PLANETE EXtase

كوكب الصفاء: سليم مطر

 

اضغط هنا لفتح
وتحميل نسخة الرواية PDF كاملة

او ابق في هذه الصفحة لمطالعة النسخة الطبيعية تحت الفهرست

ومن يرغب بمطالعة الدراسات النقدية عن هذه الرواية، وعن خصوصية ادب سليم مطر: اضغط هنا

صدرت هذه الرواية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت
يمكن الحصول عليها في مكتبات العراق والعالم العربي، وكذلك يمكن طلبها بالبريد من مواقع بيع الكتب التالية:
مكتبة
 النيـــــل والفـــــرات... كذلك موقع كتــــــب

أسفار الرواية

1ـ مهمّتي في كوكب الأرض  

2 ـ جزيرة الصفاء

3 ـ من ذكريات جدّنا الزعيم مايكلأول قرد تحول إلى إنسان..

4 ـ بلدة آدم، وبلدة حواء

5 ـ الراهب وأنا.. وحواء

6 ـ يوم ظهر الرب

7ـ المرأة الارض
    8ـ النسر والحمامة

9ـ الحكاية العجيبة للسيدة التي زارت العالم الآخر!

10ـ احفاد طرزان

11ـ الماضي

12ـ عالم بريء جميل

13ـ مهمة خاصة

14ـ جيوش الحضارات

15ـ عالم سين!

16ـ استراحة واعتراف

ادناه النص الكامل للرواية بجميع فصولها، ويمكن تسجيلها ونقلها: 

 

مهمّتي في كوكب الأرض

خلال سنوات بعثتي هناك، كم من المرات بينما أنا أسير في شارع أو حديقة أو جالس في باحة مقهى، يأخذني الحنين إلى كوكبي العزيز (سيلام)، فأرفع رأسي وأجول بعيوني في الفضاء، فينظرني الأرضيون مستغربين ويهزّون رؤوسهم أسفًا؛ إذ يظنونني مخدرًا أو مخبولًا تائهًا في خيالاتي. فيشتد حزني وتتفاقم عزلتي، فلا أحد يصدق بأني إنسان طبيعي وعاقل، وأني بكل بساطة ابحث في السماء عن بيتي وأحبّتي.

اعلموا يا أعزائي بأني ما هجرت كوكبنا العزيز(سيلام) طيلة هذه الأعوام، إلا كي أعود لكم حاملًا هذه الحكايا عن عجائب الألف عالم وعالم لأخوتنا الأرضيين. ها أنا أخيرًا أستريح من مهمتي الطويلة التي استغرقتني تسعة أعوام (بقياس أهل الأرض)، وهي لدينا خمسة.

     قبل أن أسرد لكم حكاياتي الأرضية، أنا متلهف أن أخبركم سريعًا بأهم حدث في حياتي حصل في أثناء هذه البعثة. لقد حققت أكبر أمنياتي التي كنت أحلم بها خلال أكثر من عشرين عامًا، منذ طفولتي: أن ألتقي بأبي الاستاذ (سارگون: Sargon) الذي سمعتم به جميعكم؛ لأنه كان عالمًا كبيرا ومؤسسًا لـ(علم الأرض: Terrologie) ومديرًا لـ(هيئة البعثات الأرضية). قبل أكثر من ثلاثين عامًا صدر قرار بمنع عودته إلى كوكبنا؛ لأنه تزوج امرأة أرضية، بعد أن طلّق أمي العالمة (إينانا: Inana) التي كانت زميلته في البعثات. منذ ذلك الوقت وهو مستقر في (بلاد الغاول ـ الأرضيون يسمونها فرنسا)! مع زوجته وأبنائه الخليطين بين جنسي كوكبينا. كما تعلمون أن حالة أبي مثل مئات المبعوثين والمبعوثات الممنوعين من العودة إلى كوكبنا؛ لأنهم ارتبطوا مع إنسان أو إنسانة أرضية.

لا أدري كيف أصف لكم لقائي بأبي وعائلته. خلال أكثر من عشرين عامًا، كل يوم، بل كل ساعة وأنا أحلم به. أمضي الساعات وأنا أحدث عنه أختي الصغيرة (إيشتارا: Ishtara) التي بالكاد تتذكره. أطلعها على صور طفولتنا. الطريف أنه قدمني بصوت مرتبك، إلى إخوتي الثلاثة، وهما شابان وشابة جميلان:

ـ أقدم لكم ابني العزيز(آدما)، أخوكم.. أمه (إينانا) التي تعرفونها.. اليوم وصل من العراق..

لا أدري كيف فات أمّي أن تكشف لي هذا التفصيل الهام الذي لم أكن أنتبه إليه حينها: كيف كان يقدمها أبي لعائلته الجديدة.. هل كشف لهم حقيقة بأنها مثله قادمة من كوكب غير الأرض؟

لحسن الحظ أن أبي أوصل لي المعلومات عن طريق التخاطر، من دون جلب انتباه إخوتي. فهمت أنهم يجهلون كل ما يتعلق بحكاية أصلنا الكوني، وأنه معروف لعائلته وللجميع بأنه قادم من بلد شرق أوسطي يسمونه (العراق)، وقد هرب منه لأسباب سياسية. يبدو أن اختياره لهذا البلد وهذه المنطقة ليس صدفة، بل لأنه ذو قيمة معنوية وتاريخية كبيرة لدى مبعوثينا. المحطة الأولى التي حطت فيها أولى بعثاتنا إلى الأرض قبل آلاف الأعوام، وفيه تم التلاقح بين أسلافنا وسكان الأرض الأوائل، مما أدى إلى انبثاق أولى حضارات البشرية حول أنهار دجلة والفرات والنيل.

كان أبي مثل جميع المبعوثين المتجانسين مع الأرضيين، رغم عقوبة منع العودة إلى كوكبنا، فإنهم ملزمون بعهد عدم كشف هويتهم الحقيقية حتى لأزواجهم وأبنائهم. لكني ومن خلال التقاطي غير المقصود لخواطر زوجته الفرنسية، أدركت بأنها تعرف الحقيقة. حتى أمي كانت في أثناء بعثاتها تلتقي به مع عائلته بوصفها زوجته الأرضية من بلده الأصلي.

   إن تحقيق هذه الأمنية بلقاء أبي وإخوتي، كان من أهم أسباب تطوعي بالبعثة الأرضية. تضاف إليها رغبتي بزيارة هذا الكوكب الشقيق والتعرف على أبناء عمومتنا الأرضيين. إن اهتمامي هذا يعود إلى طفولتي. كانت أمي تحدثنا عن تجاربها مع أهل الأرض وتواريخهم وثقافاتهم. تقدم لنا هدايا أرضية من ألعاب وأدوات قد انقرضت عندنا منذ قرون طويلة: هواتف وحواسيب، ومصغرات لسيارتهم وطائراتهم... الخ.. كلها تذكر بحياة أسلافنا الذين كانوا يستخدمونها للتواصل والتنقل، قبل انتقالنا إلى (ثورة الصفاء) و(التواصل التخاطري والتنقل الذري). لكن تبقى كتب أهل الأرض أجمل الهدايا التي أتلقاها منها. فُتنتُ بقصصهم وحكاياتهم المكتوبة والمرئية، فلا يفوتني أي فلم أرضي يعرض في قاعات نوادي السينما: (لحسن الحظ نجح فنانونا بفرض الحفاظ على هذه القاعات من الانقراض، باعتبارها ميراثًا كونيًّا جميلًا خارج تعقيدات تكنولجيا التواصل). ثم دخلت دورات عدة لدراسة آداب أهل الأرض وإتقان العديد من لغاتهم. الحقيقة أن جميع قصصي ورواياتي التي تعرفونها، متأثرة كثيرًا بآدابهم وفنونهم.

     إن أسلافنا قد اكتشفوا هذا الكوكب صدفة قبل (عصر الصفاء) بآلاف عدة من الأعوام. بحسب معلوماتنا الكونية المسجلة حتى الآن، هو الأقرب إلينا طبيعيًّا وبشريًّا. الوحيد المقطون ببشر مثلنا يتكلمون ويفكرون ويمتلكون وعيًا بذواتهم. ولا يبعد عنا سوى بضعة أسابيع من (الانتقال الذري: Teleportation) بل سكان الأرض الحاليون يُعدّون نصف أشقائنا؛ لأن (إنسانهم العاقل) قد نشأ من تزواج بعض أسلافنا مع إنسانهم القديم. لكن بعد حقبة الحروب والثورات والكوارث التي اشتعلت في كوكبنا ودمرت حضارتنا، انقطع الاتصال تمامًا ببعثتنا وذاب أفرادها بين الأرضيين. لم نتمكن من إعادة الاتصال بالأرض إلا منذ قرون قليلة، بعد (ثورة الصفاء ) التي منحتنها إياها الطبيعة، تلك الهدية الكبرى المتمثلة بقدراتنا (التخاطرية: Télépathie) وما جلبته لنا من شفافية وسلام وقابليات فائقة.

بعد ذلك الغياب الطويل، عدنا إلى أبناء عمومتنا بروح جديدة، بلا ضجيج واقتحام واستعلاء المتفوقين. على عكس أسلافنا الأوائل الذين تعاملوا معهم كمستعمرين، بفوقية واحتقار حتى بعد التزاوج معهم وتكوين نسلا ارضيا جديدا يحمل خواصنا البدنية والعقلية نفسها. عدنا بهدوء لنراقب وندرس أحوالهم، معتمدين على هدفينا المقدسين في (عصر الصفاء): المحبّة والجمال..

نفكر بما يمكننا أن نقدمه لهم لتحسين حياتهم، من دون تسلط وامتهان. صحيح أنهم يتمتعون مثلنا بالحدس والتحليل، لكنهم من الناحية العاطفية ما زالوا كما كان أسلافنا أطفالًا طيبين وشريرين خاضعين إلى هيجان الحماسة وأمزجة الأنانية الفردية والمنافسة الجماعية وغرائز البدن الأولية. لهذا نتجنب التورط مباشرة والكشف عن حقيقة وجودنا. نفضل التحرك بينهم والتعايش معهم كأننا منهم من دون أن ينتبهوا لـ(هويتنا السيلامية). من النادر أن نتدخل بشكل مباشر وفي حالات استثنائية بلا جلب الانتباه نسعى لمنع الحماقات الخطيرة التي يمكن أن تتسبب بفنائهم ومحو ما راكموه وبلغوه من معارف وانتشار سكاني، مثل الحروب النووية والتلوثات المهددة للحياة، وغيرها.

     إن تسألوني عن سبب اختياري عضوًا في هذه البعثة العلمية، وأنا أديب كاتب، ولست بعالم طبيعي؟ جوابي بسيط: إن (الهيئة العامة للبحوث الأرضية) المشرفة على مراقبة ودراسة ذلك الكوكب، بعد أن اطلعت على مقالاتي العديدة التي حللت عبرها فحوى تقارير مبعوثينا الأرضيين، اتصلت بي:

ـ أخينا العزيز آدما، بفضل مقالاتك انتبهنا إلى أن تقارير ودراسات بعثاتنا ظلت خالية من وصف الجوانب الإنسانية الحميمة المخفية في أعماق الأرضيين. وكما كتبت أنت، يصعب على أهل العلم إدراكها ووصفها. بما أنك روائي مهتم بالكشف عن خبايا النفوس والمجتمعات، ما رأيك أن تكون عضوًا في البعثة القادمة؟ تقوم بتقديم (تقارير أدبية) من خلال معايشة ومراقبة أشخاص من مختلف البلدان والأجناس والثقافات. طبعًا مع التأكيد على إشكالية (الهوية الفردية) لديهم، ومصاعب فهم الإنسان لذاته وللآخرين..

أعزائي السيلاميين، ربما يبدو لكم (موضوع الهوية) ثانويا ولا يستحق البحث؛ لأننا تجاوزناه منذ بلوغنا الصفاء. تعودنا أن تكون هويتنا الفردية مكشوفة للجميع، وجزءًا طبيعيا ومنسجما مع الهوية الإنسانية، مثل النقوش اللونية المختلفة في لوحة واحدة، أو مختلف الأصوات في المعزوفة المشتركة. لكن موضوع الهوية الفردية والجماعية، لدى الأرضيين مثلما كان لدى أسلافنا، ما زال معقدًا وحساسًا ومثيرًا لغالبية المشكلات والصراعات بين الأفراد وفي داخل الجماعات، كما سيتوضح لكم من خلال قصص تجاربي في هذا الكتاب.

إن حياة المبعوثين على الأرض فيها الكثير من المصاعب، وكذلك المباهج. قد تستغربون لو عرفتم بأن أول أسباب معاناتنا هو قدرتنا التخاطرية ومعرفتنا بدواخل الأرضيين! منذ قرون تعودنا نحن السيلاميين أن نعيش الشفافية المطلقة وغياب الأسرار ومعرفة الجميع بدواخل الجميع. نتقبل الحالة بإيجابية واطمئان؛ لشعورنا بأننا متساوين تمامًا بالمكاشفة. لكن حالنا نحن المبعوثين تختلف تمامًا؛ لأن عملية المكاشفة مع الأرضيين تجري فقط من طرف واحد. لا تتخيل أية اضطرابات وانفعالات متناقضة ستحسها عندما تدرك أنك تلتقط خفايا وأسرار الآخر من دون أن يعرف هو. بل الأسوأ من هذا، حتى لو أخبرته بما تعرفه عن دواخله، سيرفض ويغضب أو يسخر؛ لأنه هو نفسه لا يدرك حقيقة ما يجول في أعماقه. إنهم مثل أسلافنا، لا يدركون غير العقل الظاهر، أما الباطن فلا ينتبهون له، رغم أنه هو الذي يتحكم بهم ويرسم حياتهم ويحدد مصائرهم. كم هو ثقيل أن تعرف خبايا ومصائر أناس أكثر من أنفسهم، كما لو أنك تشاهد فلما أو مسرحية أو تقرأ رواية، إذ تعرف عن احوال الشخصيات والظروف المحيطة بهم وخفايا علاقاتهم، أكثر منهم. هذا الإحساس بمعرفة المصائر يمنح شعورًا بالسلطة والمتعة في الأدب والسينما والمسرح، أما في الحياة فهو أمر متعب ومسؤولية صعبة.

إن دواخل الإنسان أشبه بسلسلة مغارات ومتاهات معتمة ومعقدة، تمتد ليس إلى نفسية طفولته منذ تكونه الجنيني، بل حتى إلى نفوس أسلافه البعيدين. إن غالبية حكايات الأرضيين، في الكتب والسينما، تستحق إعادة النظر والبحث عن تلك الخفايا النفسية التي أدت إلى تغيير حياة الشخصيات، سلبًا أو إيجابًا. إن الأسباب الخارجية المرئية والمعلنة، كثيرًا ما تكون نتاج أو غطاء لمسببات داخلية غير واعية. إن جهل الإنسان بخبايا بواطنه، هو الذي يمنعه من إدراك ذاته وتحديد هويته الحقيقية: من أنا وماذا أريد حقًا؟

كل ساعة وكل يوم، حتى في الشوارع والباصات والمقاهي، تلتقط اسرارًا وخبايا، طريفة ومحزنة، تافهة وخطيرة، لكن جميعها لا تكف عن تحفيز مشاعرك وتساؤلاتك عن مصائر هؤلاء البشر الذين تعرف جيدًا بعضهم، وتجهل غالبيتهم:

(أمّ) قلقة تجهد كي تخفي عن أبنائها شعورها المؤلم بالصداع؛ لانها لا تريد إزعاجهم معها... لص يتابع رجلًا أنيقا ليسرق حقيبته المصرفية، ولا يعلم بأنه في الحقيقة مهاجر مفلس مشرد مهووس بالإبهار والخداع لجذب النساء، ولا يحمل في حقيبته الفخمة سوى ثيابا داخلية ولفة طعام من المأوى... شاب ذاهب لاختبار القبول في وظيفة، سوف يفشل لأن اعماقه المضطربة لا تريد له النجاح.

     كم يؤلمك ان تتابع غلاما فقيرا يشتغل مع ابيه الذي لا يكف عن اذلاله وتأثيمه ويردد على مسامعه:

ـ انت ولد عاق ميئوس منك مثل اخوتك. مستقبلك إما حرامي او شرطي!

     لكنك في عين الوقت تلتقط في اعمق اعماق هذا الغلام طاقة هائلة من طموح واصرار وقناعة بأن يكون فنانا او أديبا كبيرا. ونحن بحسب تجاربنا، انه لا بد ان يحقق ذلك. لأن الحياة خادمة مطيعة ولكنها طرشاء، لا تسمع ابدا مطالبنا المعلنة، بل تتبع قناعاتنا المخفية. حينها كم تتتمنى ان تؤثّر على ذلك الأب كي يلتقط دواخل ابنه، فيحصل هو على الأمل، ويحصل ابنه على التشجيع. لكن مشكلتنا نحن المبعوثين، وكما تعرفون، ان تأثيرنا على دواخل الآخرين، بحاجة، اما للحصول على موافقتهم ومشاركتهم، او الى وقت طويل وجهد كبير.

     كيف لك ان تكتم ضحكتك وتساؤلاتك عندما تكون جالسا في مطعم بجوار طاولة زوجين، هي تحدثه بحنان وحماسة عن اطفالهما، وهو يفتعل الانصات، لكنه في داخله غارق في تخيل مشاهد شبقية مع عاملة المطعم ذات الجسد الفوار.

       كيف لا تضطرب، وانت تستمع الى رجل واقف جنبك في الباص وهو يفكر بأنه في طريقه كي يقتل زوجته التي هجرته مع رجل آخر، ثم ينتحر. لكنك تلتقط في اعماقه التي لا يدركها عقله، عدم قناعته الحقيقية بالموت. من خلاله تلتقط قناعات زوجته. كان دون ان ينتبه يتواصل معها تخاطريا، بأنها في اعماقها غير راغبة بالموت. إذن، اما انه سيتراجع في آخر لحظة، او ان شخصا او ظرفا نجهله سوف يتدخل كي يمنع إتمام الجريمة. فتزفر راحة وانت تنظر اليه بعطف وابتسام، فينظر إليك مستغربا ويخفت غضبه قليلا.

ان (كوكب الأرض)، طبيعة وبشرا، يشع (فتنة وجاذبية) تؤثر فينا نحن السيلاميين حتى أكثر من الأرضيين انفسهم، لانها تثير فينا ذكريات ومشاعر عتيقة مدفونة في اعماقنا منذ ما قبل عصر الصفاء. سبق لأمّي أن حدثتني عن الموضوع وهي تشرح لي سبب غياب أبي بعد تعلقه بالأرض وزواجه من أرضية:

ـ لو تعرف أية جهود نبذلها لمقاومة هذه (الفتنة الأرضية) التي تشعل فينا لهيب الشوق الى مشاعر بدائية ورثناها عن اسلافنا الذين كانوا مثل الأرضيين يحملون جنون الخيال والابداع. نحن افتقدناها بسبب الشفافية وغياب الاسرار والمخاوف والشكوك بيننا. لم نعد بحاجة الى اساطير وحكايات وعقائد دينية وسياسية لتبرير المنافسة والسيطرة والغزو والاستحواذ. لهذا قد خفّ فينا لهيب الابداع الفني والادبي، قصة وشعرا وموسيقى ورسما وسينما ومسرحا، بل حتى نكاتنا لا تضحك الأرضيين لانها عاقلة أكثر من اللازم.

يبدو انها خجلت ان تضيف، بأن الأرضيين، بسبب الكبت الجنسي والعاطفي الذي يعانون منه، يفوقونا الى حد بعيد بفنون الغزل والاغراء. آه، يا إخوتي (رجال سيلام)، لو رأيتم (الأرضيات) بثيابهن الشيطانية وتمايلات اجسادهن الثعبانية، واصواتهن الرقيقة الغاوية، وصبرهن العجيب في الاعيب التمنّع والاثارة والغموض.. يقينا حتى شيخ وقور بعمر الثلاثمئة عام سينبعث فيه لهيب شبابه وجنون شهوانيته. اما رجالهم فلا احدثكم عنهم، فهم ايضا لهم اساليبهم المتميزة بالجاذبية والتغزّل، لكني اترك هذا الموضوع لرفيقاتي المبعوثات، فهن يقينا اعرف مني، وغالبيتهن قد عشن هناك تجاربَا مريرة وسعيدة، وبعضهن تزوجن برجال ارضيين غير آبهات بعقوبة فقدان حق العودة الى كوكبنا العزيز. اما بالنسبة لي، اقول لكم بصراحة، اني لم اسلم من اغواء ذلك الكوكب، وعشت قصة قد غيرت حياتي الى الابد. ستعرفون فحواها في نهاية الكتاب.

                                                              

         تسعة اعوام امضيتها بتجوال في انحاء ذلك الكوكب المدهش. خلالها انتحلت شخصيات ارضية عدة بمختلف الهويات، وتنقلت بين بلدان ووظائف كثيرة، بالاعتماد على قدراتنا الخاصة التقنية والمعنوية. مهمتي الوحيدة أن أرسم قصصيا شخصيات الناس وتجاربهم ودواخلهم، عبر الوصف الواقعي المُعطّر بتوابل الخيال والفنتازيا التي تعلمتها من ادباء وفناني الأرض. شخصيات متنوعة، عايشتها عن قرب، أو اطلعت عليها عبر من عاشوها او سمعوها او أبدعوها من تجاربهم وخيالهم الأرضي. بعض القصص أجّلت نشرها لأنها تحتاج الى شروحات كثيرة كي تتفهموها، بسبب خصوصيتها الاجتماعية والثقافية الأرضية جدا. مع هذا فاني اضطررت في هذه المختارات ان أضع في بداية ونهاية غالبية القصص توضيحات ضرورية، لكنها مختصرة، كي تتفهموها.

آمل اني نجحت بتحقيق مهمتي كفنان أستخدم عواطفي وخيالي وإبداعي كـ(جهاز تقطير) للواقع البشري، مستخلصا منه جوهره ورحيقه. حيث يصدح سؤال الهوية المحيّر: من أنا وما علاقتي بالناس وعموم الوجود؟!

تبقى غايتي الاولى من هذه المختارات، كما كتبي السابقة، ان أقدم بعض الإمتاع الجمالي، وربما أيضا زيادة معرفتنا وتفهمنا لهم ولأنفسنا.

ملاحظة: اكشف لكم اعزائي السيلاميين، عن فكرة طريفة قدمتها لي (الاستاذة سحر الموجي) رفيقتنا في البعثة، والمتنكرة بشخصية ثقافية معروفة في (مصر)، بأن اقوم بنشر هذه المجموعة كذلك في كوكب الأرض نفسه وبمختلف اللغات. الاطرف من هذا، انها الحّت عليَّ ان ابقي على مقدمتي هذه وتوضيحاتي، كما هي، لأنها ستثير استغراب الأرضيين، لكنهم لن يصدقوها، بل سيعتبرونها محض خيال فنتازي من روائي حالم.. لمَا لا؟!


  جزيرة الصفاء

ان السيدة التي تسرد هذه القصة هي (انجلينا) النجمة العالمية المعروفة في الأرض. انا طبعا بتأثير اهلي، كنت متابعا لافلامها ومعجبا بشخصيتها قبل بلوغي الأرض. يقينا ان بعضكم قد شاهدوا افلامها في نوادي السينما الخاصة بالافلام الأرضية. اثناء بعثتي كنت استثمر فرص زياراتي لابي وعائلته في (باريس)، حيث تسكن هي ايضا، واحاول التنصت على دواخلها اثناء تمثيلها للافلام والمسرحيات.

