دراسات ونقد لـ( اعترافات رجل لا يستحي)

ـ اعترافات رجل لا يستحي، ممتعة وجريئة : قاسم حول

ـ اعترافات رجل لا يستحي: سليم مطر يروي سيرته الشخصية بحياء دون خجل: عبد الرحمن الماجدي

ـ اعترافات رجل لا يستحي: تعرية الذات والتصالح معها: أحمد سعداوي/بغداد

ـ سليم مطر في اعترافات رجل لا يستحي: طفل ”الشاكرية“ لا يزال يبحث عن اللقى : محمد غازي الاخرس

ـ اعترافات رجل لا يستحي، اول سيرة نفسية للانسان العراقي / وئام الموسوي/بابل

اعترافات رجل لا يستحي، ممتعة وجريئة!

قاسم حول

جريدة الجزيرة السعودية

5ـ1ـ  2009

صدرت للكاتب العراقي سليم مطر المقيم في سويسرا رواية ذات طابع تسجيلي مبني على أساس المذكرات الشخصية مكتوبة بصيغة روائية بعنوان (اعترافات رجل لا يستحي). وكلمة لا يستحي ليست كلمة حادة ولا مشينة، بمعنى أنه أدلى بمذكراته صراحة كما هي دون أن يخجل من تدوينها وهو من خلال هذه الصراحة وهذا الوضوح يكشف طبيعة الواقع الاجتماعي. والعنوان بحد ذاته مثير للقراءة. هي ليست رواية بالمعنى المألوف للرواية مع أن كاتبها روائي متمكن، وكانت روايته الأولى في تصوري نموذجا للرواية المعاصرة التي عرفها كيف يبنيها بطريقة حديثة للتعبير عن فكرة شفافة وإنسانية وهي رواية امرأة القارورة تبعتها رواية التوأم المفقود اللتين عبرتا عن إمكانية متميزة في مضمون وشكل الكتابة الروائية.

الرواية صادرة عن داري نشر، الأولى مركز دراسات الأمة العراقية - ميزوبوتاميا، والدار الثانية هي دار الكلمة في بيروت التي جاء في موقفها من الرواية القول (.. انها جديدة حقا بعدم استخدامها السرد الزمني المتسلسل الذي تعودنا عليه في السير الشخصية، بل تلجأ إلى تقنية إبداعية غير معروفة حتى في الأدب العالمي، إذ اختار الكاتب أن يكشف عن حياته من خلال تناوله لموضوعات، ثيمات، متميزة خصص لكل منها فصلا خاصا، الوطن، الحارة، الأب، الأم، السينما، الدين، الهجرة، المرض، الابن، المحبة.. وتم ربط هذه الموضوعات بتسلسل زمني خفي أشبه بموسيقى تصاحب فيلما). الكاتب في مقدمة الرواية يقول انه في حياته يستحي أكثر من المعتاد ولكنه في هذه الرواية يكشف المسكوت عنه ويتعمد الصراحة مع الذات. ومن هذا المنطلق يسرد سيرته الذاتية ولكن بطريقة روائية تعتمد مبدأ الفصول والتقسيمات الكلاسيكية في البناء. ويمكن أن نطلق على هذه الصنف من الرواية (الرواية التسجيلية) مثل ما ظهر في تأريخ المسرح ما أطلق عليه (المسرح التسجيلي) وفي السينما (السينما التسجيلية) وهذه التقسيمات الكلاسيكية لا تتقاطع مع شكل المعاصرة والجدة في الكتابة فهي أشبه برسام يعرف التشريح معرفة الطبيب ويرسم التجريد المبني على قواعد وأسس علمية في الحركة والتشكيل وبدون معرفة تفاصيل الجسم الإنساني يصبح من العسير رسم الشخوص وحركتها المجردة من الشكل. الذات في هذه الرواية هي محور الفكرة والبناء وهذه الذات تتحدث عن نفسها تارة وتتحول إلى شخصية ترى الواقع والشخصيات المحيطة بها التي لها تأريخ وتنمو وتكبر وتموت أو تتعذب أحيانا في واقع صعب وملتبس. ولأنها رواية وليست موقفا انطباعيا فإن ثمة شخصيات تحيط بهذه الذات من الأهل وطلاب المدرسة والمعلمين والكسبة والشرطة ورجال الأمن، جميعهم يشكلون ما يشبه الملحمية في شكل الرواية والفرد هنا ليس محورا وحيدا في الرواية بل يكاد أن يكون راوية وشاهدا على حقبة زمنية تقود البطل الذات إلى تطورات في شخصه في موقفه من الآخر في اكتشاف الخلل ومن ثم الركون إلى الإيمان وإلى المطلق ليتخلص من كل الشرور والمخاوف التي اكتنفت حياته.

وسليم مطر لا بد من أن نلقي بعض الضوء على شخصه فهو مشاكس كما يبدو للوهلة الأولى من خلال كتاباته السياسية المتعلقة بالأمة العراقية كما يسميها، مع أن شخصه خجول ولا تبدو عليه المشاكسة في حياته لكن مشاكسته تبدو لدى البعض من خلال نظرته المعاندة إلى العراق كقطعة أرض واحدة مثل القلب الذي لا تجوز تجزئته سوى بأسماء حدود البطينين لكنه ينبض مرة واحدة ويموت مرة واحدة. وتنعكس هذه الرؤية على كتاباته فيكتب في السياسة من هذا المنطلق ويعلن عن موقفه هذا في مجلته التي يصدرها التي تحمل عنوان (ميزوبوتاميا) وهي مجلة دورية موسوعية خاصة بالهوية العراقية. وفي ظروف ثقافية صعبة دخل سوق السراي وسوق المتنبي في بغداد ليؤسس دار نشر ويطبع كتبا صارت تنتشر وينتظرها هواة القراءة والثقافة، حيث الصراع يدور اليوم بين ثقافات قسم منها سلفية وقسم يدعو للتحضر ومواكبة العصر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ورؤيته في ثقافة معاصرة لا تنفصل عن التراث وهو يتمسك بالعراق القلب النابض الواحد ويسميه الأمة العراقية.

هاجس الوطن عند سليم مطر في روايته (اعترافات رجل لا يستحي) مخزون بين سطور الرواية أكثر منه ظاهرا . شعور مستتر ينبض بالحنان والخوف والتململ والاستشراف. فهو لا يعلن الموقف سوى نادرا، يترك الأحداث تتوالى وتؤثر في البطل الذي يشكل عينة المواطن الواعي الذي يحتفظ بمزاياه الشخصية ويعبر بالضرورة عن المجتمع بكل مفرداته وتنوع أفراده.

الاستحياء وعدم الاستحياء هي مفردة في المتداول تعني شيئا وفي اللغة ليس فيها ما يدعو للرفض والخجل. جاء في هذه الرواية التسجيلية (.. كانت شخصية أبي مثل حانوته، تحوي كل النقائض والغرائب. فهو الحكواتي العارف الحكيم الناصح الذي يسأله الزبائن بمن فيهم حتى الضباط والمديري، رأيه ونصيحته في كل الأمور، من الدين والمجتمع إلى الطب وأسرار الحياة الجنسية، لكنه كان أيضاً ذلك الرجل الحيال والممثل الهزلي والمنكت الفاجر والغضوب المجنون الذي لا يتوانى عن الضرب المبرح والجرح بالسكين). بهذا الوضوح وبدون الاستحياء يتحدث الكاتب سليم مطر عن أبيه مثل ما يتحدث عن نساء أبيه وعن أهله وجيرانه وعن نفسه وعن الشرطة ورجال الأمن وعن عمله في حانوت أبيه وبيع السندويج والمرطبات للسجناء حيث حانوت أبيه قريب من الدائرة الأمنية وهو يذهب في بعض مقاطع الرواية إلى أبعد مما جاء في هذا المقطع عن شخص أبيه.

