يوم ظهر الرب!

سليم مطر ـ جنيف

آذار 2016

 

http://www.playcast.ru/uploads/2012/08/23/3686815.jpg

 

ذات صباح، بينما كانت صديقتي منشغلة بترجماتها، فتحتُ حاسوبي لمعاينة البريد. فجأة اختفت صفحتي من الشاشة وحلت محلها صورة غريبة غير واضحة. وكالعادة، قلت: إنه خطأ تقني أو دعاية إقتحامية. باءت محاولتي بالعودة إلى صفحتي بالفشل، فأطفأته لما بلغ بي الغضب مداه، لكنه لم يستجب. فقد كانت الصورة نفسها ثابتة على الشاشة: وجه مرسوم بخطوط من نور على السماء. توهجه المتموج يجعل من الصعب تحديد ملامحه؛ أأنثى أم ذكر؟ أطفل أم كبير؟ من أي جنس وعرق؟!

لم أهتم كثيرا بالضجيج الذي أسمعه حولي داخل العمارة وفي حارتي الهادئة التي تقع عند أطراف جنيف. أصوات بشرية في هيجان.

فجأة رن الهاتف، وقد سجل اسم جاري "ميشيل" وقبل أن أضع السماعة على أذني، سمعته يصرخ:

ـ سليم.. هل رأيت.. هل رأيت.. افتح النافذة وانظر؟!

   فتحت النافذة، وإذا بالحديقة التي تتوسط العمارات، ولأول مرة يحصل هذا، مليئة بالعشرات من أهل الحارة، نساء ورجال وأطفال، يحدقون إلى السماء مهتاجين يتصارخون بأصوات مزيجة بين اندهاش ورعب وسخرية. بعضهم ينبطح على الأرض خشوعا، هليلويا.. هليلويا، وبعضهم يتقافز، وبعضهم صامت.

حينها نظرت مثلهم إلى السماء، وإذا بي أشاهد ما لم أتخيله إلا في بعض أحلامي الكبرى:

نفس الصورة المتوهجة التي على شاشة حاسوبي تملأ صفحة السماء بحجم يفوق حجم الشمس مئات المرات، بحيث إنها تغطي السماء كلها. وجه نوراني تطوف حوله ملايين الطيور التي كانت تتكاثر مع استمرار صعودها من الأرض. بالتدريج تبين أن هذه الطيور، رغم أجنحتها، بشر يشبهون كثيرا صور الملائكة المتداولة في الرسوم الدينية.

فركت عيني ولمست رأسي كي أتأكد أني لم أكن أحلم. في هذه اللحظة ارتجفت من لمسة مفاجئة على كتفي، وحين التفت رأيت وجه صديقتي يشع بابتسامة ونظرات خلابة لم أعهدها من قبل. وقبل أن أكلمها وضعت أصبعها على فمي، وهي تنطق بصوت ساحر:

ـ عذرا يا حبيبي، لا تقلق سأعود إليك يقينا، وتفهم الحقيقة..

وإذا بها تزيحني بحنان عن النافذة وتخفق بجناحيها وتطير. نعم، لديها جناحان لم أعرفهما من قبل! جحظت عيوني إلى حد الحرقة ورحت أضرب رأسي كأي مجنون وأنا أشاهدها تعلو وتعلو حتى اختفت بين الملايين من الكائنات الطائرة التي تطوف حول ذلك الوجه النوراني في السماء.

                                             *     *     *

فجأة تحرك شيء ما في ذلك الوجه النوراني، يفترض أنه فمه وعطس برقة أطفال، فانتشر في الكون رذاذ من نجوم لامعة رغم ضوء النهار. ونطق:

ـ عذرا يا أطفالي، فأنا لم أعتد جوكم هذا الذي يختلف عن جو سمائي السابعة.

ثم استمر بصوت عجيب، مزيج ضاحك وحنون من أنوثة وذكورة وطفولة، لا تسمعه بأذنيك بل تحسه يأتي من داخلك كأنك أنت الذي تتحدث مع نفسك:

     هذا أنا الرب.. نعم يا أطفالي الحلوين، ها أنا أظهر لكم، للمرة الأولى والأخيرة، لأني مللت شكوى مؤمنيكم من حجة ملحديكم التي تدفعني أحيانا إلى الأسف لأني خلقتكم:

(( لو أن الرب موجود حقا، فلم لا يظهر لنا ويفض الجدال والشك الحاصل بيننا منذ حقب وحقب)).

