام الشرقية والغربية. والدماء هنا هي القاسم المشترك الأعظم بين [الجنس – الولادة- الحرب]. تقول الآية [كلكم من آدم وآدم من تراب] وكذلك [وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا]. ان الدين، بغض النظر عن التفاصيل والأدبيات الايديولوجية الملحقة به تالياً، يمثل أقدم النصوص/ الطروحات الأممية. وهو ما يصاغ بعالمية الدين، لكن المغزى الحقيقي لذلك أنه فوق القومية والعصبية. بيد أن إشكالية الدين ظهرت أثر وضعه في قوالب قومية أو حصره في أطر عنصرية ضيقة، انعكست سلباً على المجتمع البشري خارج تلك القوالب والأطر. ان ربط الدين بالقومية والعصبية أحال الخطاب الديني الروحاني إلى خطاب سياسي أجوف وعقيم، خاضع لفكرة الهيمنة والسيادة، وهي توافه دينية يأنف عنها العقل الخالص وفلسفة المطلق. وهذا هو المفترق بين الثقافي والسياسي. ما تحتاجه البشرية اليوم هو التحرر من الايديولوجيات والشعارات الجاهزة. لكن غياب الفكرة والأمكانية يدفع باتجاه آخر، من خلال الغاء تفكيك القواعد وفتح المنظومات على أفق عام. ان تمادي الكاتب في ملاحقة فرضية [التناسل/ التناسخ] أخرج النص من الجغرافيا المحلية [الميسوبوتاميا]. وبقيت نهاية الرواية مموهة بين إعادة (القارورة) وعودة البطل إلى حياته اليومية في سويسراً، أو الحوارات الذاتية حول الخليقة والدين والانسان.

لقد دفعت الاسطورة والخرافة الفلسفة الماركسية والمادية التاريخية الى الهامش، فاختزلت الحضارة والتطور المادي، عائداً بالبشرية القهقرى إلى المراحل البدائية. فلم تكن سومر وأكد وبابل وآشور وفينقيا وغيرها سوى جيوش وحروب متواصلة. ليعطي المؤلف لحرب الثمانينيات العراقية بعداً تاريخياً يلحقها بمتوالية من حروب تلاقحية، ترافقها حركات سكانية ممثلة في إزاحات واستقطابات، تجد صداها في الحالة العراقية. فقوافل اللجوء المليونية من العراق أو ايران أو بلدان اخرى نحو الغرب والشرق هي هويات جريحة متحركة. وبالتالي فلا توجد ثوابت مستقرة على مستوى الأرض والانسان. الجغرافيا العراقية متحركة حسب المناورات والصفقات، وحركة الداخل والخارج المتعلقة بالبشر، غير مستقرة، جموع خارجة وجموع داخلة من كل الجهات. عراقيون متغربون في بلدان المعمورة، وأجانب يتحدثون عربية مكسرة أو كردية بأوراق رسمية وصور زواج ونسب مزورة يقطنون العراق ويدفعون العملية السياسية نحو الخلف. لكن الفارق كبير بين دخول العراقيين إلى مجتمعات ودول مستقرة سياسيا واجتماعياً، وغزو جماعي لمجتمع وبلد يفتقد ركائز الاستقرار السياسي والاجتماعي ويصطبغ في كل مرحلة بصبغة المحتل.