في سن الاربعين دخلت ازمة نفسية ـ وجودية، لخيبتها من عالم النجومية والمجتمع المخملي. ظلت مترددة بين الانتحار او الاعتزال. حالتها ليست نادرة. أنتم تعلمون أن أبناء عمومتنا، خلال القرنين الماضيين، قد حققوا تقدمًا هائلاً في التواصل والتفاهم مع بعضهم البعض: وسائل النقل السريعة، والهاتف، والإنترنت ، والشبكات الاجتماعية. لكن رغم كل هذه التطورات، ظلوا يعانون أكثر من أي وقت مضى من العزلة والحذر والكبت بسبب صعوبة التواصل الانساني بينهم، مما يؤدي بهم أحيانًا إلى الجنون والانتحار وحتى القتل. بعد جهد نجحت انا باقناع رفاقي في البعثة باختيار (انجلينا) ضمن مشروعنا الأرضي. لإنقاذها وادخالها في مشروعنا. أوحينا لصديقها القديم(إمانوئيل) أن يدعوها الى (جزيرة الصفاء) التي ستتعرفون عليها في هذه القصة. اترك انجلينا تحدثكم.

 *   *   *

        

           لم يخطر ببالي، عندما لبَّيْت دعوة (إمانوئيل) أني سأعيش هذه التجربة الفريدة.

في بالحقيقة اني اقوم بهذه السفرة الطويلة لسبب اخفيته عن صديقي الطيب، بل عن جميع معارفي: اختبر قدرتي على تنفيذ قراري بالاعتزال عن عالم النجومية والسينما وحياة التصنع والمظاهر. هكذا فجأة وانا ادخل في عمر الاربعين تفجرت في داخلي مكبوتات طفولتي وتاريخي العائلي. رغم وجود الملايين من المعجبين والمعجبات، إلا اني منذ سنوات اعاني من مشاعر قاتمة بالعزلة. بدأت اتقزز حتى من مشاهدة نفسي في وسائل الاعلام. اشعر وكأنهم يسخرون مني. لم استطع حتى ان التقي بالرجل المناسب والصادق الذي يمكنني أن ابني معه حياة عائلية. هيمنت على روحي كآبة سوداء وحاجة جنونية لهجر حتى (فرنسا) واهلي وذكرياتي، بل حتى العالم بأجمعه، واختبئ بعيدا في غابة وحشية او جزيرة نائية او دير في صحراء لأية طائفة كانت.

(امانويل) إنه صديقي منذ أعوام الجامعة في (جنيف). صداقة حميمة قد جمعتنا واستمرت مع ان الحياة قد فرقتنا عن بعض. انا عدت الى مدينتي(بوردو)، وهو بقي هناك بعض الوقت، ثم بعد فشل زواجه الاول هجر بلاده سويسرا مع زوجته الثانية (ماريما) التي أخذته إلى موطنها الأصلي، وهي جزيرة نائية في المحيط الهادي.

حافظنا على الالتقاء مرة أو مرتين كل عام أثناء زياراته إلى أهله في سويسرا. كان يدهشني بدوام البهجة والصحة البادية عليه. السعادة الغامرة نفسها تبدو في صور زوجته وأبنائه الثلاثة. كلما سألته عن السر، يضحك ويقول: إنه مناخ الجزيرة المعتدل. لكني كنت أشك بأن ثمة سببًا آخر لا يود صديقي البوح به. ربما وفرة المال مثلا. عند سؤالي عن حياته في الجزيرة وطبيعة الناس هناك، ظلت أجوبته سريعة ومبهمة، وسرعان ما يتجاوز الموضوع بضحكاته المعتادة.

في الفترة التي سبقت موعد سفري حاولت العثور في المكتبات والإنترنت على أية معلومة حول هذه الجزيرة، فلم أجد غير نتف محدودة ورسمية عن تاريخها ومساحتها وسكانها. فليست هنالك أية تفاصيل عن مجتمعها الحالي واقتصادها وأحزابها وأحداثها، وغيرها من المعلومات التفصيلية والتحليلية.

منذ أن حطّت طائرتنا في مطار الجزيرة جلب انتباهي مدى التشابه العجيب في الملامح المرسومة على وجوه الحراس والعاملين مع وجوه صديقي وعائلته. لا أدري كيف أصف الأمر. ليست حالة فرح معتادة كما نعرفها على وجوه البشر مهما اختلفت أصولهم وشخصياتهم، بل ثمة هالة وشعاع وطاقة تنبع من الكيان كله. تأتيك ضحكاتهم قبل أن تسمعها أذنك، وتحس بسرورهم قبل أن تنظر إليهم.

تأكد إحساسي عندما وجدت(إمانوئيل) مع (ماريما) وأبنائهم الثلاثة، بنتين وولد، في انتظاري. يا الله، الهالة ذاتها، وكأنها جزء طبيعي من أبدانهم وأرواحهم. مهما كان وضعك متعبًا أو ضجرًا، سرعان ما تغمرك أنوارهم مثل مياه صافية عذبة تغسلك وترويك.

منزلهم متواضع بحديقة صغيرة تطل مباشرة على البحر، لكنه مريح. أمضينا أمسية لطيفة حول مائدة الطعام. رغم الطيبة التي غمروني بها إلا أني شعرت ببعض الضيق لصوت داخلي يهمس بإخفائهم عني أمرًا ما يخصني. ضحكات أبنائهم لم تخل من بعض السخرية مصحوبة بغمزات وهمسات متبادلة، غير آبهين بتنبيهات أمهم وأبيهم باللغة الوطنية. وعند سؤالي (إمانوئيل) عن الأمر، يضحك مرددا:

ـ عزيزتي انجلينا، صدقيني ليس هنالك أي سبب مسيء. اطمئني. قريبا ستفهمين الامر. اضحكي ارجوك..هاهاها..

أمضيت ليلة قلقة تخللتها أحلام مزعجة، رأيت فيها نفسي طفلة عارية والناس يسخرون مني. وفي الصباح تناولت الفطور مع (إمانوئيل) وحده، لأن زوجته ذهبت إلى عملها، وأبناءه في المدرسة. أما هو فقد أخر دوامه من أجلي. قال: إنه سوف يتركني وحدي لأتعرف على الجزيرة، ونصحني بزيارة بعض المعالم المهمة. وحينما سألته عن أي كتاب فيه معلومات مفصلة عن الجزيرة، أجابني بضحكته المعتادة:

ـ أقترح عليك يا صديقتي، أن تأخذي بنفسك فكرة أولية عن الواقع.. بعدها ستفهمين التفاصيل..

هكذا أمضيت الأيام الثلاثة الأولى أتجول وحدي في أنحاء الجزيرة. وجدتها تكثر فيها النباتات والغابات لمناخها المعتدل ووفرة مطرها. مساحتها كافية لسكانها الذين لا يتجاوز عددهم النصف مليون.

كل ساعة تمر كان ذهولي يزداد وأنا أكتشف أمورًا عجيبة لم أعرفها في أي مجتمع آخر. أينما ذهبت كنت أفاجأ بالناس ينظروني ببسمة حنونة، أما المراهقون والأطفال فكثيرا ما ينظروني بضحكة وتغامز بينهم كأنهم يعرفوني! تأكد لي ذلك الشعور الذي احسسته في المطار:

ثمة تشابه كبير بين الناس، ليس بسبب تقارب الملامح، بل في تلك البهجة والأنوار التي تشع من وجوههم وكيانهم كله. لم أشاهد أبدًا إنسانا كئيبًا أو غاضبًا أو شاحبًا نحيفًا مريضًا أو سمينا متكرشا. خمنت أول الأمر أنهم قد يكونون تحت تأثير المخدرات، لكني لم أشاهد أحدا يدخن أو يحتسي الكحول، فكيف يعقل أن يستهلكوا المخدرات؟!

الأغرب من ذلك انعدام وجود أي شرطي أو عسكري. بل حتى شرطي المرور غائب والشوارع بلا إشارات مرور. مع ذلك لم ألمح أي غضب أو خصام أو سيارة مسرعة ولا ارتباك مرور. بل الأعجب من ذلك أن المخازن والمكاتب تظل أبوابها مفتوحة ليل نهار دون أية حراسة أو أجهزة رقابة. ليست هنالك مظاهر حزبية ودينية واضحة الحضور. المعابد شبه فارغة ويؤمها الناس للراحة والدردشة. ليست هنالك مراقص وحانات ليل، فأنت تشاهد الناس يرقصون ويغنون في الحدائق والشواطئ والمقاهي والبيوت، دون مكبرات صوت مرعبة ولا مظاهر مغالاة وخلاعة مصطنعة.

لم أشاهد أي تلفون، لا نقال ولا ثابت، حتى إنهم يجهلون الرسائل والإيميلات. وعندما أسألهم كيف يتواصلون فيما بينهم، كانوا كالعادة يضحكون، وهم يرددون جوابهم المعتاد: اصبري سوف تعرفين الحقيقة.

لاحظت الناس عندما يشاهدون الأفلام الأجنبية في التلفزيون والسينما، يبدون استغرابهم بصورة مبالغة إزاء المشاهد السلبية من فقر وجشع وحزن وعنف، وغيرها. كما لو أنهم يصدمون بسلوكيات مجتمعات غريبة تعيش في كوكب آخر غير كوكبهم.

أكثر الأمور التي أثارت عجبي واعتبرتها خارقة للمنطق والتفسير العقلاني، عندما كنت أشتري حاجة من المخازن والمقاهي والمطاعم، كنت أفاجأ بالبائع والنادل يقدم لي طلبي قبل أن يسألني. وأمام استغرابي كانوا كالعادة يطلقون ضحكتهم الحنونة. حتى سائق التاكسي، دون أن أخبره بوجهتي كان يعرف عنواني ومقصدي!

أما صديقي وزوجته، فكلما أبديت لهما دهشتي، ضحكا وقالا:

ـ اصبري.. ستفهمين قريبًا كل شيء..

أصبحت مشتتًة بين مشاعر راحة وحذر. تكاثرت أحلامي المزعجة التي ظلت تتمحور حول شعوري بالقلق والخجل من أني عارية مكشوفة للآخرين، وهم يسخرون مني. بل أحيانا أجد نفسي كما لو أني من زجاج شفاف يشاهد الناس من خلاله كل تفاصيلي الداخلية!

                                                    

     في أمسية اليوم الرابع، ومع ذهاب الأبناء إلى النوم، بقيت أنا وصديقي وزوجته نتبادل الأحاديث والذكريات. وإذا بـ(إمانوئيل) فجأة يتخذ هيئة جادة ويتبادل النظرات مع زوجته ثم يخفض بصره ويتنحنح علامة أنه ينوي فتح موضوع خطير. قال:

ـ اسمعي آنجلينا.. بما أنك قد أخذت فكرة عامة عن حياتنا في بلادنا، فإنك أصبحت الآن مؤهلة لحمل السرّ. اعلمي يا صديقتي أننا ما دعوناك لزيارتنا إلا بعد أن اقتنعنا بأنك أهل للثقة. لقد تداولنا الأمر كثيرًا أنا وماريما وأخذنا موافقة الجهات المسؤولة. أرجو أن تعرفي أن (الهيئة الوطنية لحفظ سر الجزيرة) قد راقبتك جيدًا خلال هذه الأيام، وكان موقفها إيجابيًّا منك ومنحتنا حق مكاشفتك، لتكوني ضمن النخبة المحدودة من الأجانب في العالم ممن يشاركوننا حقيقتنا.

التفت الى زوجته قائلا:

ـ تفضلي يا عزيزتي حدثيها، فأنت أعرف مني بالتفاصيل.

بدأت(ماريما) تكلمني بصوتها الخجول الرقيق وبلكنة فرنسية طريفة، وهي تنظر إلى زوجها كأنها تستمد منه الجرأة:

   جميع الذين يزورون جزيرتنا للمرة الأولى يندهشون من حالة السلام والسعادة السائدة بيننا. لكن دهشتهم تخف عندما يتعرفون على السبب الذي جعلنا في هذه الحالة:

ـ قدرتنا على التخاطر وسماع أفكار بعضنا البعض كما تسمع الأصوات!

يقينا أنك ستضحكين وتتساءلين عن علاقة هذه المقدرة مع حالة السلام والسعادة التي نعيشها. دعيني أسرد لك بعض التفاصيل.

   إن تاريخ جزيرتنا قبل تحولنا العجيب منذ أكثر من خمسين عامًا، لم يكن مختلفا عن تاريخ باقي المجتمعات في العالم، سلبا وإيجابا. جزيرتنا صغيرة كما تعرفين، ودولتنا كانت تشبه غالبية الدول، عانت من الاستعمار، ثم بعد الاستقلال تعاقبت عليها حكومات وأحزاب من خلال الوسائل المعروفة، من مؤامرات وانقلابات وانتخابات مزيفة، كلها مدعومة سرًّا من قبل القوى الخارجية.

التغيير العظيم حصل عقب طوفان خطير واجتياح أمواج المحيط لجزيرتنا واختفائها تماما تحت الماء. بقينا لأكثر من أسبوع نعيش في القوارب حتى خف غضب الطبيعة وزال الطوفان.

في بادئ الأمر ظن الناس أنهم أصبحوا عرضة لهلوسات وخيالات جنونية بتأثير صدمة الكارثة، إذ بدأت تبرز بيننا بعض السلوكيات والمواقف الغريبة.

يلتفت زوج نحو زوجته ويصرخ بها مستغربا:

ـ لماذا تشتمينني يا ملعونة؟

فتجيبه محتجة:

ـ لكني لم أتكلم يا زوجي العزيز.. انظر أنا صامتة..

ـ يا للوقاحة.. تعالوا يا ناس وانظروا إلى هذه المجنونة. واسمعوا شتائمها الوقحة...

وفعلا يشهد الآخرون أنهم يسمعون شتائمها ضد زوجها رغم انطباق فمها. وفي عين الوقت يصرخ أحدهم بالزوج:

ـ لكنك يا زنديق، ها أنت أيضا تشتمنا وتجدف بالإله..

فيذهل الزوج، لأنه كان فعلا في باطنه يشتم ويجدف بسبب غضبه، لكنه لم ينطق بذلك علنا.

هكذا انتشرت المشاحنات بين الناس لأنهم بدأوا يسمعون أفكار بعضهم البعض. راحت الأسرار الصغيرة والكبيرة، تظهر علانية وتتكشف أشبه بالأفاعي التي تخرج من جحورها. جميع الأسرار المخبوءة في بواطنهم تطوف أمامهم علانية لأنها صارت مسموعة: حالات العشق السرية والشهوات والمشاعر المكبوتة والنمائم والخيانات والسرقات وجميع الجرائم المخبوءة، حتى القديم المنسي منها، كلها فجأة أصبحت مسموعة ومكشوفة بدرجة أصابت الجميع بالرعب والجنون.

دامت الأزمة والاضطرابات أكثر من عشرة أعوام. كثرت الشجارات والجرائم وحالات الطلاق والانتحارات. ومع مرور الوقت تكشف لجميع الأفراد والعوائل والجماعات المهنية والدينية والحزبية وغيرها، مهما كانوا مقربين ومتحالفين مع بعضهم، فإن لكل منهم ما يخبئه من عتب وغضب وبعض التشهير بالآخر. وبالتالي فإن الجميع يشتركون بالذمائم والخطايا مع اختلاف حجمها. فمن لم يرتكب خطيئة يخبئها فإنه على الأقل يخبئ في داخله خطايا آخرين، عاشها أو سمع بها، ويعتقد أو يشك بدور فلان بها.

كما يقول المثل : (إذا عمّت هانت)، وهذا بالضبط ما حصل في جزيرتنا، فبعد اكثر من عشرة أعوام بدأنا نتعب ونتعود، ليس فقط من سماع أسرار وفضائح الآخرين، بل كذلك من سماع الآخرين بفضائحنا وترديدهم التهم المنسوبة إلينا. ومع كثرة الفضائح الصغيرة والكبيرة تعبنا وتعودنا ولم نعد نأبه بها. وسادت بيننا حكمة صارت أشبه بالشعار الشعبي: (من كان منّا بلا خطيئة، ليرجمنا بحجر)..

   ثم بدأت حالة أخلاقية وسلوكية غير معلنة تنتشر وتفرض نفسها بالتدريج:

رحنا نبذل أقصى الجهود لتجنب الأفكار والمشاعر السلبية ضد الذات وضد الآخرين. بالضبط كما يتعود الإنسان على التحكم بلسانه وتجنب النطق بما يسيء لذاته وللآخرين. لم يعد بالإمكان اقتراف سرقة لأنها ستنكشف ويسمع بها الناس، وهي لم تزل فكرة في رأس الفاعل. هكذا دواليك باقي الخطايا ابتداء من النميمة والغش والخيانة حتى الغدر والقتل. الجميع يسمع بنوايا الآخرين قبل أن يشرعوا بتحقيقها.

مع الأيام والسنين بدأنا نتعود على تجنب الأفكار السيئة والمؤذية وتبني الأفكار الإيجابية والمقبولة التي تكسب الآخرين ولا تمنحهم الحجة للحقد والتشويه. من خلال التعود على خلق حالة انسجام بين الفكر واللسان والسلوك. أي توافق ما تفكر وتشعر به مع ما تعلنه وتمارسه في الواقع وأمام الآخرين. وهذا الانسجام داخل الشخص بين أفكاره ومشاعره وسلوكه، لم يخلق فقط حالة وضوح وتوافق اجتماعي، بل أيضا حالة انسجام وتوازن داخل الإنسان نفسه، لا يمكنك أبدا تخيلها. تستقر فيك مشاعر بأمان وراحة ضمير وسمو الذات، سرعان ما تتحول إلى نوع من ثمالة وانشراح وخدر يسري في كيانك روحا وبدنا ويجعلك تعيش في سعادة الذوبان مع الجماعة.

التغير الثوري الذي لم نكن نحلم به، حصل خصوصا في دولتنا والقوى السياسية والمؤثرة. فالجرائم والأسرار لم تلتغ فقط من المجتمع، بل وبخاصة بين الحكام والمالكين ورجال الدين وباقي الجماعات المالكة والمسؤولة. فما عاد من الممكن التحضير الخفي لأية تآمرات أو معارضات سرية، لأن جميع الأخاديع والاتفاقات الخفية تبدو مكشوفة أمام أعين الناس. كذلك ما عاد بإمكان المسؤولين أن يكذبوا ويغشوا ويسرقوا ويغطوا جرائمهم بخطب رنانة واتهامات ضد من يسمونهم بالمخربين. بل صار من المستحيل على الإعلاميين والمثقفين المتواطئين أن يستمروا بنفاقهم وأكاذيبهم التي تخدر الناس وتخدعهم. لأن أول من سيكتشف أخاديعهم أهلهم والمقربون والأصحاب الذين يسمعون أفكارهم المخبوءة.

كل هذا أدى بالتدريج إلى أن تفقد الدولة حاجتها للقوة للسيطرة على الخصوم والمحتجين والمخالفين.

حتى الجهات الأجنبية التي تفكر بالتآمر والخداع وشراء ذمم الآخرين، لأغراض ربحية أو تجسسية أو غيرها، سرعان ما تفتضح بمجرد أن تبدأ بالتفكير بجزيرتنا، لأنك قادر على سماع أفكار أي إنسان بمجرد أن يفكر بك. هكذا فإننا نسمع أفكار كل من يفكر بجزيرتنا مهما كان منفصلا عنا بحدود ومسافات، لأن الأفكار التي تخصنا تصلنا عبر الأثير مثل موجات الراديو والهاتف. الأمر الحاسم أن أية قوى خارجية مهما امتلكت من قدرات سياسية ومالية وثقافية، فإنها ستعاني من استحالة أن تجد بيننا من يقبل بالتعاون معها، لأننا سنكتشفه منذ اللحظة الأولى. كذلك الحال بالنسبة للعملاء الأجانب. ثم إن جميع مشاريع التأثير والتغلغل في بلادنا، كنا نتنصت عليها منذ اللحظات الأولى وهي في أذهان قادة الدول والمخابرات والجيوش. تعودنا على إتقان وسائل نفسية ودبلوماسية بابتزاز خصوم بلادنا وبث الفرقة بين مسؤوليهم وكسب بعضهم إلى جانبنا، من خلال استخدامنا أسرارهم التي نعرفها بالتنصت على أفكارهم. أعظم الجيوش وأخطر الأسلحة والقنابل النووية تفقد قيمتها لو سيطرت على أفكار أصحاب القرار. إننا نسمح لأنفسنا بابتزاز خصومنا الخارجيين لحماية بلادنا وتجنب الحروب. هكذا ساد عرف عالمي غير معلن، أن يتركوا جزيرتنا بسلام ويتناسوها. لهذا تجد المصادر عنا نادرة حيث إننا نجحنا أيضا بجعل الباحثين والإعلاميين والمغامرين والسائحين، يتجاهلوننا.

مع مرور الأيام والسنين ساد بلادنا الأمان الداخلي والخارجي واضمحل بالتدريج دور الجيش والشرطة والرقابة السرية لانتفاء الحاجة للقمع والسيطرة والرقابة الداخلية والخارجية. لكن فقدان الدولة لدورها الدفاعي والامني لم يؤد إلى اضمحلالها، بل بالعكس زاد من سعتها ونفوذها، لأنها أصبحت تلقائيا تمثل جميع تنوعات المجتمع ومصالحهم وحاجتهم للخدمات من خلال الوزارات والمؤسسات الخدمية المختلفة.

   تعود الناس، أغنياء وفقراء، أغبياء وأذكياء، أشراراً وأخياراً، حاكمين ومحكومين، على تجنب الرذيلة وتبني الفضيلة. لم نعد بحاجة إلى تعلمها من الفلسفات والأديان لأننا نعيشها في كل لحظة من حياتنا وفي كل خلية من كياننا. حتى الأطفال أصبحوا يدركون هذه الحقيقة:

لكي تكون محبوبا بصدق من الآخرين عليك أن تحبهم بصدق. ولكي تحبهم بصدق عليك أن تضمن أنهم أيضا يحبونك بصدق. وهذا يتطلب الثقة المطلقة المتبادلة بينكم، ولن يتم ما دامت الأسرار مخبوءة في كهوف النفوس. إن الشفافية والمكاشفة شعاعات شمس تنير الحقائق وتنقي الضمائر. كلما زادت الأسرار زادت المخاوف والشكوك والضغائن والمؤامرات، وهي أساس الرذيلة. وكلما قلت الأسرار وكثرت الصراحة، زادت مشاعر الثقة والأمان والمحبة، وهي أساس الفضيلة.

العجيب أن سيادة الأمان والمحبة بين الناس لم تلغ الخصومات والمشاكل بينهم فحسب، بل قللت إلى حد كبير المشاكل الصحية والأمراض والحوادث. لأن صفاء النفوس وراحة الضمائر وانتشار السعادة عززت المناعة الطبيعية في الأجسام، ومنحت الأذهان النباهة لتجنب الحوادث والمخاطر.

أما عن سؤالك عن سبب اختيارك لكشف حقيقة جزيرتنا. نطمئنك أن السبب بكل بساطة لأنك صديقتنا ولا نود أن نفقدك بسبب اضطرارنا للكذب عليك بمعرفتنا بكل ما تفكرين به. وكما لاحظت أن أبناءنا كانوا في الحقيقة يضحكون لأنهم يسمعون كل ما تفكرين به. نطمئنك أن كل أفكارك ومشاعرك ظلت إيجابية نحونا ونعرف جيدا مدى حبك لنا.

سألتُ (إمانوئيل) مستغربة:

ـ لكنك يا صديقي كما أعرف أنت مثلي، لست من سكان الجزيرة الأصليين. وهذا يعني أنك لا تمتلك القدرة على سماع الأفكار، فكيف يتاح لك أن تشاركهم أمانهم وسعادتهم؟

فضحك وقال:

ـ لا أجيبك، بل أتركك تعيشين الجواب بنفسك ابتداء من الآن، بعد أن عرفتِ الحقيقة.