والآن أقول لكم: ها أنا موجود وحولي ملائكتي، شاهدوني واسمعوني.

أنا ربكم الذي فضلتكم على جميع مخلوقاتي ومنحتكم خير ما تتمتع به جميع الأحياء، من جمال وإدراك وخيال.

جعلتكم وسطا بين الحيوان والملاك. مقياس سموكم وسفليتكم بمدى سلطان المحبة والرحمة في قلوبكم.

أطمئنكم بأنكم جميعا تمتلكون نفس مقدار المحبة والرحمة، لأنها نفحة من روحي أنا الخالق الجليل، التي تهبط إلى أرحام الأمهات وتتكون حولها الأبدان.

لكني خلقتكم لأختبركم، فنفحتي الإلهية هذه في صراع مع نفحة الشيطان التي تدخل في نفوسكم وعقولكم مع نموكم في الحياة، لتغويكم عبر الأمزجة والشهوات وأوهام التفوق والتحاسد والاستحواذ.

جميع الأنبياء والمصلحين الذين بعثتهم لكم كانوا صادقين. وقد تنوعت تعاليمهم بحسب الأزمان والأقوام.    

لكن يا مخلوقاتي السامية، قد أصبحتم الآن بما يكفي من النضج والإدراك كي تتحرروا من جميع هذه المواريث المقدسة. وها أنا أقول لكم بالحرف الواحد وبصورة لا تقبل أي خلاف أو تفسير:

جميع الأديان وتعاليمها أصبحت ملغاة وفقدت قيمتها. وأنتم أحرار لتتقيدوا بطقوسها، ولكنها لم تعد تمثلني أبدا.

أنتم الآن بما يكفي من النضج والذكاء لكي أختصر لكم جميع وصاياي بهاتين الكلمتين:

"المحبة والرحمة"

كلما نمت في قلب الإنسان المحبة والرحمة، كلما أصبح قادرا على تمييز الحق من الباطل. ليس بعقله، بل بقلبه وحدسه وضميره.

من لا يحب ولا يرحم نفسه لا يمكنه أن يحب ويرحم الآخرين. ومن لا يحب ولا يرحم الأقربين لا يمكنه أن يحب ويرحم الأبعدين.

نعم يا أطفالي، هذا هو ديني ودستوري ومبادئي وتعاليمي، اختصرتها لكم لكي أجنبكم الانقسام إلى طوائف وجماعات تتخاصم على التفسيرات، وكل منها تعتبر نفسها هي الناطقة بآياتي لتبرر تكفير المختلفين ومحاربتهم.

لكني أعرفكم يا صغاري المشاكسين، ستظلون كما أنتم، ضعفكم في قوتكم. بعضكم يعلو بنفسه وعقله نحو أنوار المحبة والرحمة تساميا نحو ملكوت السماء، وبعضكم يهبط بنفسه وعقله نحو غوايات التفوق والجشع انحدارا نحو ملكوت الشيطان.

                                               *   *   *

   هكذا استمر ظهور الرب لمدة يوم كامل. وكان يقطع خطابه بضحكات خفيفة وديعة حنونة. وفي الدقائق الأخيرة بدأ يتثاءب، وهو يقول:

ـ لقد أتعبتموني يا أعزائي. أعتمد عليكم. ها هي وصاياي مختصرة وواضحة ومترجمة بجميع لغاتكم. تجدونها منشورة نصا في حواسيبكم وفي جميع مواقع التواصل الاجتماعي، ومصورة فيديو في اليوتيوب. فإياكم أن تستمروا كما عهدتكم بالاختلاف والتنابز. كونوا عقال يا أطفالي.. وهذه آخر وصاياي لكم..

وارتسمت ابتسامة حنونة كشفت عما يفترض أنها أسنانه التي تشبه شموسا وأقمارا.

وكان آخر مشهد له وهو يودعنا بكلمة أخيرة:

ـ بوسة..

ولوى فمه ونفخ بوسته الضاحكة، فهبت علينا بعض من روحه، فأحسسناها نسمة رطبة منعشة بثت خدرا لذيذا في البشرية جمعاء، بحيث إننا نمنا في أماكننا أينما كنا.