وبنفس الحس والصراحة يتحدث بلغة ثانية عن مشاعره في عالم السينما الذي عشقه ولا يزال بعشق وينظر إليه بقدسية وهو يعيش مع أبطال الفيلم وسط الظلام الذي يفصله عن عالم النذالات في حياة المجتمع العراقي الذي كونه ودفعه إلى يعيش في روما وسط التائهين وشذاد الآفاق حتى يتمكن من الوصول إلى سويسرا ويكمل حلمه ويقرأ التأريخ والماضي والمعاصرة في اكتمال الوعي. وهو إذ يطلق على روايته اسم (اعترافات) وليس (مذكرات).. فإنما يضع نفسه أمام محكمة القدر الافتراضية وأمام الضمير وأمام المرآة فيقول كل شيء ولا يخفي شيئا لا في الحدث ولا في مشاعره ومخاوفه ورعبه وتأملاته. وهي جرأة يحسد عليها دون شك ولا يملكها سوى القليل من كتاب المذكرات والسير الذاتية وبشكل خاص في شرقنا العربي المحافظ، يتحدث عن مراقبته لشابة كردية تحمل اسم خانزاد ويصف نضجها وصفا دقيقا وهو يرصدها ويرصد شخصيتها في الشارع،

وفي تلك الفترة تبدأ علاقته بالأدب والروايات مثل بائعة الخبز وقصة مدينتين والبؤساء والشك ورد قلبي، بداية تكوينه الأدبي. وهو بين الأدب والسينما والواقع المر الصعب تضطرب شخصيته في رغبة الهجرة فيروي لنا حكايته في المنافي الصعبة، لكن المهم في الأمر أن تنامي الأحداث ووصف الشخصيات والصراعات الداخلية للبطل في خضم واقعه الاجتماعي، يقوده في النهاية إلى موقف هادئ مستريح ويبدو مثل كاهن بوذي أو هندي يجلس في معبد أمام دخان البخور ويقدم شهادته ويدعو الناس للخير بعد أن يكشف كل دهاليز الشر والمخاتلات والتآمر التي تقود الإنسان إلى مكامن الرذيلة (لهذا فإني في الأعوام الأخيرة تعودت في كل بحوثي وتحليلاتي، بعد إدانتي للجلاد سواء كان مسؤولا فاسدا أو إرهابيا أو جيشا مستعمرا، أفضح كذلك تواطؤ الشعب نفسه وفساد النخب الوطنية فكريا وضميريا.

إن الشعب الذي لا يتضامن مع نفسه، لن يتضامن معه أحد. إن طاقة المحبة في كياني ما دمت حيا هي غصن متفرع من شجرة الله).

رواية سليم مطر (اعترافات رجل لا يستحي) هي اعترافات ممتعة تكشف وتحلل وترسم بوضوح ملامح شخصيات وأمكنة ومدن وحارات في العراق وتسجل حقبة من تأريخه وتعوض عما فات الكاميرا من التقاط الأحداث أو ما لم يغب عنها ولكنه تلف واحترق فتأتي الرواية لتسجل ليس فقط الأحداث كما هي بل من خلال عين واعية.. ليس هذا فحسب بل ببناء ممتع ومشوق يضع القارئ في موقف عدم الاستغناء عن الثقافة والأدب حتى في أكثر الأوقات سوادا وعتمة.

يشعر القارئ في اعترافات رجل لا يستحي بأنه يسافر مع المؤلف منذ طفولته في رحلة صعبة وقاسية ويستريح معه في النهاية حيث يقيم في سويسرا وحيث يركن سليم مطر إلى الخالق العظيم في نهاية رحلته. يقف خاشعا ويدعو للمحبة وينهي روايته التسجيلية بعد الركون للسكينة والإيمان بالقول (وإذا كانت محبة الله هي درب الإنسان من أجل بلوغ جنان السماء، فإن محبة الذات والناس والحياة هي درب الإنسان من أجل بلوغ جنان الأرض).

أدب الرواية والقصة والبحوث العراقية في الآونة الأخيرة مزدهر بالكثرة وبالنوع والتنوع وهي ظاهرة تنم عن نهضة مستديمة في تأريخ العراق بعد كل كبوة مثل كبوة السنوات الماضيات العجاف.

 

 

ــــــــــــ

اعترافات رجل لا يستحي:

 

سليم مطر يروي سيرته الشخصية بحياء دون خجل!

عبد الرحمن الماجدي

موقع ايلاف/ 29 ـ 11 ـ 2008

يمهد الكاتب سليم مطر لسيرته الروائية "اعترافات رجل لايستحي" باستشهادين من القرآن حول عدم الحياء من قول الحق ليعد القاريء لحقائق شخصية عنه يكشف أغلبها لأول مرة عبر الورق، بعد أن عرف عنه كاتباً وباحثاً في السياسية والادب والانثربولوجيا. لكنه كي لايسمح للقاريء بالذهاب بعيداً في استعداده لأي مفاجآت شخصية يؤكد بأن ماسيرويه من سيرة شخصية لن تسقط في الابتدال والرخص والفضائح الشخصية والعائلية كما فعل بعض الكتاب. أي لن يغادر سقف الحياء الذي قد تهبط بالعمل الكتابي نحو الابتذال في بعض الاحيان.


إي ان سلسلة التداعي التي يرخي لها الكاتب العنان ستكون تحت السيطرة وبحراسة جنود الحياء أنما لن تستجيب لدواعي الخجل التي راكمتها سنوات التربية المنزلية والشخصية.
ياخذنا الكاتب في رحلة منذ الطفولة حيث كانت تقيم أسرته النازحة من أقاصي الجنوب العراقي الى العاصمة العراقية بغداد منتصف القرن الماضي مقيمة على كتف أحد أحياء بغداد الراقية في الكرخ في منطقة كانت تدعى الشاكرية، التي هي حي عشوائي أنشأه معدان الجنوب " أحفاد السومريين" النازحين للعاصمة بحثاً عن وظيفة وسبيل للعيش مأخوذين بسحر المدينة التي لن تعترف بهم كمنتمين لها بل باتوا حتى اليوم مثار سخرية أهلها وتمايزهم الطبقي بعد أن أضاعوا خط العودة لمسقط رأسهم.


