بلدة آدم، وبلدة حواء!

سليم مطر ـ جنيف

نيسان 2016

http://sciences-et-cetera.fr/wp-content/uploads/2013/09/Capture-d%E2%80%99%C3%A9cran-2013-09-09-%C3%A0-21.36.43.jpg

 

عندما كنت طفلة في المهد، كانت بلدتنا الأصلية تسمى (بلدة الإنسان) وهي وحيدة في هذا الوادي الأخضر الفسيح الذي يسمى (وادي الناس). كانت مثل باقي البلدات بخيرها وشرها. لكن في تلك الفترة انتشر في وادينا الجفاف وعم القحط. عانينا من أزمة خطيرة لم تمر في تاريخنا من قبل. تفشت المشاكل بيننا وكثر الشجار خصوصا بين الأزواج، وتزايد الطلاق والهروب من البيت، وحدثت جرائم انتقام وغسل عار. ساد اللغط والجدال بين الناس وتفاقمت التهديدات والاعتداءات بين العوائل، وبلغ الأمر من الحدة ما جعل خطر الحرب الأهلية شاخصا أمام الجميع. فانقسم الناس إلى عوائل وجماعات متنافسة كل منها يهدد الآخر بالفناء. أخيرا اجتمع حكماء بلدتنا وظلوا يتداولون الأمر سبعة أيام وليالي دون انقطاع، حتى توصلوا أخيرا إلى القرار الجماعي التالي:

((إن فصل الجنسين الإناث والذكور، في بلدتين مختلفتين أفضل حل لتخفيف الخلافات داخل العوائل، وبين بعضها البعض)).

الحجة الكبيرة التي اقتنع بها الغالبية، أن هذه الأجواء المتوترة بسبب كارثة الجفاف، تزيد من حدة الخلافات بين الأزواج وعوائلهم. وهي بدورها تزيد من حدة التوتر السائد بين الناس وتفاقمه. بما أننا لا نستطيع حاليا التغلب على السبب الأول للمشاكل الذي هو الجفاف، دعونا نلجأ مؤقتا إلى الحل الممكن لتخفيف المواجهات، ألا وهو التفريق بين الجنسين.

وفي اليوم التالي شرع أهالينا ببناء بلدة ثانية تبعد بضعة كيلومترات لتكون خاصة بجميع الإناث، أمهات وعازبات وطفلات. بقي في بلدتنا الأصلية فقط الذكور، آباء وشبان وأطفال. وفي وسط البلدتين بنينا بلدة ثالثة لتكون مكانًا للقاء الجنسين من الأقارب، أزواج وإخوة وأخوات وغيرهم، لنجتمع يوما واحدا في الأسبوع، ثم نعود في اليوم التالي، كل إلى بلدته.

وعندما تَحْمَلُ المرأة وتنجب، إذا كان الوليد أنثى تبقى دائما مع أمها، وتلتقي أباها مرة في الأسبوع. وإذا كان ذكرا فإنه يبقى مع أمه حتى نهاية سن الرضاعة، ثم ينقل بعدها إلى بلدة الذكور ليعيش دائما مع أبيه وإخوته، ولا يلتقي أمه وأخواته إلا مرة في الأسبوع.

النساء أخذن على عاتقهن مهمة إنجاز الأعمال الحرفية للجنسين، من حياكة وخياطة ثياب وعمل السلال والأفرشة والأحذية وغيرها من الاحتياجات المعروفة.

أما الرجال فقد تكفلوا بالزراعة ولواحقها من أمور الري والتنظيم والبناء. وكانت أهم الصعاب التي واجهت الذكور مشكلة الطبخ وتنظيف الدار. وهي في الحقيقة عمليا لم تكن صعبة، ولكن المشكلة تكمن في المانع النفسي والأخلاقي، إذ إن رجالنا منذ آلاف الأعوام تعودوا أن يكون الطبخ والتنظيف من مهماتنا نحن النساء، ومشاركة الرجل بمثل هذه المهمات يعتبر إهانة لرجولته.

وبعد مداولات واحتجاجات وجدالات، تمكن الحكماء من إقناع الرجال بأن الطبخ والتنظيف عمل مقبول ولا يتعارض مع كرامتهم. إن الذي حسم الأمر هو حكيم بلدتنا الأكبر سنا، الذي اعتزل ثلاث ليالي في الغابة، لكي يستشير (إله الذكورة والحكمة) في هذه المسألة العويصة. وعاد في صباح اليوم الرابع ومتاعه على ظهره. اندهش جميع ذكور القرية المجتمعين لاستقباله، عندما شاهدوا حكيمهم يخرج من كيسه "قدرا ومكنسة". في البدء ظنوا أن الإله قد عاقبه وأفقده عقله. لكنه جلس بهدوء على الأرض وشرع بالكلام:

ـ اسمعوا يا أبنائي وإخوتي، إن "إله الذكورة والحكمة" يسلم عليكم ويحييكم على قراركم بفصل الإناث عن الذكور، ويقول: إنه نفسه منذ حقب طويلة، اتخذ نفس القرار بخصوص زوجته "آلهة الخصب والأنوثة". لكنه يعاتبكم على إزعاجه بمثل هذه المسألة التافهة. ويقول لكم حرفيا:

ـ ألا تخجلوا من حالكم بالتردد بإنجاز مثل هذا العمل البسيط. فأنا بكل شموخي وفحولتي وحروبي التي لا تنتهي، أطبخ بنفسي طعامي، وكل يومين أقوم بتنظيف وكنس مقر عرشي السماوي.