وفعلا، خلال أيام وأنا أختلط بالناس، بدأت أحس بشبه ثورة نفسية في داخلي. مجرد إدراكي بأن الجميع يعرفون حقيقتي وأنهم يقبلونني كما أنا، جعلني تلقائيا ومن دون جهد أشرع بالانسجام مع مشاعرهم. لا أستطيع أن أصف لكم مدى الذهول الذي راح يجتاحني وأنا أكتشف كيف أني أمضيت حياتي مدججة بأسلحة سرية من حذر وتمنع وترصد، في كل لحظة حتى وأنا وحدي. يا لضخامة الأثقال التي كنت أحملها وجهادي الدائم لحفظ أسراري التافهة والخطيرة، والسيطرة على ذاتي من أجل التوافق مع الآخرين وإعطائهم الصورة الزاهية عني شكلا ومضمونا.

وأنا أعيش علانية مشاعري وأفكاري أكتشف أن جميع شعارات الحرية والديمقراطية مهما كانت نواياها صادقة، تظل إلى الأبد عاجزة عن تحقيق واحد بالألف من أهدافها، لأن المانع العظيم والدكتاتور الجبار الذي ظل يقمعني ويعذبني، لا يعيش في خارجي، بل في داخلي.

خلال فترة وجيزة تعلمت أن أكون حقيقية مع نفسي لمجرد إدراكي أن أسراري صارت مكشوفة للجميع. مثل حمامة تخلصت من قفصها، أترك مشاعري الواثقة الطيبة تقودني، متخلية عن مخططات عقلي وكبريائي الزائف. فضاء هائل ينفتح أمامي لأحلق فيه خارج قواعد الحذر والكتمان. يا ليتكم تتذوقون عظمة الشعور بالحرية يتسرب إلى كياني مثل نهر فوار يشق مجراه في بادية عزلتي.

*   *   *      

نحن (السيلاميين) لا ندرك عظمة امتيازنا وتطور مجتمعنا، إلّا عند إطلاعنا على حياة أهل الأرض وما يعانونه من مصاعب لا تصدق من اجل التواصل والتفاهم فيما بينهم، أفراد وجماعات. ان انعدام قدرتهم على معرفة دواخل بعضهم البعض وما يضمرونه من مشاعر ونوايا، يخلق بينهم الشكوك والاسرار والخداع والخيانة. لهذا تراهم يكرّسون الجزء الاعظم من جهودهم وذكائهم ولغاتهم واديانهم وفلسفاتهم واخلاقهم ودولهم وجيوشهم ومخابراتهم، من اجل تسهيل وتقنين التواصل والتفاهم بينهم، افرادا وجماعات.

علما بأن سكان هذه الجزيرة حتى الآن يجهلون تماما دورنا الحاسم في تحولهم واكسابهم هذا (الصفاء العظيم) الذي لدينا. كنا قد اخترنا هذه الجزيرة الصغيرة لتجربتنا الاولى للتأكد من صلاحية اهل الأرض لاستلام هديتنا، دون استثمارها في الصراعات بينهم. الآن يمكننا القول بانها تجربة ناجحة كما توضح لكم في القصة. نفكر في منح هذا الامتياز لأشخاص مؤهلين نفسيا وعقليا من مختلف قارات الأرض، ليشكلوا النخبة التي سنعتمد عليها في تنفيذ مشروعنا: بلوغ أبناء عمومتنا الأرضيين:(عصر الصفاء)!


من ذكريات جدّنا الزعيم مايكل

أول قرد تحول إلى إنسان..

اعلموا ان(القرد) هو حيوان يشبه كثيرا حيوان (كيردا: KIRDA) لدينا ولكنه بلا اجنحة. سمعت هذه القصة بصوت (أولوف) مرشد طائفة معتكفة في جزيرة صغيرة في (خليج بوثانيا: Gulf of Bothnia) شمال اوربا. كنت قد انتميت اليهم لمعرفة حياة مثل هؤلاء الشبان الهاربين من تعقيدات الحضارة نحو روحانية جريئة لكنها لا تخلو من السذاجة والمغالاة. كنا في ليلة صيفية دافئة مثملين بالحشيش، مفترشين رمال الشاطئ وضحكاتنا تتعالى في فضاء ينيره قمران، احدهما ثابت متوهج في كبد السماء، والثاني يسبح متراقص في مياه الخليج. بعد ان قام المرشد بحركات وصرخات ليناجي فيها البحر والقمر والغابة، تقمصته روح الجدّ الاول للبشرية، حسب تفسير مريديه. وإذا به يشرع بصوت غريب اقرب الى صوت القرود، بسرد حكايته...

*   *   *

دعوني يا أحفادي البشر أَسردُ عليكم حكايتي التي تحتوي على تفاصيل لا يعرفها جميع العلماء الذين ادعوا معرفةَ كل شيء عن أصلكم القردي، وعلى رأسهم صديقنا العزيز (دارون).

أقدم لكم نفسي؛ أنا جدكم (الزعيم مايكل) أول من شاءت الأقدارُ أن تُحولني إلى إنسان، وذلك عام ستة مليون وسبعة وأربعين قبل الميلاد.

كنت قردًا نبيلا أتزعَّم عشيرة كبيرة من القرود، نقطن في إحدى غابات منطقة (هولال) في وسط (اسكندنافيا). في تلك الحقبة لم تكن هناك ثلوج ونجهل البرد. الشمس تدفؤنا والغابات الاستوائية تغطي كل الأرض.

ذات يوم، بالضبط في الساعة الثامنة و36 دقيقة من صباح الاثنين ليوم خريفي مشمس بينما كنت مستلقيًا على غصن شجرتي الملكية العملاقة محاطًا بزوجاتي التسع اللواتي يخدمنني ويداعبنني وأنا أتناول إفطاري الصباحي المتكون من 11 موزة وثلاث خنفسات وذيل برعص عملاق مشوي مع البصل، مصحوبا بطاسة حليب ثعالب محلى بذروق الطيور. فجأة ودون أية علامات مسبقة، انقلب الجو وغابت الشمس واسودت السماء وانتشر الهرج والفوضى بين قرود وحيوانات غابتنا. وإذا بعاصفة كاسحة تهب مصحوبة برعود وصواعق وبروق، والسماء تمطر بشدة حتى خُيِّلَ لنا أن هنالك تمزقًا حدث بسقف الكون واندلقت علينا مياه البحر الإلهي.

لم ألحق إنهاء إفطاري، إذ بينما كان ذيل البرعص يتدلى من فمي والبصلة بيدي وحليب الثعالب المحلى ينسكب على صدري، تزحلقت أصغر زوجاتي، جدتكم الراحلة (سامانتا)، بقشرة موز وسقطت عليَّ، مما جعلني أنا بدوري أسقط من أعالي الشجرة العملاقة على الأرض المشتعلة.

رغم هول الصدمة، فإني تمكنت من الزحف ولحقت نفسي قبل أن يحترق شعر رأسي كله، بينما زوجاتي الحبيبات وقبيلتي كلها في حيص بيص لم يحصل سابقا أبدا.

فيما بعد عرفت أنه في هذه اللحظة حصلت أعظم وأكبر ثورة في تاريخ الأرض:

تحولي أنا (الزعيم مايكل) من قرد إلى إنسان!

بسبب عوامل طبيعية عديدة معلومة ومجهولة، أخذت التغيرات العجيبة تحدث في بدني، نقلتني من الحالة القردية إلى الحالة البشرية. ما زال العلماء يختلفون حول عدد الأيام التي بقيت فيها أزحف على بطني بين العواصف والصواعق والأمطار أثناء تحولي. البعض يعتقد أنها خمسة أيام وثلاث ساعات، والبعض يرى أنها يومان وخمس عشرة ساعة. لكني أنا الآن أتذكر بالضبط أنه كان يوم خميس، وهذا يعني أني بقيت حوالي أربعة أيام.

المهم، يبدو أني بينما كنت أعيش هذه الصدمة البدنية والنفسية في ظل هذه الثورة الكونية وما جلبته من مؤثرات فيزيائية وكيميائية وبيولوجية، كلها تراكمت بكثافة وشدة فائقتين جعلتني أفقد الوعي وأُشْرفُ على الموت، بل هنالك من العلماء من يعتقد أني قد مت فعلا، لكن صاعقة ضربتني على خلفيتي جعلت كهرباء الحياة تسري من جديد في كياني. ودليلهم على تعرضي لهذه الصاعقة هو اختفاء آثار ذيلي القردي منكم يا أحفادي الأعزاء، وأن خلفياتكم ملساء خالية من الشعر.

وهنالك فرضية لم تحسم بعدُ، تقول: إن حرق شعر رأسي في هذه الحادثة، يفسر حالات الصلع لدى الرجال. ولحسن الحظ أن زوجتي الحبيبة (جدتكم سامانتا) بقي شعرها سالما، وإلّا لكانت أورثت الصلع لحفيداتي النساء أيضا. هناك أيضا تحول عيوني إلى خضراء بسبب الرعب الذي أصابني وأنا أبحلق في الكارثة، مما جعل المواد الكيماوية تدخل عيني وتغير لونهما. أما جدتكم سامانتا فقد بقيت عيونها سوداء، وهذا يدل على أن البشر ذوي العيون الخضر هم من ورثتي، وذوي العيون السود هم من ورثة المرحومة سامانتا.

صحيح أني نجوت من الكارثة، إلا أن معاناتي الحقيقية قد بدأت بعد ذلك، حينما انتبهت إلى أني قد تحولت إلى إنسان. عشت حالة انفصامية قاسية بين طبيعتي البشرية الجديدة وعاطفتي القردية الأصلية. اتهمني إخوتي الخمسة عشر وأبناء عمومتي التسعة والعشرون، بأني بدأت أتعالى وأستنكف أن أبقى قردًا مثل السابق وأحافظ على دوري الزعامي المعتاد. وهذا غير صحيح لأني مع اكتشافي لميزاتي البشرية العليا، إلا أني بقيت مصرًّا على البقاء وفيا لجنسي وأهلي. لكن الحقيقة أنهم هم الذين بدأوا يغارون مني لأني بدأت أسير منتصبا على قدمين بينما هم على أربع، وأَرْطُنُ بأصوات وكلمات لا ينطقونها، وأنتبه لأمور لا يرونها، وأخترع وسائل لا يفهمونها. أما زوجاتي اللعينات فقد استغللن تململ الآخرين مني ووجدن حجة للتنفيس عن غيرتهن لأني أفضل عليهن أصغرهن؛ جدتكم المرحومة (سامانتا). القشة التي قصمت ظهري، عندما انتبهت زوجاتي الى أني بدأت أعاشر (سامانتا) بطريقة جديدة لم تعرفها القرود، بل الحيوانات قاطبة: أنام فوقها وجها لوجه، بدلا من وجه لظهر..

الشيطانات عملن لي فضيحة، كأني اغتصبت نملة. انتشر الخبر المخزي في أنحاء الغابة وسمعت به حتى الأسود والذئاب، أما الثعالب الحيالة فقد ألَّفْن عنه النكات والأغاني:

الزعيم مايكل، أصبح شاذا... يعاشر زوجته بالمقلوب وهو يحدق بوجهها... ياللفضيحة!

حينها ثارت ثائرتي وفقدت أعصابي وأعلنت ثورتي على عشيرتي وعلى جنسي، بل على الحيوانات جمعاء. كفى ثم كفى. ها أنا قد أمضيت ما يكفي من الوقت من أجل تهدئة الأمور وإثبات إخلاصي لقبيلتي، إلا أن الواقع أقوى من النوايا، وأن طبيعتي البشرية يستحيل أن تتواءم مع طبيعتهم القردية، ولا مع حياة البهائم في الغابات والبراري.

                                      

هكذا قررت الرحيلَ غير آبها ببكاء وعويل نسائي التسعة وأطفالي الثلاثة والعشرين وباقي إخوتي وأقاربي. بعد حوالي ثلاثة أشهر من كارثة تحولي، وفي الساعة الرابعة صباحا من فجر الأحد، تسللت هابطًا من شجرتي الملكية، دون أن يلمحني أحد، مصطحبًا معي العزيزة (سامانتا) التي رغم بقائها على جنسها القردي، إلا أني كنت أعشقها ولا أتخيل حياتي البشرية دونها.

بقينا نسير أيامًا وأشهرًا وأعوامًا متجهين دائما نحو الجنوب بعيدًا عن مناطق أسلافنا القرود وإخوتنا البهائم. استقرت بنا الحال عند غابة تطل على بحر الشمال، لنشكل اول عائلة آدمية. بالتدريج تكاثر اطفالنا واحفادنا لتصبح عائلتنا عشيرة، وكوخنا قرية. ذات يوم بدأت تهب ريح باردة من الشمال مصحوبة بحشرات بيضاء لم نعرفها من قبل. راحت تتراكم في كل مكان، على الأرض والسقوف والاشجار، ولا تكف عن لسعنا وبثّ الرعشات في ابداننا وذرف الدموع من اعيننا. والعجيب عندما نمسك بها ونسحقها باصابعنا، ما كانت تتحول الى دمّ، بل الى ماء؟!

هذه الحشرات المائية اللعينة اجبرتنا على هجر قريتنا والزحف بعيدا بعيدا نحو شمس الجنوب. وفي كل مرحلة جديدة من التنقل كان عددنا يقل لأن بعض الابناء والاحفاد يصرون على البقاء وتحمل لسعات الحشرات البيضاء.

أخيرًا وجدنا أنفسنا على ضفاف البحر المتوسط. شعرنا ببعض الأمان عند هذه الشواطئ الخلابة البعيدة عن تلك الغابات التي يقطنها جنسنا. لكننا كنا مضطرين، أنا وزوجتي وأبناؤنا وأحفادنا إلى التنقل الموسمي بحثا عن الكلأ حتى بلغنا الضفاف الشرقية لهذا البحر. هناك اكتشفنا تلك الحيوانات الغريبة التي راحت تساعدنا في ترحالنا. إنها الإبل الطيبة المسالمة التي تتحمل الأثقال والتجوال والجوع والعطش. بفضلها انتشرنا في الأنحاء بين جبال الأطلس ووادي النيل وشواطئ سوريا ووادي دجلة والفرات. حينها قررنا الاستقرار لتشييد اولى الدول والحضارات الآدمية. من هنالك انتشرنا في أنحاء الأرض وعمرنا جميع القارات.

أخيرا، أود يا أحفادي الأعزاء أن أكشف لكم عن سر لم أتجرأ على التصريح به من قبل:

لقد أمضيت حياتي وأنا أحن لحياتي مع قبيلتي القردية. رغم جميع الامتيازات العقلية والبدنية التي حصلت عليها من تحولي إلى إنسان، ظلت جمرات الشوق حيّة في قلبي، الى بساطة العيش في الطبيعة حيث عالمي القردي الذي لا يتعدى غابتي وعشيرتي. آه كم أشتاق إلى القفز بين الأشجار وصيد الأفاعي ومعاكسة الأسود برميها بالثمار، وتناول وجبات موز وخنافس وذيول براعص مشوية مع بصل وحليب ثعالب. لكني أود في الوقت نفسه الحفاظ على امتياز بشري لا يمكنني أن أستغني عنه: أن أعاشر زوجاتي وجهًا لوجه، لأن تعبيرات اللذة والحياة على وجوه البشر هي أروع لوحات الإبداع والجمال.

  *   *   *                            

   منذ حوالي القرنين تسود بين اهل الأرض نظرية تقول انهم من اسلاف القرود او اشباهم. وهي ليست حكاية شعبية او اسطورية كما يخال لنا لأول وهلة، بل هي علمية وجدّية. أما الايمان التقليدي الذي تتبناه مختلف الاديان عندهم، فتعتقد بفكرة ان الاله او الآلهة قد خلقت الانسان. كذلك هناك نظرية يؤمن بها بعض باحثيهم تقول بأن اسلاف الأرضيين الاوائل قدموا من كوكب بعيد او مصنوعين جزئيا من زوار من الفضاء. حتى الآن نجحنا نحن بمنع انتشارها، والسبب كما تعرفون، كي نبعدهم عن الانتباه الى وجودنا الخفي بينهم.

 

      بلدة آدم وبلدة حواء

 

     انا شخصيا قد عشت في هذه البلدة الهندية، منتحلا شخصية محلية، ستعرفونها في النهاية. لعبت دورا أساسيا بدفع الناس لخوض هذه التجربة. كالعادة بعد نهاية المغامرة ومغادرتي البلدة، عدت اليها بعد فترة بهيئة مختلفة لأقنع هذه السيدة، التي لم تتعرف عليّ، من سرد حكاية معايشتها مع عائلتها لتلك التجربة الفريدة.

*   *   *                

عندما كنت طفلة في المهد، كانت بلدتنا تسمى (إنسان ـ أباد) وهي وحيدة في هذا الوادي الأخضر الفسيح الذي يسمى (جنّةـ اباد). كانت مثل باقي البلدات بخيرها وشرها. لكن في تلك الفترة انتشر في وادينا الجفاف وعم القحط في انحاء (ألهند). عانينا من أزمة خطيرة لم تمر في تاريخنا من قبل. تفشت المشكلات بيننا وكثر الشجار خصوصا بين الأزواج، وتزايد الطلاق والهروب من البيت، وحدثت جرائم انتقام وغسل عار. ساد اللغط والجدال بين الناس وتفاقمت التهديدات والاعتداءات بين العوائل، وبلغ الأمر من الحدة ما جعل خطر الحرب الأهلية شاخصا أمام الجميع. فانقسم الناس إلى عوائل وجماعات متنافسة كل منها يهدد الآخر بالفناء. أخيرا اجتمع براهمات وحكماء بلدتنا برعاية(اشفار) البراهمان الاكبر لبلدتنا. وظلوا يتداولون الأمر سبعة أيام وليال دون انقطاع، حتى توصلوا أخيرا إلى القرار الجماعي التالي:

((إن فصل الجنسين الإناث والذكور، في بلدتين مختلفتين أفضل حل لتخفيف الخلافات داخل العوائل، وبين بعضها البعض))..

الحجة الكبيرة التي اقتنعت بها الغالبية، أن هذه الأجواء المتوترة بسبب كارثة الجفاف، تزيد من حدة الخلافات بين الأزواج وعوائلهم. وهي بدورها تزيد من حدة التوتر السائد بين الناس وتفاقمه. بما أننا لا نستطيع حاليا التغلب على السبب الأول للمصاعب الذي هو الجفاف، دعونا نلجأ مؤقتا إلى الحل الممكن لتخفيف المواجهات، ألا وهو التفريق بين الجنسين.

وفي اليوم التالي شرع أهالينا ببناء بلدة ثانية تبعد بضعة كيلومترات في الجنوب، لتكون خاصة بجميع الإناث، أمهات وعازبات وطفلات، واطلق عليها تسمية(حواـ أباد). كذلك بنيت بلدة اخرى في الشمال خاصة بالذكور، اطلق عليها تسمية(آداما ـ أباد). اما بلدتنا الاصلية(إنسان ـ اباد) التي اصبحت في الوسط، فقد اخليت لتكون مكان التقاء الجنسين الازواج والعوائل، لنجتمع يوما واحدا في الأسبوع، ثم نعود في اليوم التالي، كل إلى بلدته.

عندما تَحْمَلُ المرأة وتنجب، إذا كان الوليد أنثى تبقى دائما مع أمها، وتلتقي أباها مرة في الأسبوع. وإذا كان ذكرا فإنه يبقى مع أمه حتى نهاية سن الرضاعة، ثم ينقل بعدها إلى بلدة الذكور ليعيش دائما مع أبيه وإخوته الذكور، ولا يلتقي أمه وأخواته إلا مرة في الأسبوع.

النساء أخذن على عاتقهن مهمة إنجاز الأعمال الحرفية للجنسين، من حياكة وخياطة ثياب وعمل السلال والأفرشة والأحذية وغيرها من الاحتياجات المعروفة. أما الرجال فقد تكفلوا بالزراعة ولواحقها من أمور الري والتنظيم والبناء. وكانت أهم الصعاب التي واجهت الذكور مشكلة الطبخ وتنظيف الدار. وهي في الحقيقة عمليا لم تكن صعبة، لكن المشكلة تكمن في المانع النفسي والأخلاقي، إذ إن رجالنا منذ آلاف الأعوام تعودوا أن يكون الطبخ والتنظيف من مهماتنا نحن النساء، ومشاركة الرجل بمثل هذه المهمات يعتبر إهانة لفحولته.

وبعد مداولات واحتجاجات وجدالات، تمكن الحكماء من إقناع الرجال بأن الطبخ والتنظيف عمل مقبول ولا يتعارض مع كرامتهم. إن الذي حسم الأمر هو براهمان بلدتنا الأكبر(اشفار)، الذي اعتزل ثلاث ليال في الغابة، كي يستشير (شيفا إله الذكورة والحكمة) في هذه المسألة العويصة. وعاد في صباح اليوم الرابع ومتاعه على ظهره. اندهش جميع ذكور القرية المجتمعين لاستقباله، عندما شاهدوا حكيمهم يخرج من كيسه (قدرا ومكنسة). في البدء ظنوا أن الإله قد عاقبه وأفقده عقله. لكنه جلس بهدوء على الأرض وشرع بالكلام:

ـ اسمعوا يا أبنائي وإخوتي، إن الهنا(شيفا) يسلم عليكم ويحييكم على قراركم بفصل الإناث عن الذكور، ويقول لكم: أنا نفسي منذ حقب طويلة، اتخذت قرارا مطابقا بخصوص زوجتي (بارفاتي) آلهة الخصب والأنوثة.

وهو يعاتبكم على إزعاجه بمثل هذه المسألة التافهة. ويقول لكم:

ـ ألا تخجلون من حالكم بالتردد بإنجاز مثل هذا العمل البسيط. فأنا بكل شموخي وفحولتي وحروبي التي لا تنتهي، أطبخ بنفسي طعامي، وكل يومين أقوم بتنظيف وكنس مقر عرشي السماوي.

لهذا فإنه بعث لكم هدية من قصره الإلهي؛ هذا القِدر، وهذه المكنسة، لتوضعا عند باب البلدة ويسجد لهما كل ذكر يمر بهما.  

                                            

فعلا مع مرور الزمن والأعوام أثبت قرار الحكماء عقلانيته، إذ خفت كثيرا الخلافات وعم السلام وساد التعاون والتفاهم بين الناس، سواء في بلدة الذكور أو في بلدة الإناث، مما سمح بالقيام بإنجازات مهمة في مشاريع الري وتنظيم الأنهار والبحيرات والمزارع، فتم التغلب على مخاطر الجفاف والفيضانات، وانتشر الأمان والرخاء.

لكن بين حين وآخر كانت تحدث بعض الاحراجات، كثيرا ما أثارت الضحك، وأحيانا الغضب والعقاب. إذ يلاحظ الرجال أن هنالك رجلا زائرا في بيت رجل آخر، على أساس أنه من أقاربه المقيمين في بلدة بعيدة. لكنهم يكتشفون فيما بعد أن هذا الزائر في الحقيقة زوجته متنكرة بهيئة رجل لكي تمضي الأيام براحتها مع زوجها وأبنائها الذكور. الأمر عينه يحصل لدينا في بلدة الإناث، إذ نكتشف زوجا أو خطيبا متنكرا بهيئة امرأة لكي يمضي الأيام مع زوجته أو خطيبته. وكانت أمي من اللواتي لجأن إلى مثل هذه الخديعة. وأنا رضيعة أخفتني في كيسها تحت الأغراض، وأخذتني وهي متنكرة بزي رجل لنمضي الأيام في بيت أبي وإخوتي. لم يحسبا أن صراخي سيفضحهما. وقد طُرِدْنَا من البلدة شر طردة، وعوقب أبي بأن يقدم كمية من المحاصيل إلى معبد البلدة.

