يحق لمن يرغب، اعادة نشر القصة مع ذكر اسم المؤلف

 

من ذكريات جدنا "الزعيم مايكل"

       أول قرد تحول إلى إنسان..

 

سليم مطر ـ جنيف

آذار 2016

http://i.skyrock.net/3428/30923428/pics/1090754512_small.jpg 

دعوني يا أحفادي البشر أَسردُ عليكم حكايتي التي تحتوي على تفاصيل لا يعرفها جميع العلماء الذين ادعوا معرفةَ كل شيء عن أصلكم القردي، وعلى رأسهم صديقنا العزيز "دارون".

أقدم لكم نفسي؛ أنا جدكم "الزعيم مايكل" أول من شاءت الأقدارُ أن تُحولني إلى إنسان، وذلك عام مليونين وسبعة وأربعين قبل الميلاد.

كنت قردًا نبيلا أتزعَّم عشيرة كبيرة من القرود، نقطن في إحدى غابات منطقة "هولالا" في وسط أفريقيا. ذات يوم، بالضبط في الساعة الثامنة و36 دقيقة من صباح الاثنين ليوم خريفي مشمس بينما كنت مستلقيًا على غصن شجرتي الملكية العملاقة محاطًا بزوجاتي التسع اللواتي يخدمنني ويداعبنني وأنا أتناول إفطاري الصباحي المتكون من 11 موزة وثلاث خنفسات وذيل برعص عملاق مشوي مع البصل، مصحوبا بطاسة حليب ثعالب محلى بذروق الطيور. فجأة ودون أية علامات مسبقة، انقلب الجو وغابت الشمس واسودت السماء وانتشر الهرج والفوضى بين قرود وحيوانات غابتنا. وإذا بعاصفة كاسحة تهب مصحوبة برعود وصواعق وبروق، والسماء تمطر بشدة حتى خُيِّلَ لنا أن هنالك تمزقًا حدث بسقف الكون واندلقت علينا مياه البحر الإلهي.

لم ألحق إنهاء إفطاري، إذ بينما كان ذيل البرعص يتدلى من فمي والبصلة بيدي وحليب الثعالب المحلى ينسكب على صدري، تزحلقت أصغر زوجاتي -جدتكم الراحلة "سامانتا"- بقشرة موز وسقطت عليَّ، مما جعلني أنا بدوري أسقط من أعالي الشجرة العملاقة على الأرض المشتعلة.

رغم هول الصدمة، فإني تمكنت من الزحف ولحقت نفسي قبل أن يحترق شعر رأسي كله، بينما زوجاتي الحبيبات وقبيلتي كلها في حيص بيص لم يحصل مسبقا أبدا.

                             *     *     *

فيما بعد عرفت أنه في هذه اللحظة حصلت أعظم وأكبر ثورة في تاريخ الأرض:

تحولي أنا "الزعيم مايكل" من قرد إلى إنسان!

بسبب عوامل طبيعية عديدة معلومة ومجهولة، أخذت التغيرات العجيبة تحدث في بدني، نقلتني من الحالة القردية إلى الحالة البشرية. لا زال العلماء يختلفون حول عدد الأيام التي بقيت فيها أزحف على بطني بين العواصف والصواعق والأمطار أثناء تحولي. البعض يعتقد أنها خمسة أيام وثلاث ساعات، والبعض يرى أنها يومان وخمس عشرة ساعة. لكني أنا الآن أتذكر بالضبط أنه كان يوم خميس، وهذا يعني أني بقيت حوالي أربعة أيام.

المهم، يبدو أني بينما كنت أعيش هذه الصدمة البدنية والنفسية في ظل هذه الثورة الكونية وما جلبته من مؤثرات فيزيائية وكيميائية وبيولوجية، كلها تراكمت بكثافة وشدة فائقتين جعلتني أفقد الوعي وأُشْرفُ على الموت، بل هنالك من العلماء من يعتقد أني قد مت فعلا، لكن صاعقة ضربتني على خلفيتي جعلت كهرباء الحياة تسري من جديد في كياني. ودليلهم على تعرضي لهذه الصاعقة هو اختفاء آثار ذيلي القردي منكم يا أحفادي الأعزاء، وأن خلفياتكم ملساء خالية من الشعر.

وهنالك فرضية لم تحسم بعدُ، تقول: إن حرق شعر رأسي في هذه الحادثة، يفسر حالات الصلع لدى الرجال. ولحسن الحظ أن زوجتي الحبيبة -جدتكم سامانتا- بقي شعرها سالما، وإلا لكانت أورثت الصلع لحفيداتي النساء أيضا. هناك أيضا تحول عيوني إلى خضراء بسبب الرعب الذي أصابني وأنا أبحلق في الكارثة، مما جعل المواد الكيماوية تدخل عيني وتغير لونهما. أما جدتكم سامانتا فقد بقيت عيونها سوداء، وهذا يدل على أن البشر ذوا العيون الخضر هم من ورثتي، وذوا العيون السود هم من ورثة المرحومة سامانتا.

