فكر 

          ماهي الهوية الوطنة؟

مقارنة بين الهويتين العراقية والاسرائيلية!!

سليم مطر ـ جنيف

آذار 2014

ان تحديد (هوية) أي شيء يتم من خلال الاجابة على السؤال:
ـ ما هذا .. او من هذا ؟

فلو اخذنا مثال(الهوية الشخصية)، فأن الجواب على سؤال: من هذا الشخص؟ يجب ان يأخذ بنظر الاعتبار ثلاث عوامل او شروط:

1ـ التكوين المادي البدني: انثى ام ذكر، طفل ام ناضج، طويل ام قصير، ابيض ام اسود..الخ

2ـ التكوين المعنوي: أي تكوينه الثقافي وميراث تاريخه الشخصي: ريفي ام مديني، متعلم ام امي، غني ام فقير.. مغربي ام صيني ام برازيلي.. مسلم او مسيحي او يهودي او بوذي.. الخ

3ـ وعي الذات وارادة التمايز: أي صفاته النفسية ـ العقلية، وقدرته على وعي ذاته وتمايزه وطموحه وقيادة نفسه. فقد يكون مثلا رجلا ولكنه خنثي يرفض كيانه وهويته. او قد يكون مدمنا عبثيا يهين نفسه ويضيف صفات سلبية لهويته. او مجنون معتوه يعاني من تمزق هويته، وربما ينتهي بالانتحار والغاء وجوده وهويته. او على العكس، قد يكون فقيرا غريبا بلا ميراث ولا ثروة، لكنه طموح ومثابر، وبارادته وكفاحه يحقق ذاته ويبلغ السمو ويضيف صفاتا ايجابية لهويته.

من المعلوم ان الشروط التي تحدد هوية الفرد ثابتة مهما تغير الزمان والمكان. فمثلا من الصعب على الانسان تغيير جنسه او لونه او صوته (الا ما ندر مع العمليات الطبية). ولا يمكنه كذلك ان يغير صفاته المعنوية والشخصية الاساسية التي شب عليها. كذلك الامم لها ايضا (هويتها وشخصيتها) المتميزة المستمرة تاريخيا.

                                     هوية الشعب

يمكننا ملاحظة نفس هذه الاسس الثلاث لتحديد هوية أية امة:

1 ـ التكوين الجغرافي والبيئي: اذا كان (البدن) هو (مكان) الهوية بالنسبة للانسان، فأن(ارض الوطن) هي بدن الامة.

لو نظرنا في جميع الاوطان العريقة تاريخيا، للاحظنا وجود حدود طبيعية تميزها وتفصلها عن باقي الاوطان المحيطة. فلولا (نهرالنيل) لما انوجدت (مصر) ولكانت جزاء منسيا من صحراء ليبيا. ولولا(دجلة والفرات) لما انوجد العراق ولكان جزءا منسيا من بادية الشام والجزيرة العربية. لولا الصحراء التي تفصل شمال افريقيا(مصر وبلدان المغرب) عن باقي افريقيا السوداء، لكان غالبية سكان شمال افريقيا من العنصر الزنجي. ولولا البحر المتوسط لكان العالم العربي والعالم الاوربي عالما واحدا. ولولا جبال زاغاروس لكان العراق وايران كيانا واحدا. ولولا جبال طوروس لكانت سوريا وتركيا كيانا واحدا. ولولا بادية الشام لكان العراق والشام كيانا واحدا.. الخ

2 ـ التاريخ والميراث الوطني: اذا كان للفرد كيانه المعنوي المتراكم من تاريخه وميراثه الشخصي، كذلك للأمم والجماعات (كيان معنوي) مستمد من تاريخها وميراثها المتراكم.

يتفق المؤرخون على انه ليست صدفة ان اولى الدول والحضارات انبثقت في العراق ومصر، بسبب وجود تناقض بين عاملين: الانهر الجبارة ثم الصحراء المحيطة. فمثلا ان بلدان اوربا لديها انهر كثيرة، لكنها لم تلعب أي دور حضاري في تاريخها لانها كانت ذات اهمية ثانوية بسبب كثرة الامطار والخصب الطبيعي. اما في العراق ومصر، فأن الانهر كانت مسألة حياة او موت. لقد اضطر السكان دائما الى التحكم بالانهر وبناء ادارات مركزية لتنظيم الري، والا فأن الفيضانات والجفاف سوف تجبرهم على العودة الى البوادي القاحلة.