ومع مرور الوقت بدأت الحالة تتفاقم، إذ بدأت ظاهرة ليست متوقعة تنمو وتنمو حتى أصبحت خطيرة وأدت في النهاية إلى قلب الأمور رأسا على عقب:

هنالك دائما رجال ونساء يسأمون من هذا التقليد القاسي، ويرفضون البعاد والفراق عن أحبائهم، والعيش الدائم مع أمثالهم من الجنس الواحد. ثم يقررون التمرد العلني، من خلال البقاء الدائم في بلدتنا الاصلية(إنسان ـ أباد) التي كانت قد صارت مخصصة للقاءات الأسبوعية.

طبعا كانت ردود الفعل من قبل رجال ونساء البلدتين ضد المتمردين قوية ومؤذية، فكانت تبدأ بالتهديد الشفهي، ثم النبذ من العشيرة، ثم أخيرا العقاب البدني وإجبار الأزواج المتمردين على العودة إلى بلدة كل منهما. لكن بمرور الأعوام واضطرار الكثير من الأزواج المتمردين إلى هجر الوادي كله والرحيل مع عوائلهم إلى بلدات بعيدة، بدأت تخفت حدة الرقابة والعقاب. حتى عادت بالتدريج بلدتنا الاصلية بلدة كبيرة عادية مختلطة تضم إناثا وذكورا مثل جميع بلدات الأرض.

أما البلدتان الأخريتان فقد استمرتا بتقاليد الفصل بين الجنسين، ومن يرفض هذا التقليد ما عليه إلا الانتقال إلى البلدة الوسطية المختلطة. هكذا، ودون أن يخطر ببال أحد أبدا: بلدة الذكور لم يبق فيها سوى الذكور الذين يرغبون بالذكور من أمثالهم مبقية على اسم (آدم ـ اباد)، وبلدة الإناث أيضا تحولت إلى بلدة خاصة بالنساء اللواتي يرغبن بالنساء أمثالهن، مبقية على اسم (حواء ـ اباد).

                                              

أنا مترددة بالكشف لكم عن هذه الحقيقة المخجلة التي تخص أمي وأبي. لكن الذي يشجعني أنها معروفة من قبل سكان وادينا:

إن أمي هي التي بدأت بالتمرد على أبي، وأصرت على البقاء في (حواـ اباد)، بعد أن اكتشفت ميولها المخبوءة نحو بنات جنسها. وكان أبي المسكين مولعا بها إلى حد الجنون. فكان إعلان أمي هجره صدمة مريعة كادت أن تودي بعقله وحياته. لقد تم إنقاذه في آخر لحظة بعد أن حرق بيته وهو داخله. وأخيرا قرر الرضوخ للأمر الواقع، فقام بمحاولات عديدة لتقبل الزواج بامرأة أخرى، لكن شبح أمي كان مسيطرا عليه ويمنعه من الاقتراب من أية امرأة. حتى أنا لم يعد يتحمل لقائي لأني أذكره بأمي. أخيرا وجد نفسه يفضل البقاء في بلدته الذكورية(آدما ـ اباد) ليس لأنه بميول مثلية، لكن كي يبقى بعيدا عن النساء.

أما أنا فكما ترون أعيش في (إنسان ـ اباد) مع زوجي وأطفالي، وبين حين وآخر نزور أبي في بلدته، وأمّي في بلدتها، سعداء في وادينا الأخضر الفسيح (جنّةـ اباد).

   *   *   *

بالحقيقة انا كنت منتحلا شخصية كاهن البلدة الاكبر(إيشڤار). كنت قد سكنت في البلدة مدعيا بأني حفيد احد أبنائها الذي كان قد هاجر وهو شاب وانقطعت اخباره. وقد سهّل قبولي وصعودي في الكهنوت، أن جدّي المفترض هو من سلالة (كهنة: براهمان) عريقة. هكذا تمكنت من إقناع مجمع الشيوخ بتبني تجربة الفصل بين الجنسين. لانها كانت جزءا من برنامجنا في(علم الأرض): دراسة الاختلافات والتفاعلات بين الرجال والنساء. صحيح أننا متشابهون معهم في هذا الامر، إلا ان أبناء عمومتنا، على عكسنا، يعلقون أهمية كبيرة على مسألة العلاقات بين الجنسين. بالنسبة لهم هي ليست مصدر الحياة فحسب، بل اهم مصدر للقسم الاكبر من مباهجهم وفنونهم وخيالاتهم الرومانسية والشبقية. كذلك هي السبب الاكبر لمشكلاتهم ومعاناتهم داخل الاسرة والمجتمع. في السنوات الأخيرة وتطورات التحديث اشتدت الصراعات الاجتماعية والنفسية والثقافية التي محورها العلاقات بين الجنسين، لدرجة أن بعضهم يصفها بـ(حرب بين الجنسين)! لحسن الحظ ، لقد تجاوزنا ذلك لأننا فقدنا قدرتنا على التستر والكذب، والجميع يعرف رغبات بعضنا البعض. لقد اعتدنا قبول اختلافاتنا مهما كانت ، طالما أننا لا نؤذي أنفسنا أو الآخرين.


الراهب وأنا.. وحواء!

لقد عايشت شخصيات هذه القصة عن قرب لأنني كنت راهبًا في ذلك الدير . صادقت اولا (الراهب جوڤـاني) ، ثم (الراهب بوريس). كنت قد اعتكفت هناك كي اعاين عن قرب التغييرات الروحية والنفسية التي تعتمل في دواخل الأرضيين: يعيشون دورات متعاقبة كل بضع سنوات، يكررونها، دون ان يبلغوا الرضى، لأنهم يستمرون بعلاقة تجاهلية مضطربة مع دواخلهم.غالبًا ما يلجأون إلى التدين او العزلة الروحية، عندما يواجهون صعوبات كبيرة، وتنقلب حياتهم رأسًا على عقب بسبب حدث طارئ.

أعطي الكلمة الآن الى (الراهب بوريس)...

 *   *   *

سكنت في كوخ جبلي منعزل عند أطراف قرية في جبال (ديناريك: Dinariques) الصربية. قررت هجر مدينتي(كراليفو: Kraljevo) واعتزال العالم بعد خيبتي العائلية وقراري بالافتراق عن زوجتي(إيـڤـا)، بعد أن تفاقمت في السنوات الأخيرة الحساسيات والمشكلات. اتفقنا على نوع من الإجازة بيننا لكي نمنح أنفسنا فرصة للتفكير ثم القرار بالعودة إلى الحياة المشتركة أو الطلاق. كانت تزورني بين حين وآخر كي تجلب لي ابنتي الصغيرة (ستڤلانا) التي في سن السابعة.

أثناء تجوالي اليومي في الغابة تعرفت على أحد الرهبان الذي كان تقريبا بعمري نفسه، أي في الأربعينيات. كان يشبهني في طول القامة بل وفي الملامح، إلا أنه كان يميل إلى السمرة وأنا أميل إلى الشقرة. قال إنه يقطن في دير في المنطقة يبعد عنا ساعات. لم نكن نتطرق إلى حياتنا الشخصية بل بقيت حواراتنا محصورة بالأمور الفلسفية والروحية والفنية. وأكثر ما شدني إليه سرده الجميل لحكايات الكتاب المقدس. كان مولعا بها وبخاصة حكاية طرد آدم وحواء من الجنة، وحكاية خروج السيد المسيح إلى البرية ليواجه تحديات الشيطان.

المعلومة الشخصية الوحيدة التي تبادلناها، أن اسمه (جوڤـاني) وأنا اسمي (بوريس)، وكان مثلي رساما قرر هجر الرسم مع هجره حياته السابقة. من الطبيعي انه مؤمن بالمسيحية الارثوذكسية وما يتعلق بها من روحانية وفلسفة، أما أنا فكنت متمسكا برؤيتي العلمية الإلحادية، رافضا كل ما هو ديني وروحاني. لكن هذا التناقض العقائدي لم يمنع من دوام حواراتنا، بل على العكس، أضفى عليها حماسة ممتعة.

مع مرور الأسابيع، كان من الطبيعي أن يتعرف (جوڤـاني)على زوجتي وابنتي أثناء زيارتهما لي. كان يشاركنا الشاي والحوارات حيث كانت زوجتي لا تقل عنا حماسة وبراعة فيها. فهي مغنية أوبرا ومثقفة شيوعية. وعندما سأَلَتْه عن مكان الدير، وهل يمكن زيارته، قال لها: إنه هنالك في أعالي الجبال وراء الغابات، والنساء محرم دخولهن.

لا أدري لماذا تخيلت حينها أني سأعيش ذات يوم في ذلك الدير!

كانت زوجتي تتعمد أن تجلب لي معها الصحف، على أمل التخفيف من قطيعتي العالم وربطي به. كما كانت تتعمد أن تفتح حاسوبها وتجعلني أشاهد معها مسرحيات وأفلاما. كان الراهب في المرات الأولى يرفض مشاركتنا، لكن مع مرور الوقت لاحظت أنه بدأ يطالع الصحف التي تتركها زوجتي على الطاولة. بل راح يشاركنا أيضا مشاهدة الأفلام والمسرحيات. ذات يوم مشمس كنا جالسين جميعا في الباحة أمام الكوخ، نحتسي الشاي، وإذا بي أشاهد ثعبانا مرقطا بحجم الذراع مستلقيا على بعد أمتار بين العشب المبلل يثب برأسه ويرمقنا مثل حيوان أليف. فزعت كعادتي لأني أشد ما أرتعب وأتقزز من مجرد ذكر اسم الثعبان. قفزت وتناولت حجرا لأقتله، وإذا بـ(إيـڤـا) تقفز نحوي وهي تصرخ بي وكأني سأوذي شخصا عزيزا عليها. فأمسكت يدي وهي تستغيث بي أن أهدأ وأترك الأمر لها. خجلت وتراجعت خصوصا من وجود صاحبي (جوڤـاني) وما يمكن أن يظنه بي. لا أدري ماذا فعلت (ايفا)، فقد عادت بعد حوالي نصف ساعة مبتسمة وهي ترمقني بنظرات عتب مثل أم تسخر من شقاوة ابنها.

لم أنتبه إلا فيما بعد أن راهبي كان يزورني دائما في الأيام التي تزورني فيها زوجتي وكأنه يترقب هذا الموعد، واستغربت أن (ايفا) كانت تجلب معها تفاحا، رغم أنها تعرف أني لا أحب التفاح. وكانت في كل مرة تقدم واحدة منها للراهب. وتكاثرت الحالات التي كنت أراهما فيها ينطلقان في حوارات عميقة دون الاهتمام بإشراكي، مع ممازحات شخصية وكأنهما يعرفان بعضهما منذ أعوام طويلة. بل حتى ابنتي كانت تبدي فرحا كبيرا بلقاء (جوڤـاني) وتطلب منه أن يشاركها ألعابها.

لاحظت كذلك انخفاض حماسة راهبي بالدفاع عن مسيحيته وروحانيته، بل كثيرا ما كان ينزلق ببعض التهكمات والنقد للقديسين وقصصهم. دون أن أدرك متى بالضبط بدأت الحالة، وجدت نفسي بالتدريج أدافع أنا عن الروحانيات أمام صديقي الذي لم يكف عن نقدها ودحضها متبنيا الرؤية المادية العلمية!

                    

ذات صباح شتوي معتم حيث الثلج غطى الأرض بأكثر من متر، وأنا أتصارع مع المدفأة أغذيها بالحطب كي تنشط نيرانها انتظارًا لاستقبال زوجتي وابنتي. كنت كئيبا بعد أن أمضيت ليلة مضطربة كلها كوابيس عن أفعى رقطاء تطاردني، وأبي يصرخ بي وهو يطردني من الدار، وأمي تبكي وهي تغطي وجهها الأبيض بفوطتها السوداء وتمد لي تفاحة حمراء.

فجأة انتبهت إلى (جوڤـاني) يفتح الباب داخلا وهو يخلع حذاءه وقفطانه المغطى بالثلج. دون أي كلمة أو مصافحة، جلس قبّالي عند المدفأة وراح يسخن كفيه ووجهه قرب اللهب الأزرق. كان محمرا مصفرا يرتجف بصورة مرضية ويتجنب النظر إلي، بل بقي صامتا يبحلق بالنيران ويحركها بعصاه بين حين وآخر. تركته في حاله عندما رأيت عدم حماسته للحديث. كنا وحيدين وسط صمت الطبيعة والكوخ المتقطع بهسيس لهيب وطرقعة شرارات وأنفاس مضطربة. بين حين وآخر، كنت أسمع منه همهمة مكتومة مع توقف أنفاسه كأنه يصارع قوة مجهولة في داخله تمنعه من النطق. أخيرا شرع بالكلام دون أن ينظر لي وكأنه يتحدث إلى نيران أضفى وهجها على وجهه مسحة من عذاب خرافي. بدا صوته هامسا غامضا مثل صدى قادم من بعيد:

ـ اسمع يا صاحبي بوريس، أرجوك أنصت جيدا لحكايتي هذه، وقرر بعدها ما تشاء:

قبل سبعة أعوام كنت أنا مثلك أسكن في هذا الكوخ نفسه. وكنت مثلك قررت اعتزال العالم بعد الانفصال عن زوجتي. وكانت هي أيضا تزورني لتجلب لي ابنتنا. وكنت أيضا مثلك ملحدا، وتعرفت أيضا على راهب طيب ومثقف أصبح صديقي. ومثلك عرفت الراهب على زوجتي وابنتي. وخلال فترة أشهر، ترك الراهب الدير وعاد إلى المدينة وأصبح زوجا لزوجتي وأبا لابنتي. أما أنا فقد حللت محله وأصبحت راهبا كما تراني.

صمت الراهب وبقي جامدا في وضعه. وخُيِّل لي أنه كان يهمس بآيات من سفر التكوين، التقطت منها بعض المقاطع:

(( فَنَادَى الرَّبُّ آدَمَ : أيْنَ أنْتَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ. فَقَالَ: َمنْ أعْلَمَكَ أنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ التِي أوْصَيْتُكَ أنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟ فَقَالَ آدَمُ: المَرْأَةُ التِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ. فَقَالَ الرَّبُّ لِلْمَرْأَةِ: مَا هذَا الذِي فَعَلْتِ؟ فَقَالَتِ المَرْأَةُ: الحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ. وَقَالَ الرَّبُّ: هُوَ ذَا الإنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الخَيْرَ وَالشَّرَّ. فَطَرَدَ الإنْسَانَ من الجنة إلى الأرض، لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الحَيَاةِ...))

لم أشعر في حياتي كلها براحة مثلما شعرت حينها. أغمضت عيني وأنا أشاهد أبواب السماوات مفتوحة كلها باستقبالي. وأن الملائكة تنشد مرحبة بي. أنفاسي هسيس نيران، ونبضاتي طرقعة شرارات.

دون أن ننطق كلمة واحدة، وجدت نفسي أقف وأخلع سترتي وبلوزي، و(جوڤـاني) مثلي أيضا يقف ويخلع عنه قفطانه وجلبابه الكنسي. أناوله ثيابي وخاتم زواجي ويناولني ثيابه وعصاه. يرتدي هو سترتي وبلوزي ويجلس مكاني بانتظار زوجتي وابنتي. أما أنا فأرتدي ثيابه وأتناول عصاه وأصعد متوغلا في الغابات، بحثا عن (دير) لا أعرف عنوانه ولا دروبه، لكني على يقين أنه هناك وراء الغابات في ذرى الجبال، أبوابه مفتوحة وقلوب رهبانه تنبض بـ (أبانا الذي في السماوات..). في أحضان الرب سأقيم، بانتظار رجل هارب من المدينة، يمنحني عائلته وأمنحه ديري.

 *   *   *

اعلموا ان (الثعبان) هو حيوان غريب لا وجود له في كوكبنا. في مخيالهم له معان نفسية واسطورية طريفة. فمن ناحية هو سام وخطر ولدغته قد تكون قاتلة، لكن من ناحية اخرى، هيئته تمس مشاعر الرجال والنساء في آن واحد: تكوينه الطولاني يوحي بالعضو الجنسي الذكري، اما تموجاته المثيرة فتشبه تمايلات الجسد الأنثوي!

قد تستغربون بأن اخوتنا الأرضيين ما زالوا مثل اسلافنا يعانون من خطر بعض الحيوانات السامة والمفترسة. لا تنسوا بأننا فقط في عصر الصفاء، تعلّمنا التواصل والتصالح مع الحيوانات بما فيها الحشرات والمكروبات.

 


يوم ظهر الرب!

ان الأرضيين مثلنا يعانون من هذا السؤال الابدي: ( ما هو سرّ الوجود، ومن هو خالقه؟!) لأنه متعلق مباشرة بإشكالية: (من هو الانسان وما هو مصيره؟). جميع الاديان والفلسفات تبدأ بمحاولة حلّ هذه المعضلة. نحن بفضل السلام الداخلي الذي ساد نفوسنا ومجتمعاتنا، لم يعد هذا السؤال يُشكّل مشجبا نعلق عليه مصاعب حياتنا وصراعاتنا ومخاوفنا من الحاضر والمستقبل. لم يبق منه غير جانبه الفكري العقلي، مثل اية معضلة رياضية لا تمس عواطفنا وحياتنا .

 *   *   *

ذات صباح، بينما كان صديقي(جابريل) منشغلا بترجماته، فتحتُ حاسوبي لمعاينة البريد. فجأة اختفت صفحتي من الشاشة وحلت محلها صورة غريبة غير واضحة. وكالعادة، قلت: إنه خطأ تقني أو دعاية إقتحامية. باءت محاولتي بالعودة إلى صفحتي بالفشل، فأطفأته لما بلغ بي الغضب مداه، لكنه لم يستجب. كانت الصورة نفسها ثابتة على الشاشة: وجه مرسوم بخطوط من نور على السماء. توهجه المتموج يجعل من الصعب تحديد ملامحه؛ أأنثى أم ذكر؟ أطفل أم كبير؟ من أي جنس وعرق؟!

لم أهتم كثيرا بالضجيج الذي أسمعه حولي داخل العمارة وفي حارتي (بارتي:Parti) الهادئة المجاورة لـ(الڤـاتكان): أصوات بشرية في هيجان.

فجأة رن الهاتف، وقد سجل اسم جارتي (كلاوديا) وقبل أن أضع السماعة على أذني، سمعتها تصرخ:

ـ لوريتا.. هل رأيت.. هل رأيت.. افتحي النافذة وانظري؟!

   فتحت النافذة، وإذا بالحديقة التي تتوسط العمارات، ولأول مرة يحصل هذا، مليئة بالعشرات من أهل الحارة، نساء ورجال وأطفال، يحدقون إلى السماء مهتاجين يتصارخون بأصوات مزيجة بين اندهاش ورعب وسخرية. بعضهم ينبطح على الأرض خشوعا، هللويا.. هللويا، وبعضهم يتقافز، وبعضهم صامت.

حينها نظرت مثلهم إلى السماء، وإذا بي أشاهد ما لم أتخيله إلا في بعض أحلامي الكبرى:

الصورة نفسها المتوهجة التي على شاشة حاسوبي تملأ صفحة السماء بحجم يفوق حجم الشمس مئات المرات، بحيث إنها تغطي السماء كلها. وجه نوراني تطوف حوله ملايين الطيور التي كانت تتكاثر مع استمرار صعودها من الأرض. بالتدريج تبين أن هذه الطيور، رغم أجنحتها، بشر يشبهون كثيرا صور الملائكة المتداولة في الرسوم الدينية.

فركت عيني ولمست رأسي كي أتأكد أني لم أكن أحلم. في هذه اللحظة ارتجفت من لمسة مفاجئة على كتفي، وحين التفت رأيت وجه صديقي(جابريل) يشع بابتسامة ونظرات خلابة لم أعهدها من قبل. وقبل أن أكلمه وضع إصبعه على فمي، وهو ينطق بصوت ساحر:

ـ عذرا يا حبيبتي، لا تقلقي سأعود إليك يقينا، وتفهمين الحقيقة..

وإذا به يزيحني بحنان عن النافذة ويخفق بجناحيه ويطير. نعم، لديه جناحان لم أعرفهما من قبل! جحظت عيناي إلى حد الحرقة ورحت أضرب رأسي بجنون وأنا أشاهده يعلو ويعلو حتى اختفى بين الملايين من الكائنات الطائرة التي تطوف حول ذلك الوجه النوراني في السماء!

فجأة تحرك شيء ما في ذلك الوجه النوراني، يفترض أنه فمه وعطس برقة أطفال، فانتشر في الكون رذاذ من نجوم لامعة رغم ضوء النهار. ونطق:

ـ عذرا يا أطفالي، فأنا لم أعتد جوكم هذا الذي يختلف عن جو سمائي السابعة.

ثم استمر بصوت عجيب، مزيج ضاحك وعطوف من أنوثة وذكورة وطفولة، لا تسمعه بأذنيك بل تحسه يأتي من داخلك كأنك أنت الذي تتحدث مع نفسك:

     هذا أنا الرب.. نعم يا أطفالي الحلوين، ها أنا أظهر لكم، للمرة الأولى والأخيرة، لأني مللت شكوى مؤمنيكم من حجة ملحديكم التي تدفعني أحيانا إلى الأسف لأني خلقتكم:

(( لو أن الرب موجود حقا، فلم لا يظهر لنا ويفضّ الجدال والشك الحاصل بيننا منذ حقب وحقب)).

والآن أقول لكم: ها أنا موجود وحولي ملائكتي، شاهدوني واسمعوني.

أنا ربكم وفضلتكم على جميع مخلوقاتي ومنحتكم خير ما تتمتع به جميع الأحياء، من جمال وإدراك وخيال. جعلتكم وسطا بين الحيوان والملاك. مقياس سموكم وسفليتكم بمدى سلطان المحبة وحسّ الجمال في قلوبكم. أطمئنكم بأنكم جميعا تمتلكون ذات نفحة المحبة الجمال، لأنها نفحة من روحي أنا الخالق الجليل، التي تهبط إلى أرحام الأمهات وتتكون حولها الأبدان. خلقتكم لأختبركم، فنفحتي الإلهية هذه في صراع مع نفحة الشيطان التي تدخل في نفوسكم وعقولكم مع نموكم في الحياة، لتغويكم عبر الأمزجة والشهوات وأوهام التفوق والتحاسد والاستحواذ.

جميع الأنبياء والمصلحين الذين بعثتهم لكم كانوا صادقين. وقد تنوعت تعاليمهم بحسب الأزمان والأقوام.    

لكن يا مخلوقاتي السامية، قد أصبحتم الآن بما يكفي من النضج والإدراك كي تتحرروا من جميع هذه المواريث المقدسة. وها أنا أقول لكم بالحرف الواحد وبصورة لا تقبل أي خلاف أو تفسير:

جميع الأديان وتعاليمها أصبحت ملغاة وفقدت قيمتها. وأنتم أحرار لتتقيدوا بطقوسها، لكنها لم تعد تمثلني أبدا.

أنتم الآن بما يكفي من النضج والذكاء كي أختصر لكم جميع وصاياي بهاتين الكلمتين:

(المحبة والجمال) وكلاهما جوهرهما : التناغم والانسجام.. المحبة، تناغم النفوس.. والجمال، تناغم الاشياء..

كلما نمت في قلب الإنسان روح المحبة، تمكن من تمييز الحق من الباطل. وكلما نما فيه حسّ الجمال، تمكن من تمييز الجميل من القبيح.

نعم يا أطفالي، هذا هو ديني ودستوري ومبادئي وتعاليمي، اختصرتها لكم كي أجنبكم الانقسام إلى طوائف وجماعات تتخاصم على التفسيرات، وكل منها تعتبر نفسها هي الناطقة بآياتي لتبرر تكفير المختلفين ومحاربتهم.

