مغنية الشارع، وحلم الأمومة الأبدية!

سليم مطر ـ جنيف

آذار 2016

 http://c300221.r21.cf1.rackcdn.com/artnet-galleries-rosette-une-gitane-la-guitare-by-marcel-dyf-from-frost-reed-1363894025_b.jpg

                                             

فجأة انتبه إلى أنغام قيثارها. مغنية الشارع الحسناء واقفة في صدر الترام تعزف، وأنا جالس في مقعدي. شفتاها تنفتحان كغيمة يخترقها شعاع شمس، وتشرع بالغناء:

تعال يا طفل تائه تعال

أنت ابن سماء وإخوتك نجوم

هائم وحيد تنشد أمثالك الغرباء

أنبياء حالمون شعراء

أبدانكم أرض وأرواحكم طيور

أجانب أينما حللتم

بلا أهل ولا وطن

تعال يا صغيري تعال

 

بالتدريج يجتاحني صوتها، صداح حزين. وجه من حنان واشتهاء. متآلفة مع القيثار منذ عصور غابرة. أمواج بحرها تغسل روحي. إنها تسمع أحزاني. أتمسك بمقعدي خشية أن تسحبني إليها انجذابات وله وعبادة. تصمت وهي تنظر إلى سيدة تهبط من الترام تحمل كلبا أبيض صغيرا. وتناديها:

ـ مدام.. أهذا الطفل معك؟ مدام نسيت طفلك.. مدام..

السيدة لا تلتفت ولكن كلبها يرد بأنين وعواء مكتوم. وفي اللحظة التي تحاول فيها اللحاق بالسيدة يغلق الترام أبوابه ويتحرك.

أراها متوهجة بفستان غجري ألوانه قوس قزحية. تنظر بعتب إلينا نحن الركاب.كفاها مطليان بالحناء، مثل شعرها، وعليهما وشم مغربي. ملامحها ترسم صور كلماتها:

تعال يا فارس حالم تعال

أما سئمت صهيل خيولك
منذ خمسين عاما وأنت بعدك طفل

هائم كوعل عطش لنبع أمان

أمك وطن ومهدك بستان

ترضعك أنهار وتهدهدك طيور

قيثاري بيت رحمك

ألحاني أمطار خصبك

حليبي شراب خلودك

تعال يا صغيري تعال

 

يضبب عيوني دخان شك وقلق. تحيرني هذه المرأة. مسكونة بعدة شخصيات. أم حنون تهدهدني كلماتها، وغاوية تنادي أشواق مهجورة. تصمت وتحدق بنظرات معاتبة ساخرة. ترتسم ابتسامة حائرة، خطان منكسران على وجنتيها. آلهة عدالة سيفها قيثارها. تخاطبنا كأنها مستمرة بأغنيتها:

ـ لا أحد.. لا أحد يهمه أمر الطفل؟!

إحساس غريب بالضعف يجتاحني. قلبي يهبط في كهوفي ونبضاتي تأوي إلى قيثارها. أحس باختناق. أراها تتحرك، تتقدم، تتقدم وتقف أمامي. كبيرة كبستان. أشم عبق ثمارها، وأسمع عصافير تغرد بين أشجارها.. و..و.. وتنحني.. نحوي.. لأول مرة أراها هكذا عملاقة ووجهها يملأ شاشتي. حاجباها معقودان، سيفان يحرسان عينين عسليتين. كفاها جناحان يمسدان وجهي ويمسحان، يا إلهي، دموعي!

عويل طفل يبكي. لا أدري أين هو؟ شفتاها تهمسان بحنان:

ـ اهدأ يا صغيري.. أمك لن تنساك، ستعود إليك.. لا تبكي فهي بانتظارك..

تظل واقفة جنبي. تستمر بأغنيتها وشعاع عينيها يطوقني:

تعال يا نبي خائب تعال

ها قد نبذك أحفاد الحوت

وهجرتك أرض الطوفان

تعال يا حبيبي تعال

جسدي بساط طائر أنت فتاه

قلبي مصباح ساحر أنت مارده

تعال يا صغيري تعال

 

شعاع شمس متسلل من النوافذ يحط عليها. خشوع قدسي . كائنة خرافية رأسها في سماء وأقدامها على أرض. صوتها تراتيل كونية تسبح بمحبتي. تسري فيَّ نشوة خدرية وأتكور على نفسي، أنكمش وأتقلص. لا أدري لم تعاملني كطفل؟ والناس، لا هي تخجل منهم، ولا هم يأبهون! ثم أنا، كيف أقبل بهذ؟ تنظرني بشقاوة ويتلون صوتها بأنغام فكهة:

تعال يا ثعبان ثمل تعال

أما أضناك زحفك في براري

منذ خمسين عاما وأنت هائم تتلوى

بلا ماء ولا نبت ولا أمان

اهدأ وارقد هنا على صدري

طائرك الوقواق عشه بين تلالي

أدفئك بموقدي وأرضعك حليب أقماري

تعال يا صغيري تعال

 

تداعبني وتقبلني في عيوني . ثم تحتضنني و..و.. يا للهول تحملني!؟

نعم إنها تحملني وتضعني على صدرها. أسمع هفيف فراشات تسكنها. عيونها نجوم متألقة. شفاهها شريحتا تفاح مغموستان بعسل. تفتح أزرار قميصها وتخرج ثديها وتضع حلمة من زهرة قرنفل حمراء فواحة في فمي.. وأنا..أنا.. يا إلهي؟!

طفل طيب وحيد ضائع جائع أرضع حليبا محلى بأنغام قيثار وأغاني غجر.