شاكرية سليم مطر التي تركها نحو أكثر من مكان ببغداد، بعد التحولات السياسية والديموغرافية للعاصمة، لها قصة حميمية جداً لدى الكاتب حتى أنه حين عاد لبغداد لأول مرة بعد سنوات طويلة من الهجرة عام 2003 كانت الشاكرية، التي قاومت أسرته للتشبث بها وبقيت أطلال منها حين غادر العراق، لم يعثر عليها "لانها كانت محاطة بأسوار وحواجز حربية ومدججة بسلاح وحراس منذ أيام صدام.. أصبحت المنطقة بأكملها مقراً للقيادة القومية لحزب البعث والقصر الجمهوري. وبعد الاحتلال أصبحت جزءاً من المنطقة الخضراء.." ص 31.
ولعل محور السيرة يرتكز على الفصل الخاص بـ " أبي مطر وحانوته العجيب" ذلك الحانوت المبنية جدرانه من مخلفات مايستهلكه الناس ويرمونه في قارعة الطريق وكان لصق سور مديرية الأمن العامة حيث كان زبائنه من الجلادين والموقوفين وذوي المعتقلين والشرطة الصغار منهم والكبار اذ كان الكاتب يساعد أبيه طوال اليوم مستمعاً منه سيراً معادة ومتنقلا بين الزبائن من معتقلين وجلادين بالسندويش وأكواب الشاي. وقد تكونت في هذا الحانوت العجيب أول قصة حب للكاتب مع إبنة احدى العوائل المعروفة من طرف واحد بسبب الفارق الطبقي، وكان طغيانه العاطفي مكبوتا دون أن يجد أي سبيل لافراغه مع مايجده من صدود محبوبته إيمان وهي في برجها العالي جداً عنه، على العكس من فوارنه الجنسي كمراهق الذي كان يفرغه بالعادة السرية كبقية شباب البلدان المكبوتة والمحافظة.
تلك القصة ومالحقها من فشل كانت سبباً في إعلان الكاتب إلحاده وهو لما يزل صبياً حتى قبل أن ينتمي للحزب الشيوعي، ملقياً بأسباب فشله في كسب قلب معشوقته إيمان بنت القادر على الله الذي لم يستجب لتوسلاته، وثورته على الله هي رد فعل اوديبي كبديل أو مواز للهجوم على الأب حيث اقترنت فترة ثورته الأوديبية بالحاده ثم بانتمائه لاحقا للحزب الشيوعي الذي هجره بعد تجربة مريرة ليعيد علاقته مع الله الذي خصص له فصلاً من سيرته بعنوان " حكياتي مع الله.. صديقي الطيب الجليل".
اعترافات رجل لايستحي مجموعة من القصص تؤرخ لسير الطفولة والصبا والشباب والرجولة جمعها الكاتب في حزمة واحدة كفعل تطهيري بما منحها من عنوان، وان كان محافظاً على الحياء بمعناه الدارج انما متجاوزاً بصراحته الخجل بنفس الوقت، وبدا الكاتب كأنه يريد أن يشرك القاريء بهذا الحمل من القصص والتحولات التي مرت عليه ليحقق راحة ذاتية ويقدم لسواه تجربته التي ربما كان البعض لما يزل يصر على أن مابدأه الكاتب من انتماء سياسي هو الحق والطريق الأصح.
الكتاب بفصوله الأحد عشر مع ملحق من الصور التي احتوتها الطبعة الثانية يشّرح الكاتب فيه تحولاته الجسمية والاجتماعية والوجودية وقد قضى فترة نضجه الذهني فيها خارج العراق مستقراً في جنيف كمهاجر أبدي بلا وطن فهو حين يعود للعراق يحن لسويسرا، وفي سويسرا يحن للعراق دون أن يستقر بمكان. مكتفيا باستقراره المعرفي كباحث مختص بالعراق عن بعد، ومتصالح مع ذاته وهو يختار محبة الذات والناس كطريق لبلوغ جنان الأرض.
كتاب اعترافات رجل لايستحي .. سيرة روائية عراقية صادر عن مركز دراسات الامة العراقية- ميزوبوتاميا/ جنيف- بغداد. دار الكلمة الحرة- بيروت. عام 2008. من الحجم المتوسط في 158 صفحة. وستصدر طبعته الثانية عام 2009 عن المؤوسسة العربية للدراسات.

ــــــــــــ

اعترافات رجل لا يستحي: تعرية الذات والتصالح معها

 

أحمد سعداوي/بغداد

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

يبدو من الصعب فصل التجربة الإبداعية (الجمالية) للكاتب العراقي سليم مطر عن تجربته الفكرية ورؤاه الاجتماعية والسياسية التي سطرها في عدد من كتبه. الأمر الذي يحيل الى تصور أن الكاتب ينطلق في خطابه العام من مشروع رؤيوي جامع، تتعاضد كل نتاجاته، الفنية والفكرية، في سبيل ترسيخ هذا المشروع وتكريسه في الوعي القرائي.

هذه الملاحظة يمكن تلمسها من خلال المطالعة في كتابه الأخير (اعترافات رجل لا يستحي) والذي اعطاه الكاتب تعريفاً او تجنيساً بعنوان فرعي " سيرة روائية عراقية".

وفي هذه القراءة البسيطة أحاول المرور على القضايا الأكثر الفاتاً بالنسبة لي في هذا العمل السردي، من زاوية كونه عملاً فنياً، ثم العبور من داخل العمل الفني نفسه باتجاه القضايا العامة التي يشترك فيها كتاب الاعترافات هذا مع مجمل المشروع الفكري لسليم مطر كما هو مسطر في كتبه الأساسية "الذات الجريحة" و"جدل الهويات" وغيرها.

هذه السيرة الروائية جاءت على شكل لوحات أو نصوص ذات محاور او موضوعات منفصلة، فيفرد قسماً أولاً للذات الاجنبية التي استيقض عليها الطفل سليم في حي من احياء الشاكرية، ذلك المكان المنهك والمتعب وسط بغداد الذي ضم العوائل الفقيرة المهاجرة من الجنوب العراقي، والذي اندرس لاحقاً واختفى. ثم يتحدث الكاتب عن امه في فصل خاص، وكذلك عن ابيه، وعن علاقاته النسائية، وعن ابنه باسم، وعن تجربة مروره بمرض السرطان وخبراته الروحية الخاصة التي ساعدته على الخلاص من هذا المرض المخيف.

الكاتب تعمد، وقد نبه القارئ الى ذلك، أن يقتطع من سيرته الشخصية هذه اللوحات ليعرضها في هذا الكتاب الصغير (155 صفحة من قطع الوسط). وهذا الانتخاب، كما هو الحال مع موجهات القراءة التي اعتمدها لمقاطع السيرة، يدفع الخلاصات المعرفية الى المقدمة في السرد السيري، ويؤخر الى الخلف تلك العناصر التي تقوي من الادعاء بروائية السيرة. فالكاتب لا يدخلنا في مشهدية الأحداث، قدر سحبه لنا للوقوف على خلاصات تحليله للتجارب التي عايشها وكيف انتهت الى بلورة مواقف خاصة، تتطابق مع تصوره الفكري العام.

من هنا تبدو الرؤية الفكرية العامة لسليم مطر حاكمة على سردية السيرة في هذا الكتاب. الى حد الاختزال لمفردات السيرة في ثنائيات مفاهيمية، فالأب يمثل العقل والأم تمثل العاطفة، أو (ايمان) الفتاة التي ايقضت في نفسه الحب بمعناه الرومانتيكي، و(خانزاد) الفتاة التي ايقضت فيه شهوات الجسد. وتحكم هذه الثنائية على قراءة سليم مطر لسيرته او المقاطع المنتخبة من سيرته بشكل واضح، ولا اعتراض على خياراته، لولا أنها تضعف من فنية الكتاب، وتقربه الى مجال التمثيل للرؤى الفكرية المسبقة، التي أنتجت بالضرورة في مرحلة عمرية لاحقة من حياة المؤلف.