لكني أعرفكم يا صغاري المشاكسين، ستظلون كما أنتم، ضعفكم في قوتكم. بعضكم يعلو بنفسه وعقله نحو أنوار المحبة والجمال تساميا نحو ملكوت السماء، وبعضكم يهبط بنفسه وعقله نحو غوايات التفوق والجشع انحدارا نحو قيعان الشيطان.

                                              

   هكذا استمر ظهور الرب لمدة يوم كامل. وكان يقطع خطابه بضحكات خفيفة وديعة. وفي الدقائق الأخيرة بدأ يتثاءب، وهو يقول:

ـ لقد أتعبتموني يا أعزائي. أعتمد عليكم. ها هي وصاياي مختصرة وواضحة ومترجمة بجميع لغاتكم. تجدونها منشورة نصا في حواسيبكم وفي جميع مواقع التواصل الاجتماعي، ومصورة فيديو في اليوتيوب. فإياكم أن تستمروا كما عهدتكم بالاختلاف والتنابز. كونوا عقالا يا أطفالي.. وهذه آخر وصاياي لكم..

وارتسمت ابتسامة واسعة كشفت عما يفترض أنها أسنانه التي تشبه شموسا وأقمارا.

وكان آخر مشهد له وهو يودعنا بكلمة أخيرة:

ـ بوسة..

ولوى فمه ونفخ بوسته الضاحكة، فهبت علينا بعض من روحه، فأحسسناها نسمة رطبة منعشة بثت خدرا لذيذا في البشرية جمعاء، بحيث إننا نمنا في أماكننا أينما كنا.

لا أحدثكم عن تأثير هذا الظهور الإلهي على البشرية، فقد حصلت تحولات عجيبة على الإنسانية لم تخطر على بال أبدا. وأولها أن جميع وسائل الاتصال من هواتف وحاسوبات أصابها العطل لأيام عدة، ليس بسبب الرب، بل بسبب الزخم الهائل من مليارات الاتصالات المفاجئة التي حصلت بين سكان الأرض. انتشرت المظاهرات التلقائية المليونية في جميع مدن الأرض تهتف باسم الرب وبجميع اللغات. عم الهدوء العالم وتوقفت الحروب والمؤامرات، وفتحت الحدود، والتغت العنصرية والأحقاد ومشاهد الخلاعة والفساد من وسائل الإعلام. قررت هوليود تحريم جميع أفلام العنف والخلاعة، وإنتاج أفلام تدعو إلى السلام والروحانية والتضامن الإنساني. بمبادرة من الرئيس الأمريكي مدعوما بالكونغرس، اتفق على عقد اجتماع للدول الصناعية الكبرى من أجل الإلغاء التدريجي لمصانع الأسلحة وتحويلها إلى مصانع ومراكز لإنتاج المواد والتكنولوجيا التي تخدم الطبيعة والسلام وتساعد على تقليل التلوث والتصحر. وأعلنت لجنة عالمية تشكلت في باريس عن إلغاء (مسابقة ملكة جمال العالم) لتحل محلها (مسابقة ملكة روحانية العالم) أي الفتاة الأكثر طيبة ورقة وروحانية في شكلها وحياتها.

وسادت موضة الثياب الحاملة صورة الرب مع عبارة: (المحبة والجمال) و(بوسة). بل هنالك الكثيرون من المغنين والمغنيات راحوا يقلدون صوت المزيج الضاحك من الأنوثة والذكورة والطفولة. والكثير من المؤسسات حملت علامة تجارية لها علاقة ما بصورة الرب المتوهجة. وأخذت الأحزاب تتنافس لجعل عقائدها وبرامجها تتلاءم مع الوصايا الربانية، وكل منها يعتبر نفسه هو الأمثل.

وانتشرت في العالم ظاهرة غريبة لم يتوقعها أحد، بدأها زعيم أوربي في خطاب عادي أمام البرلمان وشاشات التلفزيون، وإذا به يتوقف فجأة ويرتبك ثم يجهش ببكاء مرّ ويرتجل خطابا مؤثرا يقطعه بكحات وتمخطات وهلولويا، وهو يفضح ما ارتكبته حكومته من خطايا وخدع ومؤامرات داخلية وخارجية لم يعد يتحمل وزرها بعدما اهتدى إلى الحقيقة الإلهية، وأنه قرر الاعتزال والاعتكاف في كوخ جبلي. على إثرها، في أنحاء العالم، بادر الكثير من الزعماء وكبار المسؤولين والإعلاميين وأصحاب المشاريع، المتقاعدين والعاملين، إلى تقديم الاعتذارات العلنية لأنهم ساهموا بجرائم ومؤامرات سرية. ومن بين أكثر الحالات طرافة، عندما قام زعيم عربي معروف بتقواه الدينية، بقطع خطابه المتلفز وشرع بالضحك والغناء وهز الكتف والأرداف. وبرر فعلته بأنه الآن فقط يتجرأ على التنفيس عن رغباته المكبوتة هذه منذ طفولته، بعد أن أدرك أنها لم تعد محرمة من قبل الرب. صار من الطبيعي في أنحاء العالم أن تبدأ الخطابات السياسية والثقافية وحتى الشخصية، بعبارة: (المحبة والجمال)، وختامها بـ (كونوا عقالا يا أطفالي) و(بوسة). الكثير من الزعماء عندما يلقون خطبهم يظهرون في الشاشات بوجوه مضاءة وتطوف حولهم فتيات وفتيان بأجنحة ملائكية. بل إن بعضهم، تشبها بالرب، كان يبدأ خطابه بعطسة رقيقة، ويتخللها ضحك خفيف، ثم يختتمه بتثاؤب مصطنع.

     تكاثرت مشاريع الإعمار والإحسان، وهبطت الأسعار وازدادت الأجور عشرات الأضعاف. من شبه المستحيل أن تجد بغيا حتى لو دفعت الآلاف، أو تتعرض للسرقة حتى لو تركت بيتك مفتوحا وحقائبك في الشارع. صار من الطبيعي أن تجد المسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي، يصلون في الجامع، والمسلم يحضر قداس الأحد في الكنيسة وصلاة السبت في الكنيس اليهودي وفي المعابد الهندوسية والبوذية. أمر البابا بتخصيص قاعات صلاة في الفاتيكان لجميع الأديان، وحصل الأمر نفسه في المراكز المقدسة الإسلامية والبوذية والهندوسية واليهودية وغيرها، تحت رعاية الأمم المتحدة شرع المفكرون ورجال الدين من مختلف الطوائف في أنحاء العالم يتبارون لتقديم المشاريع لتسهيل عملية إلغاء جميع كتب اللاهوت والفكر وجعلها فقط بقيمة تراثية أدبية، وخلق دين عالمي واحد، بسيط ومباشر مصدره الوحيد هو صفحة النداء الإلهي وتعاليمه القائمة على المحبة والجمال. ويكون هذا الدين الجديد أساس قيام دولة اتحادية عالمية. وقد تنافست لندن وموسكو ونيويورك وطوكيو والكويت والخرطوم، على أن تكون مركزا لهذا الدين الإنساني الجديد. وهكذا دواليك من التحولات والمشاريع العجيبة الغريبة التي لا يتسع المجال لذكرها.

                                          

لكن للأسف كل هذه التحولات الثورية الإيجابية والجمالية التي عمت الأرض، لم تدم سوى أسابيع. وبالتدريج بدأت أصوات خافتة محتجة ومشككة ترتفع هنا وهناك:

هل كان هذا الظهور حقيقيا أم لعبة مفبركة قامت بها جهة ما، دينية أو سياسية، لغايات معينة؟! بل لعلها قوى من كوكب آخر تهيئ للسيطرة على كوكبنا؟! أو أنها مجرد مزحة من قبل فرد أو جماعة تتقن أسرار الأجهزة الإلكترونية ونجحت بتدبير هذه اللعبة؟!

بعد أقل من شهرين، بدأت، ولأول مرة في التاريخ، تظهر بيانات مشتركة بين قادة جميع الأديان المعروفة، ومعهم قادة الجماعات والأحزاب الملحدة، الذين تضرروا والتغوا بسبب هذه الدعوة الربانية التوحيدية الجديدة. راحوا ينشطون بمختلف الوسائل من أجل إقناع الجماهير بعدم تصديق هذه الدعوة الربانية الخطيرة. بل بلغ بهم الاتفاق أنهم كانوا يشاركون في صلوات واجتماعات بعضهم البعض لإظهار كثرة عددهم.

وخلال بضعة أشهر، عادت الأمور في أنحاء الأرض كما كانت من قبل. ألغت الدول قراراتها التاريخية. واعتذر الزعماء عن اعتذاراتهم السابقة. وعتقت الثياب التي تحمل صورة الرب. وعادت الأديان والطوائف كما كانت من قبل. وانعزلت الجماعات التي أصرت على حقيقة الظهور الرباني، لتكون مثل باقي الجماعات الروحانية والتصوفية، وأطلقوا على أنفسهم (أهل المحبة والجمال). لكنهم انقسموا إلى طوائف عدة متنافسة، أكبرهما طائفتا (أهل العطسة) و(أهل البوسة).

                                      

انتظرت طويلاً عودة (جابريل). لكي اصبر واتناسى غيابه، انشغلت بحماسة في المشاريع الرائدة التي أعقبت ظهور الرب. الآن بعد أن انتهى كل شيء ، رحت أعيش يومي مرة أخرى في كآبة وخيبة أمل، منكبة على عملي أمام شاشتي. ذات يوم، اعتقد اني غفوت دون ان ادري اثناء فرزي الايمليات، فجأة شعرت بوجود (جابريل) بجواري. سألته وانا نصف مغمضة إذا كان قد طار حقًا إلى سماء الرب، وما إذا كان الرب قد ظهر حقيقة. لم يجبني، بل ابتسم فقط، وهو يداعبني بجناحيه.

*   *   *

كما تخمنون، نحن وراء هذه التجربة، وهي الأكثر تعقيدا تقنيا التي قمنا بتنظيمها على الأرض. بالمناسبة، (جابرييل) هو أحد رفاقنا في البعثة. اليوم هو و(لوريتا) متزوجان ولديهما طفلان. طبعا قد عانى مثل ابي من الطرد والمنع من العودة الى (سيلام). بمعونته اصبحت صديقا لهما، وجعلت زوجته تسرد لي هذه التجربة كما عاشتها هي.

كان الأمر يتعلق بدراسة حقيقة الايمان بالاله بين الأرضيين. الكثيرون منهم وخصوصا في المجتمعات المتفوقة يدّعون بعدم إعطاء أهمية كبيرة للدين الى حد أنهم ينكرون بشكل قاطع وجود إله. أظهرت لنا هذه التجربة أن موضوع الايمان يبقى حاضرا فعالا في حياتهم في جميع أبعاده: روحيا ونفسيا واجتماعيا وسياسيا.

 

المرأة الارض!

 

التقيت (كاميلو) ، وهو فلاح من هنود امريكا الجنوبية، عندما كنت أعمل طبيبا في منظمة دولية في منطقة (تشوكو) في (كولومبيا). كان يعيش في قرية نائية وسط غابة على مرتفع يطل على المحيط الاطلسي. كلما زرتهم لرعاية زوجته أو أحد أبنائه الستة، كان يقدم لي الضيافة والمبيت في منزله الخشبي المتواضع. بعد العشاء، يكون قد دعا ابناء القرية لنمضي الليل باحتساء الشوكلا ومضغ أوراق الكوكا وسرد الحكايا. خلال إحدى هذه الأمسيات ، بعد العزف على المزمار، ظل صامتًا فترة طويلة، ثم انطلق فجأة في سرد احدى حكاياته. كانت عيناه مفتوحتين عميقتين، لكنه كما لو كان غارقًا في ذاته، يعيش ، جسدًا وروحًا فصلا لا ينسى من شبابه.

 *   *   *

انا فلاح ورثت ارضي من ابي. ذات يوم اتتني امي بصحبة امرأة شابة، وقالت: ـ قم يا ابني، هذه زوجة لك، احرثها وازرعها لتثمر لك نسلك.

ـ كيف يا امي؟

ـ لا تسألني أنا، هي التي تعلمك..

وتركتني وحيدا معها.

واذا بالمرأة ترقد على الأرض بين النبت والماء، وتجذبني لأرقد جنبها، ثم تمد كفها الى اسفلي وتهمس بغنج:

ـ هذا معولك يا زوجي، هيا احرثني به وازرع فيّ بذرتك.

لا ادري ماذا حصل؟! فجأة أندلع في كياني لهيب أفقدني عقلي، فأرتميت عليها و.. ورحت احرث.. واحرث.. واحرث..

منذ تلك الساعة، امضي ليلي ونهاري وانا احرث ارضي الجديدة. نسيت مزرعتي وبيتي واهلي وقريتي، وانا احرث واحرث..

لم اعرف لها اسما، فناديتها: يا أرضي..

أذا بها تغضب وتبكي وتنطوي على نفسها وترفض ان احرثها.

شعرت بحزن لم اعرفه من قبل. وكلما حاولت لمسها جفلت وابتعدت وهي تبكي.

هكذا بقيت اياما على حالها، وانا احوم مثل ثور هائج مربوط بها. تارة اهملها، وتارة اتذلل لها، وتارة اغضب واشتمها. اخيرا فقدت اعصابي ورحت اصرخ واصرخ واضرب الحيطان والاشجار واتمرغ بالمياه والاطيان.

اذا بها تقترب مني وتمسد رأسي وتقبلني من عيوني، ولا ادري كيف لاول مرة وجدت نفسي ابكي بين احضانها. فهمست بأذني ضاحكة:

ـ أرأيت الآن يا رجلي، انا اعظم من أية ارض؟

أنا امرأة..

في رحمي جذورك، ومن لبني حياتك..

حرثي نعيمك، وخصبي نسلك..

ايامي مواسم، ومزاجي أعراس ومآتم

حناني بساتين، وحزني بواد

كرمي ربيع، وتمنعي صقيع

جبروتي ضعفي، وسلاحي نواحي

إن تشدني من شعري، فسأشدك من قلبك

أنت حاكمي في المكشوف، وأنا سيدتك في المستور

إن تحمني من الرجال، فأنا أحمك من نفسك

بمديحي اسمو بك ملكا، وبجفائي انحدر بك عبدا

نعم يا رجلي انا امرأة.. ارحب من ارض واعمق من بحر..

انا فضاء، كلما عرفتني جهلتني..

   *   *   *

كما رأيتم هنالك تشابه كبير في طبيعة المرأة والرجل، بين مجتمعنا وهذا المجتمع الريفي. نعم نحن اختلفنا عن الأرضيين في امور جوهرية كثيرة، لكن الامور الطبيعية الغريزية ما زالت كما هي. طبيعة نسائهم، في جوهرها لا تختلف عن طبيعة نسائنا. كذلك حال رجالنا ورجالهم. لان الخصوصيات البيولجية والوظيفية، من حمل وانجاب وارضاع وتكوينات هرمونية وعصبية وعضلية، لم تتغير رغم تغير الثقافات والعلاقات. لكن اخوتنا هناك ما زالوا مثل اسلافنا: نساؤهم يمتلكن تلك الجاذبية الانثوية والعواطف الامومية التي تسحر اعظم الرجال وتسيطر عليهم. ولا زال الرجال امام هذه القدرات النفسية للمرأة التي تسيطر على عقولهم وقلوبهم وحتى كرامتهم بل ربما حياتهم، أما ان يقبلوا بها ويتعايشوا معها، أو في حالة معاناتهم منها، فان سلاحهم الوحيد الذي يميزهم على النساء، هي عضلاتهم وقوانينهم، حيث العنف وحتى الاغتصاب. من خلال اطلاعي على دواخلهم، كم رثيت حال المساكين رجالهم إذ يجهدون لاعطاء صورة خارجية مكبرة عن فحولتهم وسيطرتهم على نسائهم، بينما الحقيقة، انهم حتى في المجتمعات الاكثر محافظة وانغلاقا، يخضعون مباشرة او غير مباشرة لسطوة عواطفهن الامومية وحيلهن الاغرائية. وفي الوقت نفسه يرددون مقولتهم الشهيرة: وراء كل عظيم امرأة... متناسين اتمامها بـ: وراء كل تعيس امرأة..

 

 النسر والحمامة!

(إمانوئيل) من سرد علي هذه التجربة. هو مهندس معماري شاب مرهف الحس ويحلم بمدينة فاضلة حيطانها من زجاج وتسودها شفافية وثقة. عانى كثيرا من حساسيته وعدم فهم الآخرين له. عزلته في الغابة جعلته يعيد التواصل مع الطبيعة ومع ذاته الحقيقية. ان (النسر) يشبه حيوان (نيسرا: NISRA) عندنا لكن لديه اجنحة، متوحش وصعب الالفة، ومشهور لديهم بقنص الطيور وباقي الحيوانات. اما الحمامة فانها تماما مثل طير(ياماما:YAMAMA) عندنا ولها المعنى نفسه كرمز للسلام.

*   *   *

الأرواح حمائم، قلوبنا أعشاشها.

   هكذا إذن قد مضى عامان دون أن أنتبه، وأنا معتكف في كوخي في أعالي الجبال. عزمت أول الأمر أن أقضي بضعة أيام أقرر خلالها مصيري بين مختلف الاحتمالات: الرحيل إلى المجهول أو البقاء بحياة مختلفة. كنت بحاجة إلى الابتعاد عن لهيب أزمتي التي كادت أن تدفعني للانتحار. غريب كيف تأتي الهزائم، كذلك الانتصارات، بصورة متتالية: طردوني من عملي كمعماري في مؤسسة عالمية في (جنيف)، بعد شجاري مع مديري. زوجتي فارقتني ونجحت في حرماني من حق رعاية ابنتي. حتى أصدقائي قد تبخروا.

من حسن الحظ أن صديقًا فنانًا أقرضني هذا الكوخ، الذي يعتزل فيه بين حين وآخر. كوخ خشبي بدائي بلا كهرباء ولا ماء، مخبوء وسط غابة في إحدى قمم (الألب) المطلة على بحيرة (ليمان) حيث (جنيف) بنافورة شموخها الفوارة، تجهد بلا كلل لبلوغ أقاصي السماء.

عندما أتيت لم أفكر بخيار الاعتكاف والعزلة، فلم أجلب معي سوى بعض المعلبات. حتى هاتفي تركته في بيتي. بقيت أؤجل عودتي يوما بعد آخر، وعندما نضب الطعام، أصبح سؤال العودة أو البقاء حاسمًا. كنت أخشى العودة إلى مدينتي لئلا أعود إلى حياتي السابقة التي أتعبتني. أصبحت مقتنعًا أن الحضارة خداعة خلابة مثل امرأة ساحرة مغرية تتلذذ بإثارتك ودفعك كي تلهث وراءها بلا طائل.

أفتح ذراعي لتستحيلا إلى جناحين عظيمين أخفق بهما محلقا في الفضاء محتضنا مدينتي المثيرة، وهي تتلألأ تحت الشمس مثل ملكة كونية وبحيرتها منبع خصبها.

   غابة كوخي لا يطؤها حتى حراس الغابات، فرغم إطلالتها على البحيرة إلا أنها من ناحية الجبل محجوبة بصخرة كبيرة، والدرب إليها لا يدركه إلا القليلون. جهدت أن أعيش في تناغم مع الطبيعة مهما كانت مصاعبها. وجدت في الكوخ مكتبة صغيرة جميع كتبها حول فن الرسم. أنا لست رساما لكن مهنتي كمعماري تتعلق مباشرة بالرسم والفنون المرئية. لحسن الحظ بينها كتابان عن كيفية العيش في الجبال وماهية الحيوانات والنباتات البرية. تعلمت أن أصطاد بالحجارة والسكين والفخاخ الطيور والسناجب والخنازير الوحشية والثعالب والوعول وغيرها، وأجمع الكمأ والثمار البرية. بل صنعت من جلود الحيوانات ثيابا وأغطية. أتدفأ بحطب أجمعه، وأستخدم مياه الأمطار والسواقي صيفًا، وفي الشتاء أذيب الثلج.

هكذا رحت أمضي حياتي في انقطاع مطلق عن المجتمع. أنا المعماري (إمانوئيل)، أسلافي قسس وتجار وصانعو ساعات. خلال قرون وقرون عمروا هذه السفوح والجبال بقرى ومدن تحميها قوانين وتغذيها مصارف وتسيرها ساعات أدق من الكواكب. ها أنا حفيدهم أحطم ألواحهم وأهجر حضارتهم لأعيش تمردي وحيدًا.

كم أحس بشموخ وسط قمم الألب، فوقي "الجبل الأبيض" أعلى قمم أوربا، وأمامي "بحيرة ليمان" أكبر بحيرات أوربا، و(جنيف) مأوى أغنياء العالم ومقر الأمم المتحدة بعد نيويورك، وتحيطني أعظم أمم أوربا : سويسرا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا.

الشمس تتلألأ فوق غابتي، بينما تحتي سفوح محجوبة في بحر من الغيوم، مثل حضارة الأطلنطى التي ابتلعها البحر. كم من بنايات وصروح ساهمت بتشييدها. أعشق الجدران الزجاجية، لأني أحلم بمدينة فاضلة شفافة مكشوفة، بلا موانع ولا أسرار، بلا أبواب ولا أقفال، تضيئها شمس ثقة ومحبة.

ها أنا أمارس حريتي باقصى ما استطيع. أنتفض مثل وليد لحظة ميلاده، وطير لحظة انطلاقه. ألتهم الطبيعة وأحتضن الأرض مفتشا فيها عن أمومة أتوق إليها. أقفز إلى السماء مطلقا صرخات وحشية؛ لتتفجر براكين غضب ظلت مكبوتة منذ طفولتي، بل منذ أيام خلقتي.

حين أشعر ببرد وجوع، أرمق بتحد نيران موقدي إذ تبدو مثل أنثى صعبة المنال. فأتعرى وأخرج مرتميا على الثلج وأصرخ مهتاجا لأقتنص أول حيوان أنهشه حيا بين أسناني وأتدفأ بدمه.

عثرت بين منعرجات الجبل على كهف بعمق بضعة أمتار ،أدخله منحنيا. وجدت فيه بقايا حطب وعظام حيوانية وبشرية ورسوم على الجدار بخطوط حمراء بالكاد تبين. بين الأحجار والأتربة ظهرت آثار تعود لمختلف الحقب، البدائية والرومانية والمسيحية، حتى قرننا الحالي. لعل موقعه الخفي جعله على مر التاريخ ملجأ للهاربين. أحس فيه بدفء وطمأنينة. صار معبدي ومأوى تأملي. أوقد فيه نيرانًا يتراقص لهيبها في العتمة، وعبر الفتحة تشرق سماء وبحيرة بزرقة وضاحة، فأتكور جنينا على نفسي.

في ذلك اليوم، قبل ساعات من لقائي العجيب بـ (ماريما)، عشت تجربة غريبة لم أفهم معناها. الربيع بدأ يحل بهدوء مترددا كعادته بين أيام صيفية مشمسة وأيام عاصفة ثلجية. أسير في الغابة متصيدًا، متوكأ على عصاي وحول خصري خنجري.                                 

كنت مأخوذًا بكتاب وجدته صدفة قبل أيام منسيا تحت السرير، عنوانه (الحمائم في الفن والمعتقدات)، ويضم نصوصا عن الحمائم في الأديان والأساطير، مع مئات من صور الطيور في نصب الحضارات ولوحات فنانين. كم شغفت بهذا الكتاب. ليل نهار أتمعن في يماماته وأمسدها بيدي وأنا أرتل أشعارا وآيات تمجدها. (قابيل) بعد أن قتل أخاه هابيل، ظل يحمله على ظهره، حتى اكتشف الدفن من مرأى طير يدفن أخاه الطير الميت. (سميراميس) ملكة نينوى كانت حمامة. (النبي نوح) أدرك نهاية الطوفان بعد أن جلبت له حمامة غصن زيتون. (الملك سليمان) كان يعرف لغة الطير ويستشيرها. (يوحنا المعمدان) انشقت السماء فوقه، لتهبط عليه الروح القدس بهيئة حمامة. (المسيح) يطلب من تلاميذه أن يكونوا بسطاء مثل حمامة. (النبي محمد) أنقذته حمامة نسجت عشها عند باب غار مختبئ فيه. وفي العصر الحديث صارت الحمامة رمزا للسلام. هكذا في مختلف المعتقدات ظلت الحمامة رمزًا لروح قدس وأنوثة وملاكً رحمة ومحبة.