                                                       *   *   *

لا أحدثكم عن تأثير هذا الظهور الإلهي على البشرية، فقد حصلت تحولات عجيبة على الإنسانية لم تخطر على بال أبدا. وأولها أن جميع وسائل الاتصال من هواتف وحاسوبات أصابها العطل لعدة أيام، ليس بسبب الرب، بل بسبب الزخم الهائل من مليارات الاتصالات المفاجئة التي حصلت بين سكان الأرض.

وقد انتشرت المظاهرات التلقائية المليونية في جميع مدن الأرض تهتف باسم الرب وبجميع اللغات. عم الهدوء العالم وتوقفت الحروب والمؤامرات، وفتحت الحدود، والتغت العنصرية والأحقاد ومشاهد الخلاعة والفساد من وسائل الإعلام. قررت هوليود تحريم جميع أفلام العنف والخلاعة وإنتاج أفلام تدعو إلى السلام والروحانية والتضامن الإنساني. بمبادرة من الرئيس الأمريكي مدعوما بالكونغرس، اتفق على عقد اجتماع للدول الصناعية الكبرى من أجل الإلغاء التدريجي لمصانع الأسلحة وتحويلها إلى مصانع ومراكز لإنتاج المواد والتكنولوجيا التي تخدم الطبيعة والسلام وتساعد على تقليل التلوث والتصحر. وأعلنت لجنة عالمية تشكلت في باريس عن إلغاء "مسابقة ملكة جمال العالم" لتحل محلها "مسابقة ملكة روحانية العالم" أي الفتاة الأكثر طيبة ورقة وروحانية في شكلها وحياتها.

وسادت موضة الثياب الحاملة لصورة الرب مع عبارة "المحبة والرحمة" و"بوسة". بل إن الكثير من المغنيين والمغنيات راحوا يقلدون الصوت المزيج الضاحك من الأنوثة والذكورة والطفولة. والكثير من المؤسسات حملت علامة تجارية لها علاقة ما بصورة الرب المتوهجة. وأخذت الأحزاب تتنافس لجعل عقائدها وبرامجها تتلاءم مع الوصايا الربانية، وكل منها يعتبر نفسه هو الأمثل.

وانتشرت في العالم ظاهرة غريبة لم يتوقعها أحد، بدأها زعيم أوربي في خطاب عادي أمام البرلمان وشاشات التلفزيون، وإذا به يتوقف فجأة ويرتبك ثم يجهش ببكاء مر ويرتجل خطابا مؤثرا يقطعه بكحات وتمخطات وهلولويا، وهو يفضح ما ارتكبته حكومته من خطايا وخدع ومؤامرات داخلية وخارجية لم يعد يتحمل وزرها بعدما اهتدى إلى الحقيقة الإلهية، وأنه قرر الاعتزال والاعتكاف في كوخ جبلي. على إثرها، في أنحاء العالم، بادر الكثير من الزعماء وكبار المسؤولين والإعلاميين وأصحاب المشاريع، المتقاعدين والحاليين، إلى تقديم الاعتذارات العلنية لأنهم ساهموا بجرائم ومؤامرات سرية. ومن بين أكثر الحالات طرافة، عندما قام زعيم عربي معروف بتقواه الدينية، بقطع خطابه المتلفز وشرع بالضحك والغناء وهز الكتف والأرداف. وبرر فعلته بأنه الآن فقط يتجرأ على التنفيس عن رغباته المكبوتة هذه منذ طفولته، بعد أن أدرك أنها لم تعد محرمة من قبل الرب. صار من الطبيعي في أنحاء العالم أن تبدأ الخطابات السياسية والثقافية وحتى الشخصية، بعبارة: "المحبة والرحمة"، وختامها بـ "كونوا عقال يا أطفالي" و"بوسة". الكثير من الزعماء عندما يلقون خطبهم يظهرون في الشاشات بوجوه مضاءة وتطوف حولهم فتيات وفتيان بأجنحة ملائكية. بل إن بعضهم، تشبها بالرب، كان يبدأ خطابه بعطسة رقيقة، ويتخللها ضحك خفيف، ثم يختتمه بتثاؤب مصطنع.