وهذه الملاحظة تتعلق بمقاربة تحققات المتن مع العنوان الفرعي الذي وضعه المؤلف لكتابه "سيرة روائية عراقية". فالروائية هنا كصفة للكتاب تخففت كثيراً في مسار السرد السيري المحكوم بالقبض على الخلاصات.

وما سوى ذلك فأن الكتاب، على صغره، يقدم سرداً مكثفاً وشائقاً لجملة من التجارب الإنسانية، لم تمر عليها أقلام الكتاب العراقيين إلا ما ندر، ويقدم، عبر لوحاته السردية المختلفة، منظوراً متماسكاً لصور عن بغداد الستينيات والسبعينيات من منظور الهامش. والأهمية الاساسية تكمن هنا، من وجهة نظري، في كون هذا الهامش اجتماعي/ طبقي، وليس نخبوي أو ثقافي. إن العين الراصدة للحياة في بغداد، وهي المركز الحضري الأساس في العراق، كانت عين الجيل الثاني من المهاجرين الى العاصمة. الجيل الذي هو في الولادة أبن لبغداد، ولكنه بالانتماء الاجتماعي والثقافي مبعد عنها. والأزمة العميقة التي عايشها هذا الجيل، كانت قبل أن تكون أزمة افتراق في الوعي الحداثي عن الثقافة الاجتماعية السائدة، أزمة هوية اجتماعية. فالمدينة التي يقوم عمادها الأساس، كما يفترض، على الاختلاط والتنوع، لا تعترف بهذا الوافد ابناً لها، حتى وإن ولد على أرضها وبين أحيائها. هذا الإقصاء الذي دفع، في حقبة الستينيات والسبعينيات، قطاعات واسعة من أبناء المهاجرين للأنظمام الى التيارات السياسية التي بدت حينها معبراً عن صوت الهامش الاجتماعي، وبالذات التيارات اليسارية.

وفي بحثنا عن سبب الحياء أو عدم الحياء من سرد الاعترافات لدى سليم مطر، سنرى أن الكاتب، وفي موقف قلما يضع المثقف العراقي نفسه فيه، يفكك ـ باعترافاته ـ عقدة الحياء التي توارثها عن محيطه الاجتماعي الفقير. هذه العقدة التي ظلت الحاجز الصلد غير المرئي بين الصبي ثم الشاب النبه والذكي والفوار بالحياة، وبين فضاء الحياة المدينية نفسه. إن الكاتب، ومن خلال الكتابة نفسها، وهو يزيل الحياء القديم، يتصالح مع نفسه، ويغري القارئ لهذه المصالحة مع الذات، الأمر الذي يعززه ذلك التحليل السايكولوجي المعمق الذي طرحه سليم مطر في الكتاب نفسه، عن تحطيم الجسد بكره الذات، وكيف ان الصحة البدنية، واتساق العلاقة مع الآخر والمحيط تبدأ من التصالح مع الذات، بل وحب الذات.

والنص بهذا المنحى يضع السيرة على طاولة التشريح لتقديم أمثلة عن الخبرة الشخصية، دون أي بهاء مفتعل للذات المتفوقة، ودون أي مكابرة او تلميع للذات أمام القارئ.

والنص ايضاً يعطي دفقاً اضافياً لمنحى عام يتنامى في السردية العراقية، يشتغل على التدوين السيري، وفق اعتبارات أهمها، ان التجربة العراقية ـ الذي ما زال جلها خارج التدوين ـ تحوي طاقة حياتية واستفزاز مخيلاتي يضعف من أهمية الحاجة لشطحات الخيال (الاختلاقي). وكذلك فان طاقة البوح تغدو أكبر من إمكانية تحويطها بحاجات الانشاء الفني الصرف. ويغدو الكاتب مع هذا النمط من الكتابة، حريصاً على إيصال التجربة وعدم تشويشها أو إضعافها بخيال فائض، مادامت التجربة نفسها (الحياتية السيرية) مكتنزة وضاجة بالتفاصيل، او غير مكرسة كمتن كتابي سائد.

وعند سليم مطر في كتاب اعترافاته يغدو الأمر، بالإضافة الى ما سبق، ضرورياً مادام مرتبطاً، بشكل أو بأخر، مع مشروع فكري ينحو الى عرض أطروحات وتصورات عن قضايا كلية وجوهرية تخص الشأن العراقي ومشكلاته البنيوية العميقة.

فكتاب السيرة هنا، كما في كتبه السابقة، يدخل الى تمزقات الذات العراقية، والعلاجات التي افترضها لهذه التمزقات، ويغري قارئه بمجابهة هذه التمزقات من موقعه هو. وإن كان في كتبه الفكرية ينحو منحى تجريدياً عاماً في وصف أزمة الذات العراقية وهويتها الغائبة، فانه هنا يدخل في أزمة الذات المتبنية لتمزقات الهوية. وكيف أنها، هذه الذات، بعبورها على جراحاتها وأخطائها ونكباتها، تظل تجرجر خساراتها معها أينما حلت، مادامت غير قادرة على مواجهتها والاعتراف بها، والتصالح مع الذات وعدم جلدها.

المفارقات التي يحملها هذا النص السيري عديدة، لجهة ارتباطه بأفق القراءة العراقية، قد يتفرغ لفحصها آخرون غيري، ولكني أشير الى واحدة منها، حيث يبدو سليم مطر، في هذا النص السردي وفي كتبه السابقة ايضاً، مشغولاً بتجميع كسر الذات ونثارها، على الضد من أفق ثقافي سائد ومهمين، يدعو الى نفي الذات اصلاً، والكشف عن اختلاقات تشكلها. وسليم مطر ايضاً، مشغول ومنهمك في مشروع ثقافي يبحث عن "تأصيل الهوية" كنوع من الصراع الايجابي مع أصوليات هوياتية سائدة (قومية ودينية وطائفية وعشائرية ومناطقية الخ) على الضد من مسعى مثقفين آخرين، عراقيين وعرباً، لـ"نفي الأصول" والتأصيل، ان جاز التعبير، في عموميات هوية معولمة، وإن كان في سياق الهدف نفسه، وهو الصراع مع أصوليات الهوية المستشرية في عالمنا الشرقي.

ويبدو هذا الهوس بالتأصيل الايجابي للهوية لدى سليم مطر، مفهوماً، في نطاق البدهية التي ترى بأن الوصول الى تخوم هوية وطنية مدركة، مازال مشروعاً غير منجز في منطقتنا، ومن الأجدى الاستمرار في تنشيطه، من خلال إعادة القراءة والتفكيك لتراث الهوية الوطنية بدلاً من الانقذاف في فضاء الهويات المجتثة الذي يمثل فائض السجال لدى الآخر الغربي، هذا الانقذاف الذي يبدو جواباً شائعاً وقريب المنال لدى المثقف العراقي والعربي عن الأسئلة التي تنتجها ازمة الهوية المتواصلة في عالمنا الاقليمي اليوم. وهو جواب يصر سليم مطر على تجاوزه، واجتراح اجوبة أخرى، يدعو القارئ الى تأملها وفحصها. الامر الذي يدفعنا نحن ايضاً الى دعوة مماثلة لقراءة كتبه، ومنها كتاب أعترافاته الشيقة والمليئة بالخلاصات والمواقف الجديرة بالتوقف والاهتمام.