لهذا فإنه بعث لكم هدية من قصره الإلهي؛ هذا القدر، وهذه المكنسة، لتوضع عند باب البلدة ويسجد لها كل ذكر يمر بها.  

                                             *     *     *

فعلا مع مرور الزمن والأعوام أثبت قرار الحكماء عقلانيته، إذ خفت كثيرا المشاكل وعم السلام وساد التعاون والتفاهم بين الناس، سواء في بلدة الذكور أو في بلدة الإناث، مما سمح بالقيام بإنجازات مهمة في مشاريع الري وتنظيم الأنهار والبحيرات والمزارع، فتم التغلب على مخاطر الجفاف والفيضانات، وانتشر الأمان والرخاء.

لكن بين حين وآخر كانت تحدث بعض المشاكل، كثيرا ما أثارت الضحك، وأحيانا الغضب والعقاب. إذ يلاحظ الرجال أن هنالك رجلا زائرا في بيت رجل آخر، على أساس أنه من أقاربه المقيمين في بلدة بعيدة. لكنهم يكتشفون فيما بعد أن هذا الزائر في الحقيقة زوجته متنكرة بهيئة رجل لكي تمضي الأيام براحتها مع زوجها وأبنائها الذكور. نفس الأمر يحصل لدينا في بلدة الإناث، إذ نكتشف زوجا أو خطيبا متنكرا بهيئة امرأة لكي يمضي الأيام مع زوجته أو خطيبته. وكانت أمي من اللواتي لجأن لمثل هذه الخديعة. وأنا رضيعة أخفتني في كيسها تحت الأغراض، وأخذتني وهي متنكرة بزي رجل لنمضي الأيام في بيت أبي وإخوتي. لم يحسبا أن صراخي سيفضحهما. وقد طُرِدْنَا من البلدة شر طردة، وعوقب أبي بأن يقدم كمية من المحاصيل إلى معبد البلدة.

                                         *   *   *

ومع مرور الوقت بدأت الحالة تتفاقم، إذ بدأت ظاهرة ليست متوقعة تنمو وتنمو حتى أصبحت خطيرة وأدت في النهاية إلى قلب الأمور رأسا على عقب:

هنالك دائما رجال ونساء يملون من هذا التقليد القاسي، ويرفضون البعاد والفراق عن أحبائهم، والعيش الدائم مع أمثالهم من نفس الجنس. ثم يقررون التمرد العلني، من خلال البقاء الدائم في البلدة الوسطية المخصصة للقاءات الأسبوعية.

طبعا كانت ردود الفعل من قبل رجال ونساء البلدتين ضد المتمردين قوية ومؤذية، فكانت تبدأ بالتهديد الشفهي ثم النبذ من العشيرة، ثم أخيرا العقاب البدني وإجبار الأزواج المتمردين على العودة إلى بلدة كل منهما. لكن بمرور الأعوام واضطرار الكثير من الأزواج المتمردين إلى هجر الوادي كله والرحيل مع عوائلهم إلى بلدات بعيدة، بدأت تخف حدة الرقابة والعقاب. حتى أصبحت البلدة الوسطية بلدة كبيرة عادية مختلطة تضم إناثا وذكورا مثل جميع بلدات الأرض، وحملت اسم بلدتنا الأصلية (بلدة الإنسان).

أما البلدتان الأخريتان فقد استمرتا بتقاليد الفصل بين الجنسين، ومن يرفض هذا التقليد ما عليه إلا الانتقال إلى البلدة الوسطية المختلطة. هكذا، ودون أن يخطر ببال أحد أبدا: بلدة الذكور لم يبق بها سوى الذكور الذين يرغبون بالذكور من أمثالهم وحملت اسم "أبناء آدم"، وبلدة الإناث أيضا تحولت إلى بلدة خاصة بالنساء اللواتي يرغبن بالنساء أمثالهن، وحملت اسم "بنات حواء".

                                               *   *   *

أنا مترددة بالكشف لكم عن هذه الحقيقة المخجلة التي تخص أمي وأبي. لكن الذي يشجعني أنها معروفة من قبل سكان وادينا:

إن أمي هي التي بدأت بالتمرد على أبي، وأصرت على البقاء في "بلدة حواء"، بعد أن اكتشفت ميولها المخبوءة نحو بنات جنسها. وكان أبي المسكين مولعا بها إلى حد الجنون. فكان إعلان أمي هجره صدمة مريعة كادت أن تودي بعقله وحياته. لقد تم إنقاذه في آخر لحظة بعد أن حرق بيته وهو داخله. وأخيرا قرر الرضوخ للأمر الواقع، فقام بمحاولات عديدة لتقبل الزواج بامرأة أخرى، لكن شبح أمي كان مسيطرا عليه ويمنعه من الاقتراب من أية امرأة. حتى أنا لم يعد يتحمل لقائي لأني أذكره بأمي. أخيرا وجد نفسه يفضل البقاء في بلدته الأصلية التي حملت اسم "بلدة آدم"، ليس لأنه بميول مثلية، ولكن كي يبقى بعيدا عن النساء.

أما أنا فكما ترون أعيش في "بلدة الإنسان" مع زوجي وأطفالي، وبين حين وآخر نزور أبي في "بلدة آدم" وأمي في "بلدة حواء"، سعيدة في وادينا الأخضر الفسيح "وادي الناس".