يمكننا ذكر امثلة كثيرة ومعروفة عن دور الطبيعة والجغرافية في تحديد تاريخ وميراث أي بلد وشعب. فسكان المناطق الجبلية يختلفون نفسيا وحياتيا عن سكان المناطق السهلية. وسكان المناطق المنعزلة يختلفون عن سكان المناطق البحرية. وسكان البوادي يخلتفون عن سكان الانهر والمستنقعات. ان شعوب افريقيا بسبب طبيعة الادغال وعزلتها بالاضافة الى غناها الطبيعي لم يشعروا بالحاجة الى التوحد وبناء دول ثم حضارات. نفس الحال بالنسبة للمناطق المنجمدة والجزر النائية.

   وعي الذات والارادة بين المثالين العراقي والاسرائيلي

       3 ـ وعي الذات الوطنية لدى النخب الفاعلة وطموحاتها المستقبلية: مثلما للفرد قدرة وارادة على التعامل مع كيانه البدني وكيانه المعنوي، كذلك للشعوب من خلال نخبها الفاعلة(السياسية والثقافية والدينية) القدرة والارادة في التعامل مع كيانيه المادي(ارض الوطن) والمعنوي(تاريخه وميراثه).

ان افضل تعبير عن اهمية هذا العامل نلاحظه في هذين المثالين المتناقضين: العراق واسرائيل.

المثال العراقي:

من ينظر الى العراق يلاحظ بشكل ساطع توفر العاملين الاساسيين لوحدة الهوية الوطنية:
ـ الوحدة الجغرافية الطبيعية والوحدة التاريخية الحضارية: حيث يتوحد الكيان العراقي منذ فجر التاريخ حول نهري دجلة والفرات. وخلال اكثر من خمسة آلاف عام والى الآن، ظل العراق متوحدا سكانا ولغة وحضارة ودينا، بسبب ضرورة الادارة الموحدة لهذين النهرين. ثم ان العراق يمتلك حدودا طبيعيا تحيطه وتعزله تقريبا عن البلدان المحيطة، وهي جبال زاغاروس وطوروس وبادية الشام والجزيرة العربية. حتى الدول الاجنبية التي احتلت العراق اضطرت الى الحفاظ على وحدته من اجل الاستفادة من خصبه الذي يحتم وحدته الادارية النهرية الاقتصادية. طيلة التاريخ تنقل العراقيون جميعهم من نينوى حتى البصرة بين المراحل الحضارية التالية:
1ـ اللغة السومرية ـ الاكدية وعبادة الكواكب. 2 ـ اللغة الآرامية ـ السريانية والديانة المسيحية. 3 ـ اللغة العربية والدين الاسلامي. طبعا مع وجود اجزاء ناطقة بلغات محلية مختلفة، مثل الكردية والتركمانية..

المثال الاسرائيلي:

وهو النقيض التام للمثال العراقي. حيث هنالك غياب تام لعاملي: (الجغرافيا والتاريخ ). وهذه حالة نادرة في التاريخ، لايمثالها غير دول امريكا الشمالية واستراليا، التي قامت على اساس ابادة السكان الاصليين احلال سكان جدد!!

   قبل تأسيس إسرائيل، لم يتوفر ليهود العالم أي كيان مشترك، لا مادي ولا معنوي. جميع شروط الامة والهوية غائبة. فهم لم يعيشوا في ارض واحدة، بل ظلوا متفرقين فيما لا يحصى من البلدان. وهم لم يشكلوا شعبا متداخلا ولا ثقافة متكاملة، لأنهم كانوا ينطقون بمختلف اللغات وحملوا ثقافات بلدانهم. حتى اللغة العبرية لم تكن معروفة بينهم، ولا ينطقها الا قلة نادرة من رجال الدين. ولم يكن لهم أي تاريخ مشترك ممتد ومستمر، فتاريخهم المشترك قد انتهى قبل حوالي الفي عام، بعد انتهاء وجودهم الديني الفعلي في فلسطين وتشتتهم في بقاع الارض، حيث انتمت كل جماعة منهم الى تاريخ البلد الذي تقطنه منذ قرون وقرون. تبقى (التورات والتلمود) وعقيدتها واساطيرها، هي العامل الثقافي الواحد الوحيد الذي كان يجمع اليهود!؟

         ارادة النخبة

الغريب ان اليهود المحرمون من شرطي الجغرافية والتاريخ نجحوا في خلق هوية وطنية وكيانا موحدا، بينما فشل العراقيون رغم توفر شرطي الجغرافية والتاريخ؟!!