ـــــــــــــ

سليم مطر في اعترافات رجل لا يستحي: طفل ”الشاكرية“ لا يزال يبحث عن اللقى!

محمد غازي الاخرس

2009-08-26 الصباح الجديد

في الاهداء الذي يقدم به كتابه الجديد ، يحاول سليم مطر تصحيح دلالة العنوان قائلا لاصدقائه القراء انه لم يزل كماعرفوه ،"يستحي" اكثر من المعتاد لكنه، مع هذا ، يحب الحقيقة وكشف المسكوت عنه والصراحة التي يجب ان تبدأ مع الذات . انه شروع بمهمة لم نعتدها في ثقافتنا الشرقية ـ الاسلامية واذ اقول الشرقية الاسلامية فانني المح الى ذلك الاتجاه المسيحي حيث لحظة "الاعتراف" قابلة للتجدد دائما والذات على استعداد لتعرية نفسها امام الله الممثل بالكاهن .
لكن سليم مطر يتجاوز حتى حدود هذه اللحظة فاذا كان المسيحي يؤدي طقس الاعتراف امام كاهنه فان مطر يعدنا منذ اللحظة الاولى بالتعري امام الجميع . في الفصل الأول يستغرق المؤلف في سرد فكرة "اجنبيته" في بلاده وبين اهله متوقفا عند لحظات منحوتة في ذاكرته الحساسة فهو، كما كان يقال له، ليس ابنا لعائلته انما وجد مرميا في زبالة قرب مزارع الجت ، مزحة ثقيلة لطالما جلدنا بها ولعلنا اليوم نعيش تحت وطأة ما خلفته من جروح فينا. لكن هذه المزحة لن تكون ذات شأن ازاء ذلك "الطرد" الجاد الذي تعرض له سليم مطر بوصفه جنوبيا نازحا الى بغداد.
يقول " كلما مرت اعوام الطفولة والمراهقة والشباب الاول تفاقم شعوري باجنبيتي عن اهلي وبلادي، لم اصادف اي شخص اوجهة او كناب علمني محبة الوطن . حتى الكتب المدرسية لم تدفعني للانتماء الى بلد اسمه العراق" .
الفكرة التي تستبطنها هذه العبارة مبثوثة في جميع مقالات سليم مطر وليس في هذا الكتاب فقط ، لكن اهميتها هنا تكمن في انها ربما تكشف جزءا من الطبقة السفلى التي يقوم عليها البناء الفكري الذي ارتبط بهذا الروائي .
نقصد فكرة" الاغتراب " وغياب الهوية الوطنية عند العراقيين لاسيما ابناء الجنوب الذين نزحوا الى بغداد. والمفارقة ان اختيار مطر لمفردة "الاجنبية" كان اختيارا ذا دلالة لا يخطئها الذهن. فالجنوبيون عموما يطلقون تسمية " اجنبية" على المرأة التي لا تنتسب الى عشيرة الزوج .
هل فكر طفل "الشاكرية" بهذا المنطق فاحس باغترابه عن المدينة؟! هذا مؤكد حسب ما يخبرنا الفصل الاول ومن ثم الفصل الثاني المخصص لـ"الشاكرية ، بلادنا العابرة ".
يقول سليم مطر الذي تقطر عباراته الما حتى دون ان يقصد ذلك :"نحن اطفال الشاكرية كنا نقتنص فترات الظهيرة، حين يهجع ابناء كرادة مريم الى قصورهم لكي نجتاز بلادهم بسرية وخوف ونحن حفاة راكضين بحثا عن ضفاف دجلة.
نتسلق اعمدة الاسس العملاقة ونبحث في المزابل عن لقى نادرة تخلى عنها الاغنياء سهوا".
وفي مقطع اخر يذهب مباشرة الى عدوه ، ليس الطبقي انما السياسي " كان اباؤنا يذهبون صباحا الى أعمالهم ، شرطة وفراشون ومنظفون وبناؤون ، كذلك عسكر يموتون في حروب تحدث في اماكن مجهولة بعيدة وكنت اسمعهم احيانا حينما تأتي جثة عسكري قتيل يرددون اهزوجة شائعة : طركاعة لفت برزان بيس باهل العمارة".
حقيقة الامر ان لغة سليم مطر في هذا الفصل الرائع ، فصل "الشاكرية"، تسبطن شعورا ممضا، ليس بالاغتراب حسب، انما بالضعة والتقزم .
لكنها، في الوقت ذاته ، تستبطن شعورا مكبوتا بالغضب، شعور سيختمر لاحقا عند المؤلف، ليتحول الى شبه نظرية مركزها هو فكرة غياب الهوية الوطنية العراقية ومحاورها هو علاقة المواطن بالدولة، من جهة والأفكار السياسية والايديولوجيات الشمولية ، من جهة اخرى.
هذا المرتكز الأخير كان اشبع بحثا من قبل سليم مطر ، وما يستعيده  اليوم ، في سيرته الذاتية ، انما يستمد اهميته من القائه ضوءا مكثفا على السياق الذي انتج  تلك الأفكار.
عدا هذا ، توقف سليم مطر عند أبيه ذي الشخصية الغريبة والعجيبة، الشخصية العراقية المثالية كما يعرض سليم ملامحها " يقينا انه من نسل كلكامش ، جدنا الملك الاسطوري ، ذلك الظالم الجبار الرحيم الحنون ، المستبد المغتصب الذي يبكي كطفل امام جثمان صديقه وغريمه انكيدو" .
وجه الشبه كما يرى سليم مطر ان الاب كان ، هو الآخر ، متناقضا في خصائصة ، فهو " رجل طيب كريم وذكي وعظيم لكنه ايضا احمق وضيع وشرير، الم اقل لكم ان حياته وشخصيته التعبير الامثل للشخصية العراقية الشعبية خلال القرن العشرين" ص 34 بعد ذلك تصل اعترافات سليم مطر الى رابع محطاتها وهي حكايته مع امه"وبرية" ، المولودة في العمارة والقادمة الى مدينة التيه، بغداد ، مع زوجها مطر.
يقول سليم عن امه " بالنسبة لي يمكن ان اختصر وصف علاقتي بامي بكلمتين لا غير : مشاعر الحرمان والتاثيم.
اما الحرمان فانه لاسباب عديدة منها انشغال امي بفقرها وبعشيرة من الابناء والبنات ... هنالك ايضا سبب خاص قد ضاعف من حرماني وهو اني منذ طفولتي المبكرة بعمر ست سنوات بدأت اعيش غيابا فعليا عن امي وحضورا طاغيا لابي" .
الفصول الاخرى من كتاب " اعترافات رجل لا يستحي" ما كنت لتقل روعة عن الفصول التي عرضنا لها والملاحظ في كل الفصول هو التدفق الغزير للمشاعر مع الحكايات والبساطة التي صيغ بها كل شئ . بل ان سليم مطر ، حتى وهو يتحدث عن اصابته بمرض السرطان ونجاته منه ، لم يعمد الى تعقيد انفعالاته والمبالغة في ترجمتها لغويا : هكذا ببساطة يكتب " لم اعد احيا في عالم الواقع ، كما لو كنت قبلها صبيا مغرورا يختال في درب ريفي يرتاده بلا تفكير ولا حذر منذ اعوام واعوام ، وجد نفسه فجاة يسقط في هوة مظلمة مرعبة لم يتوقعها أبدا" .
اعترافات رجل لا يستحي" الصادر عن مركز دراسات الامة العراقية في جنيف كان ، في حقيقته، وثيقة شخصية جدا وعامة الى ابعد الحدود . بل لعل سليم مطر اختصر فيه سيرة جيل باكمله هو جيل "الشاكرية" ، ذلك الجيل الذي لم يبق منه ومن حكايات ابنائه سوى هذه الطبقات السفلى التي يمكن ان تلتمع في نصوص كهذه .