   كان نهارا ضبابيا تتخلله بين حين وآخر إشعاعات شمس تخترق الأغصان، لترسم ظلال أشباح وكائنات خرافية. رحت أجمع الكمأ، فهذا موسم ظهوره، وأنا أمزمز به. أحسست بخدر في جسمي وغشاوة أمام عيني. أدركت متاخرا أني قد قضمت سهوا كمأة مخدرة. حاولت أن أجبر نفسي على التقيؤ، فلم أستطع. قررت أن أركض مسرعا إلى كوخي، كي لا أفقد وعيي في الأحراش. لكن قواي بدأت تخونني. رحت أركض وأركض مخدرًا متعثرا بين أشجار الغابة التي أصبحت أكثر كثافة، وتأتيني أصواتها مثل قرع طبول وصرخات افتراس. أنتبه الى أني قريب من مغارتي. بالكاد أتمكن من ولوجها قبل أن أنهار. أتكئ على الجدار وعيناي متمسكتان بالفتحة لأستمد بعض القوة من أنوار السماء والبحيرة. من بعيد تلوح حمامة قادمة من أعماق السماء. دون تردد تدخل وتحوم حولي. ريح خفقانها تهب على وجهي أنساما منعشة. تحط على صدري وهي تتقافز بخفة على بدني، فأحس بمخالبها تنغزني دون ألم بل بنوع من لذّة. تستقر على قلبي كأنها تريد تهدئتي وتخفيف نبضاتي المتوترة. بالتدريج يتبدد الإجهاد والفقدان وتسري الحياة وتهدأ أنفاسي وتهبط حمتي. تظل تحدق بي وهي تخفق وتتقافز كأنها تناديني مرحبة. أراها متوهجة بريش أبيض حليبي، وعيناها تعكسان خضرة غابة وزرقة سماء.

أفكر.. ربما هي عاجزة عن الطيران وتعاني من وجع ما، وتود أن أساعدها. أحتضنها بكفي الاثنتين برقة وخشوع متذكرا يوم كنت أحتضن ابنتي خلال الأيام الأولى بعد ولادتها. عيناها ترمقانني ببهجة ومحبة كأنها تعرفني وسعيدة بلقائي. أقربها من وجهي وصدري وأحتضنها ككائن عزيز أنتظره طيلة حياتي. أضعها على صدري عسى أن أمنحها حياة من نبضات قلبي.

حينها فقط أدرك مدى حرماني من أي حنان إنساني. أحتضنها بحنو أكثر وأكثر، عندما أضعها أمام وجهي وأفتح كفي كي أناجيها وأشكو لها هول وحشتي، تخفق بجناحيها وتحلق فوقي. تحوم وتدور كأنها تريد إفهامي رسالة ما. تخرج من الفتحة وتغيب في أعماق الفضاء.

أجلس وأحتضن الصخرة وأنا أبكي مثل طفل، شاكيا وحشة الحياة. أين أنت يا أمي؟ أين أنت.. أختي.. زوجتي.. ابنتي.. حبيباتي.. أينك يا حمامتي. هذه المرة الأولى منذ بدء عزلتي أحس بهذه الوحشة وهذا التوق العارم لحنان وسلام مع الحياة.

   أغادر مغارتي عائدا إلى كوخي قبل عتمة المساء. أسمع أصوات أقدام تحرك أحراش الغابة حولي. فجأة تظهر امرأة قادمة نحوي تنظرني بابتسامة واثقة. دون شعور أبادلها الابتسامة وأخاطبها:

ـ مساء الخير مدام..

تجيبني بابتسامة وهي تتقدم نحوي. إنها اقصر مني. بشرتها حنطية وشعرها بلون الحنّاء مع رموش سوداء كحيلة تحيط بعيون خضراء تحرسها حواجب كثيفة لم يتم حفّها. رغم ملابسها الكثيفة الرياضية الشتوية وحقيبة الظهر، إلا أن رشاقتها واضحة. تمد كفها وتصافحني بحرارة وثقة. وبصوت هادئ فيه نغمة حزينة غامضة، تقول:

ـ أنا ماريما..

ـ أنا.. أنا .. إمانوئيل..

تدهشني خضرة عينيها المتوهجتين رغم عتمة الضباب، بالكاد أصدق ما يجري، لأني لم أتعود مثل هذه التلقائية الواثقة من امرأة، وخصوصا نحن وحيدان في هذه الغابة النائية والظلام الزاحف. تسألني عن درب القرية، فأبدي لها استغرابي. من المستحيل أن تبلغها في هذه العتمة. يقينا إنها ستتيه في الغابة. أمام رؤيتي لحيرتها، أتجرأ وأعرض عليها أن ترافقني إلى كوخي. الغريب أنها لم تبد أي خوف أو تردد وتوافق مع ابتسامة عرفان.

هكذا تمضي الليلة معي دون أن يحصل ما يمكن أن يحصل. مشغوف بسحرها وتلقائيتها وحضورها النوار. هل هي حقا هكذا، أم أنا منبهر بالإنسان الأول الذي ألتقيه منذ عامين؟ بصوتها الطفولي تقول انها قادمة من جزيرة في المحيط الهادي، وتدرس الادبين الانكليزي والفرنسي في (جامعة لوزان) القريبة. أضاعت طريقها عندما كانت في نزهة بين الجبال. لأول مرة أشعر بخجل من وحشيتي، فأسارع إلى إخفاء بقايا الحيوانات التي التهمتها نيئة. أبلع رمقي وجلا وهي تخبرني أنها نباتية، فأقدم لها ما أمتلك من ثمار برية وكمأ.

في الصباح أرافقها لأدلها على الدرب. راجيا إياها أن لا تدل أحدا على غابتي وكوخي. تغادرني على أمل لقاء قريب لم تحدد كيف ومتى.

  منذ رحيل (ماريما) وأنا أجتهد لتوطين نفسي على أنها اختفت ولن تعود. حلم عابر لن يتكرر. لكن.. تصيبني الدهشة من ظهورها المفاجئ بعد بضعة أيام. عند باب كوخي، تبدو هذه المرة مصحوبة بحقيبة كبيرة ملأى بأطعمة وثياب. وأنا أبدي استغرابي، تعاملني مثل أمّ إزاء طفل مهمل. بين سخرية وتهديد تجبرني على تناول أطعمتها المطبوخة وارتداء أثواب نظيفة. الخبز أول ما أتذوقه، آآآآآه كم ساحر طعمه، بعد غياب عامين، ألوك لقمة وألوك، مثل علكة لا تنتهي.

بعد نزهة في الغابة، تغادرني (ماريما) عصرا على وعد بعودة قريبة. هكذا تتكرر زياراتها، وفي كل مرة تجبرني على تغيير بعض من عاداتي الوحشية، لأتناول أطعمتها وأرتدي ثيابها وأتحدث بمواضيع عن حياة قد هجرتها تماما.

ذات يوم أفاجأ بأنها لا ترحل رغم حلول المساء. أراها تعد مأدبة طعام وشموع. تخرج قنينة نبيذ أحمر وتطلب مني فتحها. تسكب السائل الدامي في كأسينا بهدوء وانا ارقبه يسيل وهاجا مبقبقا بضحكات طفولية. تقدم لي كأسي وترفع كأسها بصحتي وهي ترمقني بسمو وبسمة. ترتجف يدي وأنا أتناول كأسها.. أهو الأول في حياتي؟! نظراتها تشعرني كأني لوحة وهي تكمل رسمي. إنسان في طور التخلّق. أتذوق بتردد وتحرّق كأني ألجّ مقاما مقدسًا. كم نسيت النبيذ وجميع الخمور. أكف سحرية تجول في أعماقي وتداعب روحي وتنشر خدرًا وانتشاء في كياني.

لا أدري كيف تنهض (ماريما)، هكذا فجأة تبدو أمامي شامخة وهي تخلع ثيابها الرياضية وسترتها الجلدية وقميصها، لتبدو مرتدية حلة بيضاء من ثوب قصير وفانيلة ضيقة مثل راقصة باليه. تشرع برقص على موسيقى تصدح من الأرض، بين أضواء شفقية متناغمة لشموع كوخي البدائي وانعكاساتها عبر قنينة النبيذ. تتجلى (ماريما) حمامة تحلق بين شموس وأجرام. يثملني عبقها، تغمض عينيها وتقودني لأهيم عبر كونها مداعبا مقبلا هامسا. لأول مرة، منذ ألف عام، أحس حقا بوجودي، دمي وروحي. نفحات (ماريما) تتسرب في كياني مياه نبع في أرض يباب.

تجتاحني كعاصفة، تكنس عني خيبات عمري وأوراق خريفي. تزرع ورودًا في سوح ضياعي، وتفجر ينابيع في بوادي عزلتي. هاهي تهبط من سماء عليائها، تحييني كائنًا جديدًا مولودًا من رحم حنانها.

في اليوم التالي ، كانت روحي ممتلئة بكلمات ملتهبة تنطق بها شفتاي:

ـ ماريما حبيبتي، كنوزي وجيوشي بين يديك. أتوّجك ملكتي، قلبي عرشك وحياتي مملكتك. أينما ترحلين خذيني معك، حتى لو سحبتك السُحب إلى مدينتي. معا سننسى غطرستها. من الآن فصاعدًا، انت نافورة حياتي.

هكذا، تبعتها الى ما ابعد من (جنيف). حملتني تيارات بحرها الى جزر المحيط الهادئ.

  *   *   *

ان(إمانوئيل)، هو نفسه الذي سبق ذكره في (جزيرة الصفاء). كنت قد التقيته في (جنيف) اثناء احدى زياراته السنوية الى عائلته.

نحن في البعثة، عبر التخاطر ودون ان ينتبه، اوحينا له بالاعتزال في الغابة، كنوع من التطهيرالتحضيري. ثم لعبنا دورا في تسهيل لقائه وتعرّفه على(ماريما) التي اصبحت زوجته واخذته الى جزيرتها. اخترناه، ليكون من بين اعضاء الصفوة في مشروعنا المستقبلي للأرض.

 


الحكاية العجيبة للسيدة التي زارت العالم الآخر

روت لي هذه القصة امرأة في الخمسينيات من عمرها في قرية في اليابان تقع على بعد بضعة كيلومترات من (فوكوشيما). التقيتها اثناء زيارتي لـصديقي كاهن (معبد الشنتو) هناك. هذه المنطقة كانت قد تعرضت للدمار في كارثة مروعة عندما اجتاحتها موجة بحرية عملاقة (تسونامي)، مع انتشار التلوث القاتل من محطة الطاقة النووية. وهي موقع صناعي ينتج الكهرباء عن طريق انشطار الذرة. تقنية خطيرة، حرصنا نحن على عدم استخدامها في كوكبنا.

ان الكوارث الطبيعية أمر لا مفر منه، عندنا وعندهم. لكن في بعض البلدان عالية التطور، مثل (اليابان)، يمكن أن تكون عواقبها وخيمة بشكل خاص بسبب الكثافة السكانية واعتمادهم الكلي على التقنيات الحساسة. في(سيلام) ، تمكنا من الحد من تأثير هذه الكوارث من خلال المعرفة الحميمة بالطبيعة، إذ نتواصل معها وندرك دواخلها ونحترم خصوصيتها.

 *   *   *

لم يخطر في بالي أن أعيش هذه الحكاية العجيبة التي تناقض جميع معتقداتي العلمية المادية. أنا (دايكي ياماموتو) أم لخمسة أبناء بعمر الشباب. أيام زمان، كنت مثقفة ومناضلة يسارية أمضيت عامين في السجن أيام شبابي الأول، لاني ساهمت مع متظاهرين سلميين باقتحام احد مراكز الطاقة النووية في بلادي اليابان. رغم هجري للسياسة إلا أني بقيت متمسكة بعقيدتي العلمية التي ترفض الروحانيات وباقي الأمور التي أسميها خزعبلات وخرافات.

بدأت حكايتي عندما تلقت عائلتنا خبر مقتل ابني (آيكو) في كارثة(تسونامي) التي ضربت مدينتنا(فوكوشيما). مثل الكثيرين من الضحايا لم نستلم أي جثة بل فقط أوراقه الشخصية التي عثر عليها في بقايا ثيابه الممزقة. ان الاشعاعات القاتلة المنبعثة من مركز الطاقة المدمر، تمنع اية عمليات بحث دقيقة. خراب الطوفان ورعب الاشعاعات قد قلب حتى معنى اسم مدينتنا: (فوكوشيما) التي تعني(سعادة)، اصبحت في الواقع(تعاسة)!

لا أحدثكم عن الصدمة القاتلة التي حطمتني، وخصوصا أن (آيكو) أصغر أبنائي وأقربهم إلى نفسي، إذ ما زال صغيرا في سن الخامسة عشرة. رحت أمضي النهارات والليالي وأنا أناجيه وأحلم به. يأتيني ويكلمني ويبكي على صدري ويطلب عطفي وعوني.

رغم إحاطتي الدائمة بزوجي وأبنائي، وبناتي خصوصا، وأقربائنا، إلا أن معاناتي لم تهدأ بل ظلت تتفاقم مع الأيام وأنا أشاهد ابني وأسمع صوته في كل زمان ومكان. ذات صباح، وجدوني ميتة بلا نفس وبلا نبضات قلب. وكان بين الحاضرين ابني (بيشي) وهو طبيب، فقام بفحصي والتأكد من وفاتي. كالعادة وضعوني في قاعة الدار وغطوني وبكوا وصلوا ودعوا وعاتبوا وناجوا.

في اليوم التالي أتوا ليضعوني في التابوت وينقلوني إلى المقبرة، وإذا بي فجأة أشهق! لكني مع ذلك بقيت جامدة. لم يصدقوا وظنوا أنهم تخيلوا الأمر، لكنهم عندما وضعوا آذانهم على صدري سمعوا نبضات قلبي. كانت فرحة وهيجان. قام ابني الطبيب وبمعونة أبيه وأخواته، بتدليكي والعناية بي حتى بدأت بالتدريج أصحو. وقبل أن أفتح عيني، كنت أردد بصوت ساحر فيه أنغام دافئة لم تكن معروفة من قبل:

ـ آيكو ابني آيكو ، انتظرني أنا آتية اليك.. انتظرني يا نور قلبي..

لم يفهم أحد ماذا أعني بهذياني إلّا بعد أكثر من ساعة حيث استرددت عافيتي وسردت عليهم حكاية زيارتي العجيبة للعالم الآخر:

((عندما نمت ليلة موتي، كنت كالعادة أشاهد وأسمع ابني يناجيني ويطلب عوني. أنا الذي طلبت من كياني أن يميتني لكي ألبي نداءات ابني. في تلك الليلة استجاب لي كياني وغرقت أثناء نومي في موتي المنتظر. في الحقيقة لم يكن موتا، بل كان صحوة في عالم آخر. قبل أن أفتح عيني كنت أسمع أناشيد ساحرة مزيجا من أنغام قيثار وزقزقة عصافير وضحكات أطفال وتراتيل رجال ونساء، وكأني في سيمفونية كونية تشترك بإنشادها جميع المكنونات. نسيم يهب على كياني ويمزج فيّ كما لو كنت أنا ذاتي نسيما. لم أفتح عيني لأن الوجود فيّ أنا وأنا في الوجود. لا أميز داخلي من خارجي. نعم كنت بلا بدن، بل الكون بأجمعه بدني. أدرك وجود الآخرين ليس بحواسي، بل بروحي ومشاعري. رجال ونساء وأطفال، طيور وفراشات وأشجار وأنهار، قصور بلورية منثورة في أراض وسماوات. نصلي ونغني ونتبادل محبة بأصوات بلا كلمات. ملذات عشقنا في أرواحنا، ورعشات نشوانة تحلق بنا في أعالي الذات.

لا أدري كم أزمان مضت ومضت تفوق ملايين الأعوام. كنت هنا منذ الأبد، بل أنا الأبد. ماضيّ حاضري، ومستقبلي حاضري، لا شيء غير الحاضر، لحظة وجود أبدية بلا بداية ولا نهاية.

لكن روحي هاجت فجأة وتذكرت أنها ما أتت إلا من أجل ابني. أينك أيكو. تعال حبيبي أنا هجرت الدنيا واتيتك. اين أنت يا آيكو؟ ظلت روحي تجول في الأنحاء تنادي آيكو. حشود المخلوقات كلها تشاركني ندائي:

ـ أينك يا آيكو؟

ويعم الصدى في أقاصي الكون:

ـ أينك يا آيكو؟

وإذا بي فجأة أشاهد (آيكو) مقبلا نحوي ودموع الفرح في عينيه. قبل أن أفكر هبت روحي إليه. ما إن أصبحنا بمقربة حتى فرق بيننا حاجز غير مرئي يفصلنا. ارتعبت ورحت أضرب بكل كياني ذلك الحاجز وأنشد تراتيل مناجاة لإله الكون ليحررني وأعانق ابني. لكني انتبهت إلى صوت (آيكو) وهو يخاطبني:

ـ أمي سامحيني، أنا لست معك في الآخرة.. أنا في الدنيا، مريض وتائه. جئت اقل لك ارجعي أمي للحياة وخلصيني من ضياعي.. أنا مريض وتائه..

ثم اختفى (آيكو) وبقيت وراءه أصداء كلماته الأخيرة:

ـ ارجعي لي يا أمي .. ارجعي لي وخلصيني يا أمي...

وأنا أناديه:

ـ نعم يا نور عيني وبهجة قلبي، فهمتك ابني، آنا آتية لك...

وها أنا أصحو من موتي كي أخبركم يا أعزائي أن أخاكم (آيكو) لم يمت، بل هو ضائع في المدينة. عندما كان يأتيني ويخاطبني في أحلامي، لم يكن من دار موته، بل من دروب ضياعه...

وفعلا في الساعة ذاتها هب جميع أفراد عائلتنا وأقاربنا وحتى جيراننا وكل من يستطيع معرفة (آيكو) حينما يراه، ومعهم صوره، وانتشروا في أنحاء (فوكوشيما)، في جميع المستشفيات ومراكز الشرطة ودور العجزة والمجانين. في الأزقة بين المشردين. في البساتين والأبنية المهجورة. وبعد ثلاثة أيام، جاؤوني بحبيبي (آيكو). وجدوه فاقدا للذاكرة إثر الانفجار، وحيدا في بستان مهجور يعيش على الثمار المتساقطة وعطايا المحسنين. وكان الناس يعطفون عليه لأنه كان دائما يبكي وهو ينشد بعبارة واحدة وحيدة:

ـ أينك يا أمي.. أينك يا نورعيني ونبض قلبي.. أينك يا أمي تعالي خلصيني..

*   *   *

توضح لنا هذه الحكاية أن أبناء عمومتنا مثلنا، على تواصل مستمر بعضهم مع بعض عبر التخاطر. لكن مشكلتهم انهم عموما لا يدركون ذلك. بسبب جهودهم المتنامية لاعتماد العقل والحسابات والمدركات الخارجية. هذا التواصل التخاطري أقوى بين الأشخاص المرتبطين بمشاعر حميمة، خصوصا في حالة المحبة والشوق والقلق. حينها تضعف موانع العقل الخارجي، فتظهر التواصلات الروحية بين المتعاطفين، رغم تباعدهم البدني. هذا ما حدث لهذه الأم الأرضية.

لاحظت أيضًا أنه عندما يتعرض المرء الى (حالة شبه موت) وتسمو روحه عبر الأثير، مثل حالة السيدة (دايكي ياماموتو)، يعتقد أبناء عمومتنا أنها ماتت بالفعل، لأنهم يفتقدون القدرة على معرفة الدواخل، فيعتمدون المظهر.

بينما كانت هذه السيدة تحكي لي عن فترة هيامها في السماء، لا ادري كيف التقطتُ فيها صدى التراتيل التي تقول إنها سمعتها: كانت شدوا من جمال خلاب تسحرني ذكراه حتى الآن.

 


احفاد طرزان

من غرائب تاريخ الأرض التي ظلت دائما تثير دهشتنا، ان شعوب (الجنس القهوائي)، أي (السود) حسب تسمية اهل الأرض، هم الذين ظلوا ضعفاء تقنيا وعسكريا. لهذا تعرضوا للغزو ونقلوا كعبيد بالملايين الى (قارة امريكا) المكتشفة حديثا. أي تماما عكس تاريخنا قبل عصر الصفاء، حيث حقبة العبودية التي جهدنا لتناسيها وطي صفحتها المؤلمة والمهينة. وقتها كانت (القارة القهوائية) مقرا للحضارات التوسعية والدول الحربية، وتمكنت من السيطرة على قاراتنا الأربعة. نجحوا خصوصا باستعباد شعوب (القارة الباردة)، واطلقوا على سكانها الشقر، تسمية(الجنس الشاحب) استخفافا، معتبرينهم وحوشا يعيشون في (أدغال الثلوج)! حتى عندما انتهت هذه الهيمنة، استمر التمييز ضد(الشاحبين) لفترة طويلة، حتى (ثورة الصفاء) التي ازالت طبيعيا اسس الظلم والتمييز.

ان شخصية (طرزان) المذكورة في هذه القصة، تشبه كثيرا لدينا تلك الشخصية الاسطورية القديمة: (كارزان: Karzan)، التي صنعها المستعمرون(القهوائيون) لتبرير احتقارهم واستعبادهم لشعوب (القارة الباردة). انه يمثل بصلافة وتبسيطية العقلية العنصرية التي خلقته متفوقا على السكان الاصليين الشقر، يعرف حياة الثلوج افضل منهم، وله قدرة على التفاهم بذكاء مع الدببة القطبية، والتقافز بين تلال الجليد، وبناء كوخ ثلجي متعدد الغرف... الخ..

سأدعكم تخمّنون ما هو الدور الذي لعبته أنا شخصيا في هذه المغامرة.

   *  *  *

ما كنت أحسب أن أعيش حياة شبيهة بحياة بطلي (طرزان) مع اختلاف يسير، كما سترون. كنا، انا وزوجتي (جين)، وابن عمي(شارلي) وزوجته(سارة)، وابنة عمي(ليلي) مع صديقها (آدم المغربي)، نشكل مجموعة في نزهة نهرية في منطقة المستنقعات والنهيرات التي تحيط بـ(نهر الكونغو). (شارلي) كان يقوم بدور الدليل، بالإضافة إلى استضافتنا في بيته الكبير لنمضي عطلة نؤيل ونهاية العام. إقامته في أفريقيا منذ سنوات طويلة كمندوب تجاري لشركة عالمية في (كينشاسا)، تؤهله أن يكون خبيرا بحياة أفريقيا وخبايا طبيعتها.