لقد كان أجدى بالمؤلف البحث عن قاعدة مادية ديالكتيكية تتواشج مع الأسس المادية للحضارات الرافدينية العريقة والنهوض بها نحو الحاضر بدل تمييع الهوية الاجتماعية [المميعة أصلاً]. ان اشكالية العراق اشكالية بنيوية متوارثة سببها استمرار الغزوات والحكام الأجانب ممن لم يعيروا أو يفهموا مبادئ السياسة والوطنية والانسانية. فظهر محمد علي الألباني ليبني دولة عصرية صناعية في مصر التي تتمتع بخصائص اجتماعية وسياسية تختلف عن الحالة العراقية. بينما ظهر ولاة قلائل من الاصلاحيين أمثال مدحت باشا أو داود باشا أو سليمان القانوني ممن أجروا اصلاحات جزئية انتهت مع رحيله، فبقاء العراق تابعاً للامبراطورية العثمانية أنعكس سلباً على المجتمع العراقي والسيرورة الوطنية بينما قاد استقلال دولة محمد علي وقيام أسرة حاكمة متوارثة على ترسيخ كيان مصر وحماية المنجزات الوطنية المتحققة. ان وقوع العراق في منطقة تنازع تاريخي بين ايران العنصرية التوسعية والقوى المتلاحقة بالمقابل من عهد الاسكندر المقدوني والرومان والحكم العربي والعثماني والانجليزي والأميركي العامل الأساس في نسف الصيرورة العراقية منذ جذورها القديمة - السومرية والأكدية والبابلية والاشورية، التي ما أن تضعف حتى تبسط فارس نفوذها وأطماعها على بلاد الرافدين. وسواء وجدت ايران منفذاً عبر الهوية الشيعية [الانشقاق الأول في الاسلام] أو أقتطاع أجزاء من أراض ومياه العراق أو دفع أصول وقبائل ايرانية داخل العراق تكون مقدمة لتوسعها الاستراتيجي التاريخي وكما هو حاصل اليوم أو وسائل أخرى كالغزو المباشر عند انسحاب القوى الدولية من المنطقة، تبقى هي الخطر الأكبر والناسف الأساس لمشروع الهوية العراقية، وهو ما يجعل قدر العراق، ذاتاً مجتزأة وهوية منقوصة مشوّهة ، مموّهة بين ملامح فارسية وعربية وعثمانية وكردية، على حساب الملامح السومرية الآرامية والأكدية والاشورية والبابلية. وسواء غاب ذلك عن المؤلف أو أدرك حجم المعضلة واستحالة المشكل، فرأى نسف كل تلك المنظومات وإذابة كل تلك الاصول والصراعات داخل مرجل تتحكم فيه ثمرة التفاح وصراعات قابيل وهابيل، تاركاً باب المستقبل مفتوحاً، بعودة الأنثى لعراق الصراع والعراك وهروب البطل إلى سويسرا. ان ادراك، أو استعداد القوى المتصارعة في عراق اليوم لأبجديات الانتماء والوطنية التي تطرحها امرأة القارورة، قد يتطلب قروناً طويلة، وحتى ذلك الوقت يبقى مشروع هوية عراقية وانتماء أصيل لوطن أسمه العراق مؤجلاً، على بحيرات من الآلام والدماء والقلوب الجريحة.

ان تعدد المستويات البنائية والدلالية والقرائية لـ(إمرأة القارورة) يمنحها صفة التميز والتفرد والريادة، اقتضت من كاتبها جهداً استثنائياً على أصعدة الفكر والشعور بحيث لا يكون من السهل تكرارها أو مضاهاتها. وهو ما ينطبق على [دابادا] حسن مطلك في الثمانينيات. فبينما كان حسن مطلك تجريدياً حاول سليم مطر باستحالات ايقونة المرأة اعطاء عمله صفة مادية أقرب إلى الواقع وأدنى إلى التاريخ. قدرة المرأة على الانتقال بين العالم المرئي والعالم الغيبي عبر الذوبان والاختفاء في القارورة. وعودتها المتكررة في أزمان وأجيال متلاحقة، ومرورها بأمم وحروب وغزوات وبلاد قبل أن تعود إلى أرض النهرين، بما يجسد رؤيته لأزمة الهوية الوطنية أو تعدد الهويات في عراق اليوم، والمتبلورة في مشروعه الخاص عبر كتابين وروايتين ومجلة [ميسوبوتاميا]. يلتقي الكاتبان في المرجعيات ويختلفان في المخارج والتقنيات. قدم كل منهما كتاباً رائداً في الثقافة العراقية، كان وقعهما مثل حجر في بركة عند صدورهما، ذهبت تردداتهما بعيداً في تلافيف النص العراقي الراهن، ولكن كذلك في فن الرواية !.