ـــــــــــــــــــــ

 
 

اعترافات رجل لا يستحي، اول سيرة نفسية للانسان العراقي

 

وئام الموسوي/بابل

جريد المدى/ 14 نيسان 2009

 

اعترافات رجل لا يستحي .. سيرة روائيه للكاتب العراقي (سليم مطر) سرد فيها سيرته الذاتيه بأسلوب راق شاعري مفعم بالمحبة والحنين الى مرابع الطفولة. والميزة الاساسية في هذه السيرة هي الجرأة الكبيرة مع قدرة فائقة في التحليل النفسي للذات الشخصية.  ثم انه قد نجح الى حد كبير بعدم الوقوع باغراء الابتذال والاسفاف بأسم الصراحة، بل بقي حتى النهاية محافظا على القيمة الجمالية للنص ولغة السرد الموسيقية. انه كتاب ممتع مشوق من الصعب ان نتركه قبل ان نبلغ آخر سطر منه.

ان هذه السيرة بصراحتها وتكثفيها واحداثها وصورها تستحق ان تعتبر اول سيرة نفسية وحياتية معبرة عن الانسان العراقي. ولعلها في المستقبل ستكون مصدرا للباحثين للتعرف على الحالة النفسية والثقافية للانسان العراقي في العصر الحديث.

هنا محاولة لعرض مختصر لفصول هذه السيرة، حيث اشتملت على احد عشر فصلا، وكل واحد منها يحمل فكرة نفسية فلسفية جوهرية حاول الكاتب، يوضحها لنا من خلال تجربته المعاشة.

الفصل الاول(الاجنبي الابدي) جوهره ان (الانسان المغترب عن ذاته واهله لا بد ان يكون مغتربا عن وطنه وعن الوجود بأكلمه). يسرد لنا تفاصيل غربته الدائمة ومعاناته من الفقر وانتماءه الى (الشراگوة) وهم سكان جنوب العراق. سرد قصتة مع مجلة (سوبرمان) التي كانت تأخذ حيزا واسعا من احلامه الطفولية. وتحدث عن اجنبيته التي لاتفتىء ان تفارقه سواء في بلاده او في غربته. يتحدث عن اخته الطيبه (ليلى) التي حاولت ان تخرجهم من معاناتهم، فكانت خطوتها الاولى نحو التمدن هي استبدال (الدشاديش) بــ (البيجامات المقلمة) والتخلي عن بعض الكلمات التي تكشف عن انتماءهم الى اهل الجنوب، واستبدالها بأخرى اكثر تمدنا. تحدث عن انتماءه الى الحزب الشيوعي الذي وجد فيه نوعا من العائله التي كان يحلم بها طويلا، متأملا  التخلص من اجنبيته المعهوده لكنه سرعان ما يرتطم بجدار اخر عندما يجد ان الشيوعيه لم تعلمه محبة شعبه بل نقده والاستنكاف من تقاليده وتراثه، وكما يقول: (الشيوعية علمتني الانتماء الى كل بلدان العالم عدا بلادي!)). في عام 1978 قام بهجرته التي اسماها بالابديه، رغم انه كان يأمل العوده. هاجر ولم يعرف من بلاده سوى (بغداد). لكنه  في غربته في سويسرا، انقلبت الحالة، حيث صار العراق  هاجسه الحياتي والثقافي الاكبر حتى انه كرس كل كتاباته الفكرية والروائية من اجله. لكنه ظل يعاني من عدم تعرفه الحياتي المباشر عليه، وكما يقول:(كأني طبيب لم يزر مستشفى).

الفصل الثاني (هنا ترقد الشاكرية، بلادنا العابرة)، جوهره (ان طفولة الانسان هي اساس كل حياته القادمة، وحارته الاولى هي بلاده الاولى). لقد ابحر بنا بحب الى مرابع الطفولة الى (منطقة الشاكرية) في اطراف بغداد وعاد بشوق اخاذ الى ايامها. حقا هي بلاده الاولى وعالم طفولته الذي تقاسم فيه البؤس مع من هم حوله. كانت بلادا بحدودها وشوارعها وبؤسها وبيوتها الطينيه. فصله هذ انهاه بأمنية جميله قابلة للتحقق: ان يوضع نصبا تذكاريا في بقعة صغيره من ارض الشاكريه يمثل هذا النصب بيتا طينيا يكتب عنده.

في الفصل الثالث(ابي مطر وحانوته العجيب) جوهره ان( الاب هو رمز السلطة الاولى التي تشكل اساس علاقة الانسان بكلما ماهو سلطوي).  يحدثنا عن حياته التي عاشها في حانوت ابيه، الذي كان له الفضل الكبير في تأسيس روحه المبدعة. يقول عن  ازدواجية والده: (( انه مثل ارض بلادي وتاريخها: انهاروصحارى، جبال وسهول، حضارة وخراب، حب وحرب..)).  هكذا كان يراه مزيجا من التناقضات الجنونيه التي عشقها حتى الهوس.

الفصل الرابع(حكايتي مع امي وسيدتي مريم العذراء)، فأن جوهره ان(الام هي ـ بيت الرحم ـ ورمز الوطن الاول الذي يشكل اساس علاقة الانسان مع وطنه). حدثنا عن امه(وبرية) وسرد حكاية طفولتها وكيف اتتت من العمارة لكي تسكن لدى خالتها وتتزوج فيما بعد من مطر. وصف حجم تأثيرها عليه حيث بقيت طفله في قلبه ورافدا ابديا لحبه للحياة. لقد ربط  تعبده لمريم العذراء بمحبة والدته وكيف انه مازال يتضرع اليها باكيا وراجيا..

الفصل الخامس (سينمات طفولتي ....جناني المفقودة) وجوهره ان( قاعة السينما يمكن ان تمثل ملجأ تعويضا عن مصاعب الدنيا اشبه بالعودة الى بيت الرحم). وفيه وصف رائع لعالم قاعات السينما في بغداد بأجواءها التي تصطخب بصراخ المتفرجين حينما يقرب الخطر من البطل. كان للسينمات تأثير بالغ في طفولته حيث كان يبلغ اوجه حتى يضطره لاستراق الفرص للتهرب من والده وحياته القاسية واللجوء الى القاعات المظلمة التي كانت تجعله وكأنه يعود الى رحم الامومة، على حد قوله.

الفصل السادس( ايه يا بلادي فراتك ايمان ودجلتك خانزاد) وجوهره ان ( البحث عن المرأة بالنسبة للرجل هو في حقيقته بحث عن ام وطن).  فيه يحدثنا عن اكتشافه الاول للمرأة، جسدا وروحا. هنالك فتاتان كل واحدة ترمز لجانب معين من هذا الحب: (ايمان) رمز الحب الاخوي الطاهر. و(خانزاد) رمز الحب العشقي الناري. وكلتاهما تمثلان الوطن. ايمان الفرات، وخانزاد دجلة.