أمضينا الصباح نتجول في قاربنا، وعند الظهر هبطنا عند جرف آمن بعيد عن الأدغال الخطرة. ضحكنا كثيرا أثناء استراحتنا حينما أخرجت زوجتي (جين) كتيب رسوم لقصة (طرزان ملك الغابة) بحثا عن آثار معبودنا في هذه الادغال. في بيتنا نمتلك مخزونا كبيرا من الكتب والمجلات والأفلام والصور التي تتعلق بمغامراته. بل حتى اسم التدليل الذي تناديني به زوجتي هو (طرزان). فقد أمضيت طفولتي وصباي وهو بطلي الأكبر. رغم أنه عاش طيلة حياته منذ سن الرضاعة، ربيب القرود بعيدًا عن البشر والحضارة، لكنه مع ذلك امتلك روحا إنسانية متحضرة، وبلغ به ذكاؤه الطبيعي (الموروث) من جنسنا الابيض، أن تمكن وحده من تعلم لغة أسلافه النبلاء الإنكليز. إنه حقا أسطورة الحقبة الاستعمارية والممثل الأسمى لتفوق الرجل الأوربي بما يحمل من وسامة ورشاقة وشجاعة وذكاء خارق وقدرة على الهيمنة وإخضاع حيوانات الأدغال، أفضل بما لا يقاس من الأفارقة المتوحشين. نعم، إنه بلا منازع ملك الأدغال وسيد حيواناتها وسودها.

هنالك أسباب عدة شجعت على تعلقي به، من بينها التطابق العجيب بين اسمينا: (جون غريستوك John Greystoke) مع فرق أن جدي لم يكن مثل جده، من كبار اللوردات، بل جنديا أمضى حياته في حروب إمبراطوريتنا التي لم تكن تغرب عنها الشمس. ورثت أنا عنه بيته الذي يشبه متحفا عن الحقبة الاستعمارية بما فيه من حاجات مجلوبة من البلدان التي حارب فيها: أسلحة بدائية وحيوانات محنطة وأنياب فيلة ووحيد القرن، وسلاسل تكبيل العبيد التي ما زالت تحمل دماء متيبسة. بل هناك جمجمة رأس أحد زعماء قبائل الهند المتمردين معروضة مثل لوحة، ولقى فرعونية وبابلية، بالإضافة إلى صور كثيرة له مع القبائل المقهورة. هنالك سبب آخر لانتمائي الى(طرزان) الا وهو اني مثله كنت يتيما، لان ابوي بعد طلاقهما هجراني في مدرسة داخلية امضيت فيها طفولتي، وفيها كنت احس أني وحيد مهجور في أدغال من الحيطان، رفاقي قرود، واساتذتي ضباع واسود.

كنت احلم اني عندما اكبر ساعيش حرا طليقا مثل بطلي، ملكا للادغال وسيدا للوحوش، حيوانات وبشر. لكني في شبابي اضطررت ان اتخلى عن احلامي الطرازانية، بعد ان اصبحت مهندسا مختصا بصناعة الساعات. تحولت حياتي بأجمعها الى ساعة عملاقة، كل حركاتها ومكوناتها مقيسة بالثواني، تدور حول نفسها الى ما لا نهاية.

بعد الغداء قمنا بجولة بمحاذاة الشاطئ على أمل العودة إلى قاربنا بعد ساعات، لكن مع حلول المساء اكتشفنا أننا قد أضعنا درب العودة. دون أن ندري كنا قد تعمقنا كثيرا في أعماق الغابة، وبدأنا نسمع أصوات الضواري من أسود وفهود وغيرها. حاولنا المستحيل كي نجد المكان الذي تركنا فيه قاربنا، لكن دون جدوى. إما أننا أضعنا المكان، أو أن أحدا سرق قاربنا. الأنكى من هذا أننا اكتشفنا خلو المنطقة من الموجات الهاتفية واستحالة ااستخدام هواتفنا والاتصال بمن ينجدنا.

قبل أن يحل الظلام تماما بلغنا باحة مطلة على نهر، لا ندري إن كان نهرنا أو غيره، لأن المنطقة مليئة بالنهيرات والمستنقعات والجزر التابعة لـ(نهر الكونغو). في الوسط فوجئنا بقفص حديدي عملاق أشبه بغرفة كبيرة بأمتارعدة. قال (شارل): من المؤكد انه من بقايا ميناء صغير مهجور من الحقبة الاستعمارية، حينما كانوا يحتجزون فيه الحيوانات والأفارقة بعد صيدهم؛ لإرسالهم أولا إلى الميناء الكبير عند مصب (الكونغو) على المحيط الأطلسي، ومنه إلى أسواق العبودية وحدائق الحيوان.

قررنا أن نمضي ليلتنا في هذا القفص؛ لأنه أفضل مكان لحمايتنا من الضواري. وفعلا قضينا ساعات هادئة نمنا فيها بعمق رغم الصرخات المتقطعة القادمة من بعيد. عند الفجر استقيظنا فزعين على زئير وحشي يهز الأرض والقفص، حينئذ فتحنا أعيننا وشاهدنا ما لا يخطر على البال أبدا:

كنا محاطين من جميع النواحي بعشرات الأسود والفهود والضباع والقرود والقطط الوحشية وغيرها، تحوم حولنا وتكشر عن أنيابها وتضرب بمخالبها الحديد. وقد اشتعل غضبها لعجزها عن بلوغنا. ان الضباب الصباحي الكثيف اضفى على المشهد رعبا خرافيا وكأننا في احد افلام مغامرات الادغال. لحسن حظنا أن (آدم) ما نسي إنزال الحديدة التي تقفل الباب.

هكذا نحن أحفاد طرزان وجدنا أنفسنا في قفص العبيد والحيوانات، بينما الضواري تتفرج علينا وتتمنى أن تنهشنا. المشكلة العاجلة التي واجهتنا، هي كيف نتدبر طعامنا، حتى تصلنا النجدة. لكن من يعلم بنا، فنحن لم نسجل في فندق أو شركة سياحية، فحتى مؤسسة (شارل) في إجازة طيلة اعياد نهاية العام. ناهيك عن استحالة استخدام هواتفنا النقالة في هذه الغابة النائية، وفائدتها الوحيدة ان بعضنا راح يصور الوحوش التي تطوقنا كأنه سائح في حديقة الحيوان!

أمضينا الأيام الأُوَلى صابرين جوعا على أمل أن يكتشف وجودنا أحدهم. ما ساعدنا على التحمل اننا كنا في نهاية العام حيث موسم الامطار اليومية التي تغسلنا وتنعشنا في المناخ الرطب الساخن.الحيوانات اللعينة لم تكف عن التزايد حولنا وكأننا فرجة واستعراض مشهور في أنحاء الأدغال. حتى التماسيح زحفت الينا من المستنقعات. بل إن بعضها وخصوصا القرود والسناجب راحت قصدا تتبول في قفصنا وكأنها تتشفى بنا، نحن أحفاد سادتها.

أشباح الموت جوعا وعطشا بدأت تطوف حولنا وتزيد رعبنا رعبا. أستغرب أن زوجتي (جين) الصموتة الوقورة، رغم بؤس وضعنا إلا أنها ظلت مستمرة بمطالعة (طرزان)، وكأنها تبحث فيه عن خلاص ما. وإذا بها ذات صباح تنهض واقفة وهي تقاوم بإصرار ضعفها، ثم تشرع بإطلاق حشرجات يمكن أن يفهم منها أنها تريد أن تقلد صرخة طرزان الشهيرة: آوووهـ هـ..هـ.. التي كان ينادي بها حيوانات غابته. ثم راحت بشكل مرثي تقدم عرضا تهريجيا أمام الحيوانات، من حركات بهلوانية وأصوات مضحكة، وهي تلوح بكتاب طرزان. لكن رد فعل الحيوانات كان مزيجا من عدم الاهتمام والغضب.

ظننا أنها تعاني من هلوسات الجنون، فتركناها دون اهتمام. إلا أنها لم تيأس متحدية إنهاك الجوع والمرض. استمرت طيلة اليوم بتهريجها ما استطاعت. أمام دهشتنا، بالتدريج وقبل حلول المساء، راحت تصدر من الحيوانات وخصوصا الصغيرة ردود فعل مرحبة وهي تحاكي (جين) بحركاتها وأصواتها، كأنها تسخر منها.

لا ندري كيف حصل الأمر، لكننا انتبهنا الى صرخة فرح (جين) وهي تلتهم قشرة موزة مسحوقة ألقاها إليها أحد صغار القرود.

     إذن فرضت الأقدار أن نمضي حياتنا في القفص، ربما أشهرا أو أعواما، لأن تشابه المواسم بالشمس والمطر، وانقطاعنا عن مجريات الحياة، أفقدنا حس الزمن. تعودت الحيوانات أن تلقي إلينا بعضا من نتف طعامها لقاء قيامنا بالترفيه عنها بمختلف الحركات والأصوات التهريجية. كما تعودنا على أكل اللحم النيء الذي تلقيه إلينا الضواري. رحنا نتبارى فيما بيننا ونتفنن بتقليد أصواتها من أجل تسليتها أكثر، كي نحصل على عطاياها. بل إن بعض الفيلة، وهي تشاهد احمرارنا وتعرقنا أثناء ساعات الظهيرة، كانت تجلب الماء بخراطيمها من النهر وترشه علينا.

بعد أن صادقتنا الحيوانات وألفت لمساتنا ومداعباتنا لها، قمنا بمحاولات عدة فاشلة للخروج من قفصنا. لكننا ما إن نفتح الباب ونضع قدما خارجه حتي تثور ثائرتها وتشرع بالصراخ والهجوم علينا. وفي إحدى المرات كاد فهد ينهش ذراع أحدنا. وأخيرا اقتنعنا بنتيجة مفادها، أن الحيوانات تأنس بنا وتأمن لنا ما دمنا تحت سيطرتها ونلبي رغبتها بالتهريج والتذلل. لا شك أنها المرة الأولى في تاريخها الحيواني تحصل على مثل هذه الفرصة بأن يكون سادتها البشر في القفص وهي تتفرج وتعطف عليهم. إنها تدرك بسليقتها أن حريتنا تعني عبوديتها لنا، سلما أو حربا.

هكذا خضعنا للأمر الواقع وتطبعنا على حياتنا الجديدة. بل رحنا نحس بلذة وحاجة إلى التهريج، إذ ارتبط في نفوسنا بمشاعر أمان وشبع. ثمة نسمات من الحرية والخفة كانت تداعب أرواحنا ونحن نتخلى عن طقوس الحضارة وتعقيدات اللغة ومتاهات الأفكار وقيود المجاملات والتقاليد. اما ثيابنا فهي التي تخلت عنا، لانها اهترأت. بالكاد ابقينا على اجزاء منها كغطاء من لهيب الشمس. دون تفكير وجدنا انفسنا نتخلى عن كل ما نحمل معنا من وثائق وساعات وهواتف نقالة، لقاء بعض الثمار وقطع اللحم. اولنا (جين) التي رمت هاتفها الى القردة فحصلت على جوزة هند ورمانتين. اعقبها (توم) الذي رمى جوازه الى لبوة فحصل على فخذ غزالة. خلال اسابيع تخلصنا من نقودنا وهوياتنا الرسمية والمصرفية وجوازاتنا، واخيرا محفظاتنا الفارغة.

تعودنا مثل القرود أن نلتقط الحشرات من أبدان بعضنا البعض، ونغتسل بالمطر، وصنعنا ما يغطي اسفلنا من أعشاب وأوراق. عند الغضب والخصام بيننا نتصارخ نحن الرجال مثل الأسود والفهود، ونساؤنا مثل القرود، ونكشر عن أنيابنا ونهدد بمخالبنا.

بلغ بنا الأمر قبل العثور علينا، أننا كنا قد نسينا كلام البشر وتعودنا على التخاطب بأصوات الحيوانات وضجيج الطبيعة من ريح ورعد ومطر وخرير النهر، حتى إننا تقريبا نجحنا دون قصد باصطناع لغة جديدة، كلماتها من أصوات الحيوانات والطبيعة.

                                              

ان الحقبة الاولى التي عشناها كانت حقبة قلق وانتظار، اشبه بحالة مخاض، فنحن لم نتعر من ثيابنا فحسب، بل من تاريخ آلاف الاعوام من حضارة اسلافنا. ها نحن وحيدون نواجه الحياة بدون تلك الشبكة الهائلة من العلاقات والمؤسسات والجيوش والتراتبات والآلات والقوانين والطقوس التي يستحيل التنفس خارجها. ان هذا القفص الحديدي هو الشيء الوحيد الذي ورثناه من اسلافنا، وبفضله نمارس حريتنا بأن نكون عبيدا لذواتنا الوحشية المخبوئة.

شاءت الصدف أن يكون (كتاب طرزان) هو الوحيد الذي كنا قد جلبناه معنا. لهذا مع الزمن أصبح أشبه بكتابنا المقدس، والمصدر الوحيد الذي يذكرنا بتاريخنا وأمجادنا الغابرة. فكنا نجتهد كي نحافظ عليه من التمزق والبلل والتلف وتجنب تقريبه من الحيوانات لئلا تسرقه منا. في كل يوم يكون أحدنا مسؤولا عن حمايته وحق معاينته والتمتع بصوره، بل واحتضانه وتقبيله والصلاة إليه. حتى إن(جين) بالتشارك مع(سارا) زوجة (شارلي)، وهي رسامة ونحاتة، فاجأتانا بصنع تمثال إنسان من الطين بحجم الذراع، قالتا: إنه (طرزان)، وشرعتا بتراتيل تشبه بقبقة الطيور وهن تهزان برأسيهن وتركعان أمامه تبجيلا. عجيب ذلك التغيير الذي حدث في شخصية زوجتي، كأن خطر الموت وتخلصنا الاجباري من حياة المدنية، خلع عنها قناعها المعتاد لتظهر تحته شخصيتها الحقيقية المخبوئة، شخصية الأم الحكيمة الجبارة. هكذا فجأة ودون أي اتفاق، اصبحت هي زعيمتنا ومرشدتنا والمتحكمة بسلوكنا في حياتنا الجديدة.

استمرت طقوس التعبد اليومية من قبل نسائنا الثلاث. اما نحن الرجال، فبعد تردد اصطففنا وراءهن لنردد جميعا تراتيلَ نابعة من القلب، مصحوبة برقصات حرة حول وثننا، والغابة تصدح باصوات تعبدنا لـ(طرزان) سيد الغابة والوحوش، والوجود باجمعه!

هكذا كل فجر، ومع غناء الطيور وصراخ الضواري، نستيقظ لنجلس وراء (جين) خاشعين وهي تؤمّنا لنرتل معها بما شئنا من الأصوات والأنغام، ونحوم حول(طرزان) برقصات متنوعة حسب المناخ والمزاج.

ان تطبعنا على حياتنا الغريبة هذه، لم يجعلنا نتخلَّ عن حلم باهت بالخلاص، يرقد في أعماقنا دون أن يزعجنا. لا بد أن يأتي اليوم الذي سيعثرون فيه علينا وينقذوننا من حياتنا الغريبة التي طال أمدها.

أتى اليوم الذي رآنا فيه أحد الصيادين حيث كان قد هبط صدفة وتخطى الحرش الذي يحجبنا عن النهير. وقد فزع هاربا وهو يشاهدنا في قفصنا محاطين بالضواري. وبعد بضع ساعات إذا بشاحنة محصنة خاصة بمثل هذه الحالات، أطلق منها جنديان إفريقيان العيارات الصوتية لطرد الحيوانات، وهبطا لأخذنا. في أول الأمر أحسسنا ببعض الفرح وتركنا أنفسنا مثل أطفال مطيعين نقاد صامتين حتى الشاحنة. هناك فوجئنا برجل ذي ملامح إنكليزية وأناقة دبلوماسية يتقدم منا قائلا: إنه قنصل بلادنا، وسعيد بتحريرنا من ورطتنا. قال إنهم بعد اكتشاف غيابنا، قد بحثوا عنا في كل مكان حتى يئسوا، وظنوا أن الحيوانات قد التهمتنا كما يحصل كثيرا.

اثناء ذلك كان القنصل يقترب منا ويبدأ بمصافحتنا. شعرت بغثيان ورجفان وأنا أشم رائحة الكولونيا ودخان غليونه. يبدو أن أصحابي وخصوصا النساء كان وضعهم أسوأ. ثمة لهيب اندلع في بطني وانتشر في كياني وتمركز في رأسي. حينما امتد كفه لمصافحتي، ودون إدراك مني، وجدت نفسي أنقض عليها وأعضها وأنا أطلق صرخات وحشية، وأنهال بمخالبي نهشا لوجهه الحليق الأحمر الناعم. فصُدم الجنود وانقضوا عليّ لإبعادي، وإذا برفاقي دون أي اتفاق وتفكير، ينقضون عليهم في آن واحد عضا ورفسا ونهشا، واستولينا على بنادقهم ورحنا نضربها بالحاجز حتى تكسرت. في هذه الأثناء أصاب الفزع السائق وبدأ يتحرك بالشاحنة للهرب، فما كان منا إلا أن قفزنا منها ونحن نهدد بصرخات الأدغال. وحينما ابتعدت الشاحنة شرعنا جميعنا سوية نطلق صرخة طرزان الشهيرة: آووووو..آ ..آ .. هـ.. هـ ...

دون أي كلام وجدنا أنفسنا نعود إلى قفصنا ونقفله علينا، بانتظار أن يعود إلينا سادتنا.

يبدو أن هذه الحادثة وهرب الجنود والقنصل، قد أشاع خبرنا بين سكان المنطقة، وأن السلطات والسفارة قد قرروا تركنا لحالنا. بعدها، بدأت بين حين وآخر، تزورنا جماعات من الأفارقة للتفرج علينا بعد طردهم الحيوانات بالمشاعل والإطلاقات. يحدقون بنا بمزيج من الدهشة والمتعة والأسف. ما إن يغادروا حتى تعود الحيوانات.

هكذا تعاظمت فرحتنا باشتراك أحفاد عبيدنا بالفرجة علينا. في هذا القفص الحديدي وجدنا حريتنا الحقيقية. ليس هناك أحلى من أن تكون عبدا للغابات ومهرجا للحيوانات وللأفارقة، وهذا اختلافنا (البسيط) عن جدّنا (طرزان) ملك الغابة وسيد الوحوش والسود.

*  *  *

إن بعثتنا هي التي أشرفت على هذه التجربة، ولعبتُ انا دورا مهما في تدبيرها وإنجاحها، لأني كنت متقمصا شخصية (آدم المغربي) صديق (ليلي). أنا الذي جعلتهم يضيعون طريقهم في الغابة.

في البداية أردنا أن نعرف إلى أي مدى يتطلع الأرضي حقا إلى تحرير نفسه من تعقيدات وتقنيات الحياة الحديثة، رغم هوسه الجنوني بوسائل الراحة والمتعة الاصطناعية. درجة حاجته الدفينة المكبوتة نحو أحضان الطبيعة، امه الاولى، وتقبّل أخطارها ووحشيتها؟ لم تكن لدينا في البعثة أي خطة مسبقة لحبس المجموعة في ذلك القفص، إذ لم نكن نعلم بوجوده. كنا نريد فقط ضياعهم في الغابة لبضعة أيام او أسابيع ، ومراقبة ردود أفعالهم. خلالها استخدم قدراتي التخاطرية للتواصل مع الوحوش لإقناعها ومنعها إيذائنا.

لكن عندما رأيت قفص العبيد ، تذكرت تاريخ العبودية. عادت الى ذاكرتي مغامرات (كرزان سيلام) و(طرازان الأرض) ومغامراتهما العجيبة. فكرت: إذا جعلت أصحابي هؤلاء الشقر الحمر، أحفاد طرزان يُحبسون في قفص العبيد، مع إمكانية تحولهم فرجة للأفارقة. يشاهدون كيف ان سادتهم وسادة غاباتهم، يصبحون فجأة اسرى مغلوبين. كيف ستكون ردود افعال الطرفين؟ يقينا ستكون تجربة ممتعة. بسرعة، ونحن تائهون في الغابة، تشاورت تخاطريا مع رفاقي في البعثة وأقنعتهم بتغيير السيناريو الأصلي والموافقة على تجربة عيشنا محبوسين في القفص. بينما انا أتابع ما يجري في دواخل اصحابي، استغربت كيف اني مثلهم، اشاركهم مشاعر الراحة التي راحت تسري فينا بهدوء وكأننا عشنا ابدا في هذه الحياة البدائية. حينها ادركت مدى قوة أثر الطبيعة البدئية في ذاكرتنا المنسية، بغاباتها وحيواناتها. هي موطن اسلافنا وأمّنا الأبدية، بأحضانها الوحشية والكريمة الدافئة. جنة عدن الخلابة التي تمنحنا السلام إذ يضمنا قفص العبودية، مثل (رحم).

شيئًا فشيئًا تغيرت حتى ذكرياتنا عن الساعات الأولى من رحلتنا في الغابة. النهر صارعضو إخصاب، حمل قاربنا مثل بذرة إلى غابة أمومتنا، حيث خُلقنا. ان الاقتحام المفاجئ لذلك القنصل الانكليزي وهو يرتدي الزي الأبيض وتفوح منه رائحة المطهر، وهو يامر بإخراجنا من القفص، أحيا فينا صور دفينة: طبيب في معطف أبيض، محمل بأدوات الحضارة، وهو يخرجنا بالقوة من جنتنا الأمومية المنسية. صرخاتنا الثائرة، عوي غاضب، صرخات أطفال يخرجونهم بالقوة من رحم الغابة الى دنيا غامضة مخيفة.

حتى الآن استغرب ذلك الغضب الجنوني الذي انتابني اثناء مواجهة الجنود، وكدت فيه فعلا اصيب احدهم بالرصاص. يبدو اني اندمجت تماما مع حياتي الغريبة في تلك الغابة، محبوس مع رفاقي في قفص العبيد وحولنا تلك الوحوش الكاسرة. عندما حدثت اميّ عن ذلك، ضحكت وقالت: لأن تجربتك هذه قد حفّزت في روحك معاناة اسلافك العبيد الشقر، المدفونة في جيناتك.

بعد ايام، اضطررت ان أهجر القفص إذ هربت ليلا دون أي كلام او تفسير. بعد عامين عدت لزيارتهم بهوية عامل كونغولي مع اطفالي، لنشاهد هؤلاء الإنجليز في قفصهم. اتجه(جون) نحوي وعبر القضبان دخلنا في حوار. يبدو انه قد نسي لغة البشر، لكنني شعرت أنه بحاجة إلى إخباري بحكايتهم. شجعته بالتخاطر ان يسردها لي كما عشناها سوية.

 


الماضي!

لفهم هذه القصة عليك أن تعرف أنه توجد على الأرض حدود، أي فواصل، بين البلدان. لحسن الحظ ألغيناها بنجاح قبل أكثر من قرن في تشكيل دولة كوكبية واحدة وترسيخ الأخوة الحقيقية بين شعوبنا. لذلك نسينا ماذا يعني (المنفى)، وذلك الشعور الكئيب بانك غريب. طبعا تخلصنا ايضا من مشاعر (العزلة والوحدة)، بفضل التواصل التخاطري الطبيعي مع احبائنا، وحتى الانتقال السريع اليهم عن طريق (التنقل الذري). على العكس من ذلك، يعاني أبناء عمومتنا من كل أنواع الموانع: سياسية وعرقية ودينية، تعزلهم عن بعض، وتولد فيهم مخاوف وعداوات. لكن كما أخبرتكم ، تظل الأرض وسكانها جذابين لنا نحن السيلاميين. أعترف بصراحة بأني حتى في كوكبنا العزيز، لم اجد مثل هذا القدر من الجمال والتراحم.

(فرات)، الذي كان جاري في العمارة نفسها التي اسكنها في (سالسبورغ) هو الذي سرد لي حكايته.

  *   *   *

قبلت عرض الصديقة (لورا) بأن أسكن في بيتها أثناء سفرها، مقابل عنايتي بنباتاتها. هذه فرصة كي أرتاح وأمضي وقتا هادئا يساعدني على الكتابة. فهي تسكن في منطقة خضراء هادئة في أطراف قرية عند منطقة(سالزكامرﮒ: Salzkammergut) الجبلية المجاورة لمدينة(سالزبورﮒ:Salzbourg). البيت كان في الأصل مشغلًا زراعيًّا كبيرًا تمَّ تجديده وتحويله إلى مسكنين متجاورين.