     تكاثرت مشاريع الإعمار والإحسان، وهبطت الأسعار وازدادت الأجور عشرات الأضعاف. من شبه المستحيل أن تجد بغيا حتى لو دفعت الآلاف، أو تتعرض للسرقة حتى لو تركت بيتك مفتوحا وحقائبك في الشارع. صار من الطبيعي أن تجد المسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي، يصلون في الجامع، والمسلم يحضر قداس الأحد في الكنيسة وصلاة السبت في الكنيس اليهودي وفي المعابد الهندوسية والبوذية. أمر البابا بتخصيص قاعات صلاة في الفاتيكان لجميع الأديان، وحصل نفس الأمر في المراكز المقدسة الإسلامية والبوذية والهندوسية واليهودية وغيرها، تحت رعاية الأمم المتحدة شرع المفكرون ورجال الدين من مختلف الطوائف في أنحاء العالم يتبارون لتقديم المشاريع لتسهيل عملية إلغاء جميع كتب اللاهوت والفكر وجعلها فقط بقيمة تراثية أدبية، وخلق دين عالمي واحد، بسيط ومباشر مصدره الوحيد هي صفحة النداء الإلهي وتعاليمه القائمة على المحبة والرحمة. ويكون هذا الدين الجديد أساس قيام دولة اتحادية عالمية. وقد تنافست لندن وموسكو ونيويورك وطوكيو والكويت والخرطوم، على أن تكون مركزا لهذا الدين الإنساني الجديد. وهكذا دواليك من التحولات والمشاريع العجيبة الغريبة التي لا يتسع المجال لذكرها.

                                           *   *   *

لكن للأسف كل هذه التحولات الثورية الإيجابية والجمالية التي عمت الأرض، لم تدم سوى أسابيع. وبالتدريج بدأت أصوات خافتة محتجة ومشككة ترتفع هنا وهناك:

هل كان هذا الظهور حقيقيا أم لعبة مفبركة قامت بها جهة ما، دينية أو سياسية، لغايات معينة؟! بل لعلها قوى من كوكب آخر تهيئ للسيطرة على كوكبنا؟! أو أنها مجرد مزحة من قبل فرد أو جماعة تتقن أسرار الأجهزة الإلكترونية ونجحت بتدبير هذه اللعبة؟!

بعد أقل من شهرين، بدأت، ولأول مرة في التاريخ، تظهر بيانات مشتركة بين قادة جميع الأديان المعروفة، ومعهم قادة الجماعات والأحزاب الملحدة، الذين تضرروا والتغوا بسبب هذه الدعوة الربانية التوحيدية الجديدة. راحوا ينشطون بمختلف الوسائل من أجل إقناع الجماهير بعدم تصديق هذه الدعوة الربانية الخطيرة. بل بلغ بهم الاتفاق أنهم كانوا يشاركون في صلوات واجتماعات بعضهم البعض لإظهار كثرة عددهم.

وخلال بضعة أشهر، عادت الأمور في أنحاء الأرض كما كانت من قبل. ألغت الدول قراراتها التاريخية. واعتذر الزعماء عن اعتذاراتهم السابقة. وعتقت الثياب التي تحمل صورة الرب. وعادت الأديان والطوائف كما كانت من قبل. وانعزلت الجماعات التي أصرت على حقيقة الظهور الرباني، لتكون مثل باقي الجماعات الروحانية والتصوفية، وأطلقوا على أنفسهم "أهل المحبة والرحمة". لكنهم انقسموا إلى طوائف عدة متنافسة، أكبرهما طائفتا "أهل العطسة" و"أهل البوسة".

                                       *   *   *

فاتني أن أذكر لكم، أني في نهاية ذلك اليوم التاريخي للظهور الرباني العظيم، صحوت من إغفاءتي اللذيذة على قبلات حبيبتي. ومنها عرفت الحقيقة العجيبة التالية:
أن الرب يبعث ملائكته على هيئة بشر، إناث وذكور، لجميع الأشخاص الذين بلغوا منزلة عليا من التطور الروحي والسير في درب السمو الملائكي، كي يساعدوهم ويهيئوهم ليكونوا ملائكة كاملين. طبعا كما تتوقعون، أنا واحد منهم، وحبيبتي ملاكة مخصوصة هبطت من أجلي.

هنالك على الأرض الملايين من أمثالي، نساء ورجال بل حتى أطفال، قد بعث الرب لكل منهم ملاكا بهيئة قريب أو حبيب، أنثى أو ذكر، يرعاه ويشجعه.

لهذا أقول لكم يا إخوتي وأخواتي: من يعتقد منكم أنه في طور السمو الملائكي، ليتمعن جيدا حوله، يقينا هنالك من مقربيه ملاك متنكر يرعاه. اللهم إلا أن يكون هو نفسه ملاكا متنكرا.

المحبة والرحمة.. بوسة...