الفصل السابع (حكايتي مع الله... صديقي السيد الجليل) وجوهره ان( العلاقة مع الله مرتبطة بالعلاقة مع الاب). فيه يحدثنا فيه عن  تجربته الشخصية في البحث عن الله منذ طفلوته الاولى، وكيف مرت بمراحل بدأت من الايمان المطلق ثم النكران المطلق، لتبلغ اخيرا العودة العقلاقنية القائمة على نوع من التقديس والصداقة. كانت علاقة متوترة لانها مرتبطة بعلاقته مع ابيه، حيث شهدت تقلبات كثيره بين مد وجزر، بحثا عن الحقيقه الابدية، حتى استقرت روحه اخيرا في حضرة الله الرحبة.

الفصل الثامن(البحث الابدي عن امرأة وبلاد) وجوهره ان(حاجة الرجل الرجل للمرأة، ليست فقط من اجل المتعة والصداقة، بل من اجل الانتماء ومد الجذور في الارض الجديدة). فيحدثنا عن بحثه الابدي عن إمرأة والتقائه اخيرا في جنيف بـ(ماركريت) التي اصبحت زوجته. منها تعلم الانتماء ليس الى سويسرا فقط بل ايضا الى العراق! في اوربا تعلم احترام ميراث وطنه الذي كان يحتقره باعتباره شرقيا متخلفا، عليه ان يقدس الغرب وميراثه الثقافي. وقد انهاه بقول معبر: (اني سويسري في العراق، بقدر ما انا عراقي في سويسرا) تعبيراعن غربته في كلا البلدين.

الفصل التاسع(عندما زارني حضرة السرطان)، جوهره ان( المرض الخطير ما هو الا تعبير باطني عن رغبة بعقاب وجلد الذات).  جسد لنا بسطور ملتهبة تجربته المؤلمة مع مرض السرطان وكيف تمكن اخيرا ان يتفاهم معه باعتباره رسول شكوى نابع من اعماق روحه المعذبة. بالرغم من حياة الكاتب لم تخلو من الموت والحزن الا ان هذا الفصل من حياته هو الاكثر الما. واخيرا بلغ الشفاء بعد ان تصالح مع ذاته  ومع ماضيه القاسي.

الفصل العاشر(ولدي باسم شكرا لك لأنك هنا) وجوهره ان ( الابناء هم الذي يختارون اهاليهم، وليس العكس كما هو شائع). انه اشبه برسالة طويلة يتحدث فيها مع ابنه الوحيد(باسم) ويسرد فيه ذكرياته معه حتى بلغ سن الثامنة عشر. وصف فيه جهوده من اجل جعله شخصا معتدلا بحيث يكون سويسري وعراقي في الوقت ذاته. وقد حرصت امه على ان يتعلم العربيه. واكثر ما يشد في هذا الفصل فكرة التناسخ التي بدى الكاتب مقتنعا بها ، وامكانية ان يكون الابن باسم هو بالحقيقة الاب مطر وقاد ولد من جديد ليعيش مع ابنه تجربة انسانية ايجابية تعوض عن التجربة السلبية السابقة؟!

الفصل الحادي عشر(درب المحبة الذي لا ينتهي)، وهو آخر الفصول، ويختتم فيه سيرته بنص انساني فلسفي مفعم بالشاعرية والصدق. يكشف لنا عن خلاصة القناعات التي توصل لها بعد كل هذه التجارب القاسية، حيث يختصرها بكلمة واحدة هي ((المحبة)). ولنا ان نختتم عرضنا هذا بالخاتمة نفسها ليأخذ القارئ فكرة عن ذلك الاسلوب الراقي الفلسفي والشاعري الذي تتميز به هذه السيرة:

((ان طاقة المحبة موجودة في كياني ما دمت حياً. هي غصن متفرع من شجرة الله. أليس كل انسان هو اله بالنسبة لذاته، لأن الله هو الذي خوله ومنحه القدرة على ذلك. ان صلواتنا للإله هي بنفس الوقت صلوات لتلك القوة الالهية الكامنة فينا. مهما كانت الحالة النفسية والصحية ميؤوساً منها، فإن الخلاص يبقى كامنا في طاقة المحبة والحياة، ويمكن حتى آخر لحظة أستخدامها للخلاص من طاقة الهزيمة والموت. وهذا ما يسمى بإرادة الخير والحياة، وهي التي تخلق حالات الخلاص العجيبة من المشاكل والامراض ـ المعجزات ـ

اذا كان الله رب الكون والحياة وجميع الكائنات، فإنه قد منح كل انسان قدرة التحكم الذاتي بمصيره ليكون رب نفسه. نعم الله هو ربي، لكني أنا رب نفسي.

واذا كانت محبة الله هي درب الانسان من أجل بلوغ جنان السماء، فإن محبة الذات والناس والحياة هي درب الانسان من أجل بلوغ جنان الأرض)).

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــ

سليم مطر يتوهج ناصعا في

(اعترافات رجل لا يستحي)!