                                             *   *  *

رغم أني نجوت من الكارثة، إلا أن معاناتي الحقيقية قد بدأت بعد ذلك، حينما انتبهت إلى أني قد تحولت إلى إنسان. عشت حالة انفصامية قاسية بين طبيعتي البشرية الجديدة وعاطفتي القردية الأصلية. اتهمني إخوتي الخمسة عشر وأبناء عمومتي التسعة والعشرون، بأني بدأت أتعالى وأستنكف أن أبقى قردًا مثل السابق وأحافظ على دوري الزعامي المعتاد. وهذا غير صحيح لأني رغم اكتشافي لميزاتي البشرية العليا، إلا أني بقيت مصرًّا على البقاء وفيا لجنسي وأهلي. لكن الحقيقة أنهم هم الذين بدأوا يغارون مني لأني بدأت أسير منتصبا على قدمين بينما هم على أربع، وأَرْطُنُ بأصوات وكلمات لا ينطقونها، وأنتبه لأمور لا يرونها، وأخترع وسائل لا يفهمونها. أما زوجاتي اللعينات فقد استغللن تململ الآخرين مني ووجدن حجة للتنفيس عن غيرتهن لأني أفضل عليهن أصغرهن؛ جدتكم المرحومة "سامانتا". وكانت القشة التي قصمت ظهري، عندما انتبهت زوجاتي أني بدأت أعاشر سامانتا بطريقة جديدة لم تعرفها القرود، بل الحيوانات قاطبة؛ أنام فوقها وجها لوجه، بدلا من وجه لظهر..

الشيطانات عملن لي فضيحة، كأني اغتصبت نملة. انتشر الخبر المخزي في أنحاء الغابة وسمعت به حتى الأسود والذئاب، أما الثعالب الحيالة فقد ألَّفْن عنه النكات والأغاني:

الزعيم مايكل، أصبح شاذا

يعاشر زوجته بالمقلوب وهو يحدق بوجهها..

ياللفضيحة!

حينها ثارت ثائرتي وفقدت أعصابي وأعلنت ثورتي على عشيرتي وعلى جنسي، بل على الحيوانات جمعاء. كفى ثم كفى. ها أنا قد أمضيت ما يكفي من الوقت من أجل تهدئة الأمور وإثبات إخلاصي لقبيلتي، إلا أن الواقع أقوى من النوايا، وأن طبيعتي البشرية يستحيل أن تتواءم مع طبيعتهم القردية، ولا مع حياة البهائم في الغابات والبراري.  

                                       *     *     *

هكذا قررت الرحيلَ رغم بكاء وعويل نسائي التسعة وأطفالي الثلاث والعشرين وباقي إخوتي وأقاربي. بعد حوالي ثلاثة أشهر من كارثة تحولي، وفي الساعة الرابعة صباحا من فجر الأحد، تسللت هابطًا من شجرتي الملكية، دون أن يلمحني أحد، مصطحبًا معي أصغر زوجاتي "العزيزة سامانتا" التي رغم بقائها على جنسها القردي، إلا أني كنت أعشقها ولا أتخيل حياتي البشرية دونها.

بقينا نسير أيامًا وأشهرًا وأعوامًا متجهين دائما نحو الشمال بعيدًا عن مناطق أسلافنا القرود وإخوتنا البهائم. أخيرًا وجدنا أنفسنا على ضفاف البحر المتوسط. لقد شعرنا ببعض الأمان في هذه الشواطئ الخلابة البعيدة عن الغابات التي يقطنها جنسنا. لكننا كنا مضطرين -أنا وزوجتي وأبناؤنا وأحفادنا- إلى التنقل الموسمي بحثا عن الكلأ. وقد ساعدتنا في ترحالنا حيواناتٌ غريبةٌ لم نعرفها من قبل. إنها الجمال الطيبة المسالمة التي تتحمل الأثقال والتجوال والجوع والعطش.

مع الزمن انتشر أحفادنا في أنحاء الضفة الشرقية من البحر المتوسط، بين جبال الأطلس ووادي النيل وشواطئ سوريا ووادي دجلة والفرات. ومن هنالك انتشرنا في أنحاء الأرض وعمرنا جميع القارات.

أخيرا، أود يا أحفادي الأعزاء أن أكشف لكم عن سر لم أتجرأ على التصريح به من قبل:

لقد أمضيت حياتي وأنا أحن لحياتي مع قبيلتي القردية، فلم يخطر ببالي -رغم جميع الامتيازات العقلية والبدنية التي حصلت عليها من تحولي إلى إنسان- أن أفتقد بساطة العيش في الطبيعة وعالمي الذي لا يتعدى غابتي وعشيرتي. آه كم أشتاق إلى القفز بين الأشجار وصيد الأفاعي ومعاكسة الأسود برميها بالثمار، وتناول وجبات موز وخنافس وذيول براعص مشوية مع بصل وحليب ثعالب. لكني أود -بنفس الوقت- الحفاظ على امتياز بشري لا يمكنني أن أستغني عنه؛ أن أعاشر زوجاتي وجهًا لوجه، لأن تعبيرات اللذة والحياة على وجوه البشر هي أروع لوحات الإبداع والجمال.