والسبب هو الفرق الكبير بين(النخب اليهودية) و(النخب العراقية)!!

نعم ان (دولة إسرائيل) قامت منذ البدء فقط بالاعتماد على توفر شرط واحد :

ـ (ارادة النخبة الوطنية الواعية)!!

لقد توفرت لليهود (النخبة الواعية) المتمثلة بـ (الحركة الصهيونية)، اللتي استثمرت بدهاء واصرار معانات اليهود وحلمهم الديني المقدس والازلي بـ(الارض الموعودة). تمكنت هذه النخبة ان تغازل مصالح القوى الغربية الكبرى وبالذات انكلترا وفرنسا وامريكا، وخوف الاوربيين التاريخي من خطر( الاخوة الاعداء)أي تلك الامم الشرقية العربية الاسلامية الرابضة على الضفة الشرقية للبحر المتوسط. تمكنت الحركة الصهيوينة وكتابها الملهم:(الدولة اليهودية) ان تلعب دورا تاريخيا حاسما وتتحدى غياب العوامل الطبيعية لتكوين دولة وامة، وان تخلق من العدم هذه العوامل، لتفرض بقوة العقيدة اولا ثم بقوة العسكر والمال والدهاء والدعم الغربي، (دولة إسرائيل)!!

اما الحالة العراقية، فمنذ اكثر من قرن يتكرر الفشل بعد الفشل بتكوين امة موحدة ودولة مستقرة وهوية جامعة. والسبب كما هو واضح:

ـ غياب ارادة النخبة الوطنية الواعية!!

ان مشكلة الدولة العراقية، تكمن في النخب العراقية المتعلمة التي قادت النهضة الحديثة منذ اواخر القرن التاسع عشر ثم تكوين الدولة العراقية في اوائل القرن العشرين. ان مشكلة هذه النخب انها بسبب قسوة الميراث وتشويهات التكوين والميلاد الجديد في العصر الحديث لم تتمكن من دراسة واقعها وحقيقة مشاكلها وتفاصيل خصوصيتها ثم البحث عن حلول لها. منذ البداية قد ضاعت في آيدلوجيات حداثية معاكسة تماما لحاجات الامة الحقيقة:

ـ للإنقسام اللغوي، جلبت الآيدلوجيات القومية العرقية(العنصرية البعثية والسوفيتية الشيوعية) وترجمتها حرفيا على الواقع العراقي. بدل آيدلوجية التوحيد والتأكيد على الإنتماء للأرض والتاريخ والمصالح المشتركة، قامت على العكس بتعميق هذه الفروق وجعلت لكل فئة لغوية خصوصيات ثقافية وسياسية وروحية منفصلة تماما عن الفئات الباقية. بل بالغت باستخدام الألقاب الانقسامية على كل فئة: قومية وامة وشعب واقلية، حتى بدى وكأن العراق اشبه بإمبراطورية جبارة تمتد على قارات الأرض وتجتمع فيه بالقوة شعوب وقوميات لا تحصى!!

ـ للإنقاسم الديني والمذهبي، حافظت النخب العراقية على العقلية الطائفية الموروثة من العثمانيين وحافظ عليها الإنكليز. فالنخب الحداثية(اليسارية والليبرالية والقومية) بدلا من مواجهة هذه الحقيقة بكل صراحة وحوارات وطنية ديمقراطية ودراسات عميقة، لكي تخلق الجسور المشتركة، فأنها بكل جبن وترفع مصطنع قررت الصمت التام عن المشكلة الطائفية واعتبارها امرا رجعيا خطيرا وممنوعا يكفي التغاضي عنه لكي ينسى ويموت! وهذا ادى الى العكس، اي تفاقم المشكلة واستمرار الدولة بانعزاليتها الطائفية، ثم منح كل المجال للتيارات الطائفية بأن تنمو سرا وتستحوذ على عقول الناس.

نعم، ان الوحدة الوطنية والدولة المستقرة لن تتحق الا بوجود ارادة نخبة وطنية واعية لتاريخها المشترك وقدسية وحدتها.