9/28/2008 جريدة المواطن/ بغداد

سليم مطر يتوهج ناصعاً بتراب (الشاكرية).. ويقلّب ايام رحلته المضنية بمحراث فيلسوف!!..-عبدالامير المجري اعترف مقدماً انني لم اقرأ عملاً أدبياً عراقيا شدني بتفاصيله واحتوتني حيثياته حد الذوبان بينها كهذه الرواية.. وانني اذ اقول هذا، ليس بقصد المجاملة او تحت تأثير دهشتي بها، بل اعترافاً بحقيقة فرضت نفسها عليّ، ووجدت نفسي ملزماً اخلاقيا بالاعتراف بها على الرغم من ان لي وجهة (فكرية) تتعارض مع وجهة المؤلف، ربما يعرفها هو.. اعترافات رجل لايستحي.. سيرة روائية عراقية.. هو عنوان العمل الذي سنتناوله في هذه السطور، يسرد فيه المفكر والأديب سليم مطر رحلة (سليم مطر) منذ الطفولة وصولاً الى مرحلة النضج الفكري الذي دعته اخيراً، ان يعيد قراءة رحلة حياته بطريقة تداخلت وتكاملت فيها عناصر عدة، لتمنحها زخماً فلسفياً وفكرياً وأدبياً بعد ان توهجت الذاكرة بمفردات دقيقة سلط عليها (المفكر) اضواءه ليعيد قراءتها ذاتياً ثم عامل تلك الوقائع بسماد الوعي الذي اكتسبه لاحقاً ليستعرض تاريخ حياته التي اتصلت بحلقاتها من (الشاكرية) احد أحياء بغداد المسحوقة قبل ثورة (14) تموز (1958) مروراً بمرحلة القلق السياسي الذي عاشته البلاد، وعاشه الكاتب نفسه، وصولاً الى قراره هجرة البلاد العام (1978) والأحداث التي عايشها في اوروبا قبل استقراره في جنيف، التي شهدت استقراره الاجتماعي والنفسي ايضاً، ومن ثم تألقه مفكرا ومبدعاً ومن هناك، من تلك المرحلة التي وقف فيها متأملاً بعد سلسلة من التجارب القاسية دوّن تاريخ حياته التي تتجاوز في الكتاب البعد الشخصاني، وان كان طاغياً على مستوى سرد الأحداث الى تاريخ بلد وشعب، وقوى سياسية ربما، وقف متأملاً بعد ان هدأت اعماقه تماماً وتجاوز عواصف وانفعالات وشطحات لتستقر عند رؤى عميقة اعادت انتاج ذات الكاتب بصفته صاحب التجربة ومحورها الرئيس، ومن ثم قراءة الفعل الجمعي الذي رصده بعين اخرى وعالجه بعقل اخر ورؤية اخرى ليعكسه بصورة اخرى! ليعطينا خلاصة رائعة تزاحم بين سطورها الوجع العراقي في تفاصيله الدقيقة، والمهملة وحتى المنسية، مع الكفاح والأمل والاحتدامات الدقيقة للنفس البشرية وهي تواجه مصائر متعددة وواقع يضج بالمتناقضات التي قد لايلتقطها الانسان او يستشعر اهميتها وتأثيرها في صيرورته الا بعد ان يقرأ الواقع قراءة شاملة مشفوعة بوعي عالٍ وبعقلية متحررة وقبل هذا بروح عالية ونفس قوية، تتعالى على الصغائر، ومن هذه الصغائر (الحياء) الذي جاء في العنوان اشبه بالتورية، التي أراد القول من خلالها ان ما سأقوله في هذا العمل، لايخدش الحياء، بل ينزهه بالاعتراف الذي يضيء مواطن الظلام في النفوس.يذهب علم الاجتماع الحديث الى قراءة ادب الشعوب ليعرفها بعيداً عن الاستبيانات والأدوات الأكاديمية الاخرى، لأن الأدب وحده القادر على الغوص الى الاعماق ووحده من يحتفي بدقائق الامور ورواية سليم مطر هذه هي النموذج الامثل الذي يعكس ارهاصات النفس والمجتمع في بيئة مأزومة ومحاصرة بكل اسباب الانسحاق والبؤس والضياع ايضاً، ولعلنا من خلال الرواية هذه ايضاً نقرأ سليم مطر الانسان ونقرأ ايضاً (المبررات) الذاتية للكاتب التي دفعته باتجاه تبني فكرة (الامة العراقية) وقيام مشروعه الأخير، (مجلة ميزوبوتاميا-بلاد ما بين النهرين) التي يصدرها منذ نحو خمس سنوات من جنيف لتكريس مشروعه (الثقافي) اضافة لنتاجاته الادبية والفكرية الاخرى المتمثلة بروايته (امرأة القارورة) وكتابه الشهير (الذات الجريحة) وكذلك كتابه (جدل الهويات).. واعترف هنا ايضاً، بأن روايته هذه من النوع الذي يصعب عرضه بل يستحيل.. انها من النوع الذي يقرأ لانها لا تعطي خلاصات او مقولات معينة تأتي على خلفية سرد تفاصيل بل هي بمجملها خلاصات لرحيق الذاكرة الممتزج بالروح والعقل لذلك فهي تتسرب الى دواخل القارئ وتجعله متماهياً مع صورها، بعد ان تسرقه من وقته ومن المحيطين به كما حصل معي!تبدأ الرواية بالفصل الأول (الأجنبي الأبدي) والذي يعترف فيه باحساسه بـ(أجنبيته) في بغداد التي انبتته فيها قسراً ظروف عائلته (الجنوبية) وعمل والده، الرجل المكتظ بالمتناقضات التي من بينها القسوة والطيبة والدبلوماسية الشعبوية المدهشة! ثم حياة الطفولة البائسة والحرمانات التي لاتنتهي والعمل مع الوالد في حانوت غريب وعجيب، والذي سيعيد (سليم مطر) قراءة يوميايته -الحانوت- ليكتشف انه كان (منتدى) غريباً وعجيباً ايضاً علّمه اشياء سيقرأها (المفكر) فيما بعد قراءة جديدة ليقدمها كتجرجة مدهشة تستحق التوقف بين ايامها او سطورها طويلاً!.. اما الفصل الثاني (هنا ترقد الشاكرية بلادنا العابرة) وفيه رأيت الشاكرية وكأنها تشخص امامي ببؤسها، وبحياة اناسها المنفيين في زاوية مهملة من (بغداد).. بعدها نقرأ (أبي -مطر وحانوته العجيب!) وهذا الفصل لم أقرأ في الفنتازيا شيئاً يشبه تفاصيله الواقعية التي يسردها الكاتب بلغة سلسلة عذبة وممتلئة وقد نجح في خلق مناخ شعري ظل مهيمناً على العمل منذ الاسطر الاولى حتى النهاية، فهو بوصفه الشاعري يختزل الكثير من الكلام، ليترك الصور تتدفق بطريقة مبهرة لدرجة اني لم اشعر وكأني اقرأ بل اتجول بين تلك الثنايا مع البطل في يومياته الضاجة هناك..احد عشر فصلاً، تمتد ليروي فيها حكايته مع امه ويستعيد ايام السينما او (سينمات طفولتي.. جناتي المفقودة) وعلاقاته العاطفية التي تقف فيها فتاتان كعلامتين فارقتين، ثم حكايته مع الايمان والبحث الابدي عن امرأة وبلاد، ويروي محنة اصابته بالسرطان حتى شفائه ثم يفرد فصلاً لولده باسم الذي يسرد حكايته معه، بلغة موحية ومشبعة تفيض منها مشاعر الابوة التي تشرك القارئ وتجعله متماهياً مع الكاتب بأحاسيسه التي تبدو وكأنها نابعة من اعماق صوفي، يرتل تلميذه اسرار المحبة، والمحبة هي اخر الفصول التي يختم سليم مطر بها روايته بفصل عنوانه (درب المحبة الذي لاينتهي) وفيه يدلق خلاصة تجربته في الحياة التي يقول ان الذي جعله سعيداً فيها هو تغلب الحب في داخله على كل اشكال الكراهية، لتكون آخر كلماته في الرواية.. (واذا كانت محبة الله هي درب الانسان من اجل بلوغ جنان السماء فان محبة الذات والناس والحياة هي درب الانسان من اجل بلوغ جنان الأرض)..اعيد القول ان كل ما كتبته لايعكس الصورة الرائعة التي فاضت بها صفحات الرواية وانما هي محاولة متواضعة للاشارة اليها لا أكثر.. اعترافات رجل لايستحي.. لو كتبها كاتب شهير مثل كونديرا او سولنجستين، لضجت بها وسائل الاعلام، ولطبعت بمختلف اللغات وانا هنا لا أقلل من شهرة ومكانة سليم مطر، بل أود ان الفت النظر الى اهمية العمل، الذي جاء بنوع جديد على الأدب العراقي بل العربي، واجزم ان رواية (الخبز الحافي) للروائي المغربي محمد شكري التي نالت شهرة واسعة، ليس فيها من التدفق الوجداني والرؤية الواضحة والصراحة الممتزجة بنضج التجربة والوعي العميق، الذي انطوت عليه هذه الرواية.فهي سيرة فكرية بلغة اديب، وعمل ادبي نضحه عقل مفكر.. انها حقاً تدخل القارئ في انسيابات سحرية تجعله يضحك مع مشاهد الألم ويبكي مع مشاهد الضحك التي يتركها قلم الروائي خلفه وهو يتجول في عالم غادره وظل متشبثاً فيه او انه ماثل في قرارة روحه التي طفحت بكل شيء في لحظات تجلٍ جديرة بأن يقال عنها الكثير.