     علاقتي بـ(لورا) تعود لسنوات طويلة، إذ بدأت بزمالة عمل ثم صداقة حميمة ثم محاولات حب متعثرة بسبب موانع عملية. المشكلة أنها إستمرت مترددة باتخاذ قرار الاستقرار في (النمسا) بلاد أبيها الذي توفي منذ أعوام. كانت متعلقة بأمها وبلادها (الأرجنتين)، إذ ولدت وعاشت هناك حتى مطلع شبابها وهجرتها إلى النمسا. كم حاولت أن تقنع أمّها بالهجرة معها، لكن الأم ظلت متعلقة ببلادها.

   أمضت صديقتي هذه السنين الطويلة، وهي منقسمة بين وطنين وعاطفتين. ما برحت تزور أمها وبلادها على الأقل مرة كل عام. لم يفارقها الأمل بأن تعود يوما لتستقر هناك إلى الأبد. إن تشتتها هذا وحلم عودتها، ظل سببًا كافيًا لمنع قرار حبنا المشترك وعلاقتنا الثابتة. فأنا لم أقبل أبدا بالهجرة معها إلى بلادها، إذ يستحيل عليَّ هجر (النمسا) التي أضحت بلادي وموطن ذكرياتي وأحبائي، بعد ضياع بلادي الأصلية.

وصلت البيت قبل حلول المساء بساعة. مازال الربيع في أوله، والثلوج لم تذب بعد، ولسعات برد المساء قاسية مع ريح تصفر حزينة مصحوبة بهفيف أشجار وثغاء أبقار ورنين أجراسها. كما أخبرتني (لورا) في الهاتف، وجدت المفتاح تحت حجر قرب الباب. صمت المساء يجثم على الدار عدا ضجيج بعيد لحيوانات وطيور الغابات القريبة. النوافذ معتمة في مسكن الجيران الملاصق. فليس هنالك أي شخص ولا صوت ولا ضوء. لعلهم في مشاغلهم وسيعودون مساء، أو ربما هم أيضا على سفر.

في الساعة الثامنة مساء أحسست بالتعب فاستلقيت على السرير. ها أنا أخيرا بعيد عن العالم وصخبه، بلا حاسوب ولا تلفزيون ولا حتى مذياع. وحيد مع كتبي وأوراقي.

كالعادة جلبت معي كتباً عدة أدبية، أشعار وقصص وروايات ومذكرات، كلها بالالماني والانكليزي، وضعتها على الطاولة المجاورة. دون تفكير مددت يدي وتناولت إحداها، وإذا به (مختارات من الشعر التركي). ترددت في فتحه، إذ يبدو أني قد جلبته دون قصد. منذ عامين على الأقل وأنا أجاهد نفسي لتجنب كل ما يتعلق ببلادي، لا اخبار ولا علاقات ولا حتى لغة وآداب. مدفوع برغبة التناسي وطرد الحنين.

كم عانيت من انهيار آخر أحلامي في هذا الوطن. كم بكيت وعاتبت الريح والأشباح، واستغثت بالسماء لتنقذني من عذابات خيباتي. انه الحبّ المستحيل.

     لكني هذا المساء رغما عني وجدتني أغرق في قصائد بلادي، حتى بدأت أنام. وفجأة فزعت وأنا أسمع من خلف رأسي أصواتا بشرية. يبدو أني متكئ على الحائط الذي يفصلني عن الجيران. هاهم قد عادوا أخيرا. رحت أتنصت بفضول. تبينت صوتي طفل وامرأة. الطفل يبكي. أسمعه بوضوح وكأنه معي. المرأة تحاول تهدئته. لكن.. لكن.. نعم أنا لم أخطئ إنهما يتحدثان التركية، بل لهجة مدينتي (عينتاب) نفسها!

لم أصدق، يقينا أنا واهم. ماذا تفعل عائلة تركية في هذه البقعة النائية بين جبال النمسا؟ بكاء الطفل لم ينقطع وصوت الأم بدا كأنها لم تكن مهتمة. بل يخيل لي أنها تتكلم في الهاتف، أو لعلها تكلم نفسها. أحسست بالطفل وحيدا مثلي في ألمه وحزنه. لا أحد يهتم به.

طار النوم من عيوني. وكلما حاولت القراءة تشتت تفكيري ببكاء الطفل الذي اشتد نحيبه حتى وجدت نفسي أشاركه بكاءه رغما عني. دون قصد رحت أصرخ بأعلى صوتي وبلغة المانية، راجيا الأم أن تهدئ طفلها. ما من مجيب! استمر صوت الأم نفسه هامسا لا يبالي، وبكاء الطفل يتفاقم وجعه.

لا أدري كيف نمت ومتى. المهم أني استيقظت صباحا وكلّي كآبة وغضب من متاعب ليلتي. عزمت على الذهاب مباشرة إلى باب الجيران للتحدث مع العائلة واستكشاف الأمر. لكن لم يجب أحد على قرع الجرس. أسفت لمغادرتهم. كتبت ورقة ولصقتها على الباب، بلغة تركية وبكلمات مؤدبة قليلة أرجو العائلة الاتصال بي عند عودتهم مساء.

لكن المساء حلّ ولم أشاهد أحدا من العائلة. أويت إلى سريري كعادتي مع كتبي منتبها إلى الصمت السائد لدى جيراني. وكالبارحة، ما إن بدأت إغفاءتي إذا بي أفزع على بكاء الطفل وهمس الأم اللامبالي. ودون تردد ركضت نحو بابهم وقبل أن أدق الجرس، انتبهت إلى أن رسالتي لم تزل ملصقة على الباب. يا للوقاحة، هذه السيدة يقينا قد قرأت رسالتي وتركتها، قاصدة إشعاري بعدم اهتمامها بدعوتي. قرعت الجرس غاضبا، لكن لا من مجيب. سيطرت على غضبي وعدت إلى سريري. بلغت الوقاحة بها أنها استمرت بعادتها في حديثها الهاتفي غير مبالية بنداءاتي وبكاء طفلها. حينها وجدت نفسي أقرب فمي من الحائط وأكلم الطفل بلهجة مدينتي، وكأني معه:

ـ اهدأ يا عزيزي، أرجوك اهدأ.. لا تبك..

العجيب أن الطفل راح يهدأ تدريجيا وكأنه يتجاوب مع كلامي!

استمرت الحال كل ليلة طيلة الأسبوع. حتى انتبهت إلى أني بدأت أرتاح لبكاء الطفل وأنتظر بلهفة حلول المساء كي ينتحب وأناجيه وأهدهده. أشاركه شكواه وأسرد له حكايات عن طفولتي. بلغ الأمر أنه كان يبكي لحكاياتي المحزنة ويضحك لحكاياتي الطريفة. وبين حين وآخر كنت أغني له ما حفظت من أغان تركية. أما الأم فلم تتفضل بالتجاوب معي ولا حتى بكلمة واحدة، وكأني غير موجود. رسالتي بقيت معلقة على بابهم طيلة الأسبوع. وجدت لها العذر، لعلها مريضة ومصابة بالكآبة وتتجنب أي اتصال، وخصوصا أني تركي مثلها، وهي مثل الكثيرين قد عانت من صدمات وخيبات بلادها ولا تريد من يذكرها. إني أتفهمها.

في يوم الأحد مساء عادت (لورا) من سفرتها. كانت حزينة لوفاة امها التي هي آخر من تبقى لها في بلادها الاولى. ذرفت الدموع وانتحبت على صدري. ما إن هدأت قليلا حتى سارعت أنا بالتعبير لها عن لهفتي لمعرفة سرّ جيرانها، هذه العائلة التركية غريبة الأطوار!

لقد اضطررت أن أعيد سؤالي مرات عدة كي تدرك مقصدي:

ـ رجوك كفّ عني يا فرات، عن أي جيران وعن أية عائلة تتحدث... أتمزح معي؟!

ـ جيرانك يا عزيزتي.. الأم التركية وطفلها.. أرجوك ارتاحي واهدئي قبل أن تجيبيني. هاك اشربي، عملت لك هذه الأعشاب المهدئة..

ـ يا عزيزي أنت من يحتاج الشاي المهدئ. إما أنك تهذي أو تمزح.

أمام إصراري، مسكتني من يدي وقادتني إلى بيت الجيران. أدارت قبضة الباب وفتحته، وهي تخاطبني بصوت ساخر:

ـ تفضل ادخل وشاهد بنفسك عائلتك التركية..

نعم، ويا للعجب! الباب أساسا لم يكن مقفلا. يكفي إدارة قبضته كي ينفتح. ها أنا أكتشف مذهولا كيف أن الدار خالية خاوية يخيم عليها صمت حزين وريح تصفر عبر نوافذ مفتوحة وأوراق أشجار تتراقص في فضائها. ثمة قمر نحاسي بدأ يعلو من قمة الجبل المقابل ويضفي على المكان جوا سحريا يشبه أفلام الخرافات. همست (لورا) وهي تعانقني:  

ـ كما ترى يا عزيزي، الدار خالية منذ أكثر من شهرين، وأنا بدوري يجب أن أترك داري، لأن البناية قد اشتراها مالك آخر ويبتغي تغييرها.

بقينا هكذا وسط الدار بين صفير ريح وشحوب قمر متعانقين ونحن نهمس بنشيج واحد:

ـ أنتِ بلادي.. أنتَ بلادي..

وضحكات طفل تصدح في الغابة..  

 *   *   *

شرح لي (فرات) ما تمثله له هذه التجربة:

ـ من الواضح يا آدما، انها تعبير عن حنيني الى شعبي المحروم منه، ورغبتي الشديدة بالتواصل معه.

لكني في الحقيقة وجدت في أعماقه تفسيرا آخر لم ينتبه له: شوقه الحقيقي لم يكن لوطنه تركيا. فهو في اعماقه لم يكن يعاني من الدولة قدر ما يعاني من عائلته. وما تمرده وهربه السياسي، إلا هروب من عنف ماضيه واهله. تلك المرأة الجارة وطفلها، لا يمثلان شعبه، بل طفولته هو، المنفصل عنها بجدار الزمن، وتأتيه اصواتها بعيدة من اغوار الماضي. حبيبته (لاورا)، لم تمثل بلاده، بل هي بكل بساطة (امّه) بالشخصية التي كان يتمناها في طفولته. لكني لم اعلق، لأني لم أرغب ان اخيب رومانسيته الوطنية.


عالم بريء جميل!

ليست غايتي من هذه القصة الحديث عن مجتمع اصحاب المال والسلطان في الأرض. هذه مسألة معروفة وسبق لمبعوثينا أن كتبوا عنها كثيرا، وان مجتمعاتنا سابقا كانت على الحال نفسها. غايتي ان انقل لكم رؤية طفل ارضي لعالم هؤلاء الكبار. تعرفت عليه في المدرسة الداخلية الخاصة بالاغنياء التي كنت اشتغل فيها. جلب انتباهي بقدرته المتميزة على التعبير الكتابي والكلامي. شجعته بأن طلبت منه ان يكتب عن المجتمع المحيط به. في الحقيقة ان رؤية هذا الطفل، لا تختلف عن رؤية الكبار في هذا المجتمع، وإلّا فأنهم من المستحيل ان يستمروا في حياتهم دون قناعات وتبريرات اخلاقية. كل ما في الامر ان هذا الطفل عبر عن هذه القناعات بصورة صريحة وساذجة.

  *   *   *

أنا أحب عمي، فهو الذي تبنانا أنا وأختي بعد موت أبوينا. عمي اسمه (السيد جون الكريم) وهو رجل طيب وقور يشتغل (وزيرا للاقتصاد). وهو حقا كريم النفس مع رجال الأعمال وأصحاب البنوك والعمال طبعا. لا يخلد إلى النوم قبل أن يطمئن على البورصة ومجريات الأزمة الاقتصادية.

بلادنا غنية وقوية ومتطورة. سماؤنا صافية بزرقة فضية مزينة بخطوط دخان ترسمها طائرات حربية تحمينا من الأعداء. طيورنا تطوف بين أشجار سامقة ومداخن مصانع ومراكز نووية. أهل بلدتنا، مثل جميع بلدات الوطن، يتنزهون فرحين عند ضفاف بحر متوهج بزرقة فضية تحت شمس ربيع أخضر زاه بعد عتمة شتاء قارس. نلعب ونسبح ونأكل في حدائق وباحات مطاعم.

عمي معروف بقدرته على إقناع الدول الفقيرة بإعطائنا منتجاتهم الزراعية وموادهم الخام لقاء مساعدتهم في تطوير جيوشهم وشرطتهم، وتزويدهم بأحدث أجهزة التنصت والرقابة والسيطرة من أجل استتباب الأمن والازدهار والمحبة بين الناس والشعوب. من دلائل حرص عمي على سلامة الطبقة العاملة في بلادنا، أنه يعمل على تصدير الأسلحة ولو بصورة غير علنية ورسمية من أجل حسن سير المصانع وتجنب العطالة؛ لهذا يحبه الجميع، أغنياء وفقراء، وينادونه مباشرة بلقبه:(الكريم).

في ذلك الصباح الربيعي المشمس اثناء عطلتنا الصيفية، كنت جالسا مع أختي وعمي وزوجته (السيدة ديانا المحبوبة) التي هي بمثابة أمي، ونناديها بـ(عمتي). نتسامر في حديقة قصرنا المطل على البحر، نداعب كلبنا(اليوكشير yorkshire) الأبيض. عمتي معروفة في البلد كله بجمالها الباهر وحرصها على جمع المساعدات للمؤسسات الخيرية من خلال عروض الأزياء التي تنظمها لأغنى أغنياء العالم. خاطبت عمي بصوتها الرقيق وهي تداعب رأس أختي وتتأمل بحنان ومتعة ثعباننا الأفريقي المتراقص في قفصه الزجاجي:

ـ يا وزيري الحبيب، اسمح لي أن أتقدم لك بشكوى أتمنى أن لا أزعجك بها. ألا تتفق معي أنه من الظلم أننا لا نمتلك غير شقة كبيرة في المدينة، وبيت في الريف الجبلي، وقصر عند ضفاف البحيرة، ومقام في مزرعة السهل، وسفينة، وطائرة خاصة، وسبع سيارات؟!

ارتسمت على وجه عمي ابتسامته الساحرة المعروفة التي يحبها الشعب، وقال بصوته الوقور الحنون: ـ ما تكلمت إلا الحق يا زوجتي العزيزة.. لا أدري كيف غابت عني هذه القضية. عذرا إنها مشاغل الوطن وحرصي على الناس.

بعد لحظات صمت وتفكير وهو ينثر البذور لعصافير حُبّ تتراقص حولنا، قال:

ـ وجدت الحل يا عزيزتي، سأتصل بصديقي المليونير (السيد ريشارد الانساني) كي يتدبر لنا الأمر.

قام واخرج من جيبه تلفونه وشغّل مكبّرة كي تسمع عمتي، حواره مع صديقه(ريشارد)، صاحب مصانع الأسلحة. شكا له الحال ببضع كلمات وبوضوح. ضحك (الإنساني)، وقال بصوته المرح:

ـ طلبك على العين والرأس يا وزيري العزيز. لكن أرجوك اطلب من حكومتنا العزيزة أن تعمل لنا حربا هنا أو انقلابا هناك، في أي من هذه القارات التعبانة: آسيا افريقيا امريكا اللاتينية، وحتى في اوربا الشرقية. كما ترون، هي لا تكفّ عن التدلل وطلب مساعدتنا، دون التفكير لحظة واحدة بكيفية تدبير أمورنا نحن المحسنين. المهم يا صديقي، خلصونا ولو مؤقتا من هذا السلام المقرف الذي يعمل لنا الكساد.

في مثل هذه الأمور الجادة والاستثنائية فإن عمي الطيب يحرص على إشراك عمتي المحبوبة وأخذ رأيها. وبعد مداولات اتفقا على أن تقوم هي بمفاتحة صديقتها الحميمة (السيدة هايلي الزاهدة)، وهي زوجة صديقنا الطيب (السيد شارل المسالم) الذي يشتغل (وزيرا للدفاع). وهو ذو سمعة عالمية وحائز على جائزة (نوبل للمحبة). إذ إنه في جميع الحروب التي أشرف عليها، ظل دائما يوصي جنوده أن لا يكثروا من القنابل التي تبيد عشرات الآلاف، بل القنابل الأقل التي لا تبيد الواحدة منها غير الآلاف. ويذكّرهم دائما أن يرحموا المدنيين ويعطفوا على الأسرى، وأن ينظفوا بسرعة واتقان أية منطقة يحتلونها من آثار الدمار والدماء وجثث الأعداء. ومن علامات إنسانيته أنه يفضل القضاء على الجيوش العدوة والمناطق المتمردة من خلال القصف الجوي النظيف والحضاري بدلا من المواجهات البرية المكلفة والوحشية. والاهم من كل هذا، ان له الريادة العالمية كأول من امر بأستخدام الطرق الحديثة في عمليات الاستجواب. وبفضله انتشر مصطلح(التعذيب العلمي) الذي اثبت نجاعته على حيوانات المختبرات.

                                    

هكذا مضت أمورنا كالعادة بسلام ومحبة. حصلت عمتي (السيدة المحبوبة) على قصر جديد في جزيرة يونانية. وحصل صديقنا المليونير (السيد الإنساني) على حرب مكلفة لمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط. أما زوجته صديقتنا (السيدة الزاهدة) فإن زهدها منعها من طلب أي مقابل، إذ يكفيها أن زوجها وزير الدفاع المسالم، وجد حربا تسلّيه وتشغله عنها أشهرا عدة، وربما لسنوات طويلة. ويمكنها ان تتفرغ هي لرياضة اليوغا والدفاع عن القطط السائبة في البلدان الفقيرة.  

*   *   *

ان هذا الطفل الطيب، لم ينتبه الى ان عمّه المحبوب وبالتنسيق مع زوجته الطاهرة، قد ارتكب خطيئة بحقّه هو واخته. قام بعملية خداع قانونية وراح يتصرف بالثروة الكبيرة التي ورثها الطفلان. والاكثر من هذا انه قد وضعهما في (مدرسة داخلية)! يقينا ان الكثير منكم يجهلون ماذا تعني(المدرسة الداخلية) التي كانت موجودة ايضا في مجتمعات اسلافنا. لقد تخلينا عنها لانها جريمة بحق الطفولة، حيث يُحرم الاطفال من عوائلهم ويتم حجرهم في عالم خاص بهم، ولا يلتقون باهاليهم، ربما مرة في الاسبوع او حتى كل عام. نحن نخطط في المدى البعيد، لانهاء هذه الوضع الظالم على الأرض عبر وسائل تاثيرنا الخاصة.  

 مهمة خاصة

في هذه القصة وضعت نفسي في تجربة استثنائية: تقمصي لشخصية امرأة! كان هذا الاختيار استثنائيا حتى بالنسبة لتقاليد بعثاتنا الأرضية. بما ان هنالك رفاقا ورفيقات، فلا توجد اية ضرورة لتقمص دور مغاير لجنسه. لكني اصررت حتى وافقوا، وكان تبريري المقنع: انا الوحيد بين رفاق البعثة في مجال الادب ودراسة الهوية، وانه من الضروري ان اعيش ولو تجربة واحدة، كامرأة في علاقة طبية مع رجال ونساء يعانون من اضطرابات نفسية. وكان (السيد آدم) احد مرضاي المهمّين. بعد انتهاء علاجه بفترة وجيزة، وبعد تغيير هويتي، ودون ان يتعرف عليّ، جعلته يحدثني عن تجربته، ونحن مستلقيان على رمال شاطئ بيروت. كانت آثار معاناته من مرضه مازالت بادية على وجهه، رغم تحسنه الكبير، إذ زاد وزنه وشعّت منه بهجة طفولية كأنه تلقى خبرا مفرحا. هكذا شرع يحكي لي بصوت حالم ممتزج باصوات نوارس وأمواج وغناء شبّان وشابات.

   *   *   *

ها انا اعود الى شقتي في (بيروت)، بعد غيبة اكثر من عام. كنت اعاني من أزمة نفسية طويلة، تعرضت فيها لمختلف العلاجات والإقامة في مشاف عدة. اخيرا هدأت حالتي فتركوني أرجع إلى حيث اسكن وحيدا. يبدو أن تسمية (أزمة نفسية) ليست كافية، بل تستحق تسمية (أزمة وجودية) تتمحور حول سؤال وحيد حيرني رغم سذاجته ولم أستطع الإجابة عنه:

ـ من أنا؟!

المساعدة الاجتماعية وعدتني بإيجاد عمل مناسب لي بعد هذه العطالة الطويلة. هي سيدة في مقتبل العمر، حنون وتعاملني بأمومة. كلما التقيها أحاول ان لا افضح رغبتي الجامحة بتفحصها، لمعرفة إن كانت هي ام أختها. لاني على يقين انها ليست سيدة واحدة بل سيدتان، بسبب تناقض شخصيتها بين لقاء وآخر. مرة تبدو منيرة مبتهجة مثل دجاجة مع فراخها، ومرة معتمة منطوية مثل قنفذ خائف. لكني فشلت بتحديد أية علامة بدنية فارقة تميز بين الاثنتين.  

قبل بضعة أشهر أخبرتني أنها تلقت إعلانا خاصا من دائرة المخابرات تبحث عن جواسيس لمهمات خاصة جدا. بدا لي أنه عمل مناسب وغير متعب ويرضي فضولي الطبيعي لتقصي الألغاز وقصص المغامرات. ثم أنا رسام تقني لتصميم السيارات، مما يسّهل عليّ رسم الاسرار لهم . فقلت: لم لا أجرب حظي في هذه الشغلة؟

فعلا ساعدتني بكتابة طلبي وإرساله إلى العنوان المحدد في الإعلان. بعد بضعة أيام استلمت رسالة بموعد اختباري. اصطحبتني السيدة الرحيمة بسيارتها، وتوقفنا عند بناية عادية، ثم دخلنا إلى شقة في الطابق الثاني. من الواضح أنه مكتب سري للمخابرات. استقبلتنا سيدة أنيقة وجميلة بنظارة بيضاء وأدب دبلوماسي، قدمت نفسها باسم(السيدة حواء). لا أدري لماذا ذكرتني بالأطباء الذين عالجوني، ربما لأن لها رائحة الملائكة وابتسامة الأشجار ووقار القطط، يعني امرأة عادية. ارتجفْتُ عندما ودَّعتْني المُسَاعِدةُ بابتسامتها الصينية وغادرت.

من الطبيعي أن جميع الأسئلة كانت حول تاريخي الشخصي وسبب رغبتي بمثل هذه الشغلة. في الحقيقة، كنت طيلة الوقت أصارع نفسي لكي أركز على كلامها؛ لأني كنت سرعان ما أطوف في رطوبة شفتيها وبياض أسنانها وتوهج نظارتها وخضرة عينيها، فأخشى من ابتلاعي ببحرها. فأنا عادة أفقد توازني وأصبح مجذوبا أمام العيون الخضر الزرق وأبدأ بالتمطق لأني أحب العنب الأخضر.

جلب انتباهي أن أسئلتها كانت مختصرة وسريعة ولم تحثّني على سرد التفاصيل، حتى بت مقتنعا أنها تقوم بمهمتها بصورة شكلية، لأنهم في كل الأحوال قد قرروا مسبقا أني لست مناسبا لشغلتهم. يقينا أنهم يبحثون عن جاسوس بابتسامة ساحرة وبدلة بيضاء مع نظارات سوداء وربطة عنق حمراء، يتقن استخدام المسدسات واغتيال الاشرار.

فوجئت بتوقفها عن الكلام وهي تحدق بي بجدية وبنوع من التحدي كأنها تريد امتحاني، وخاطبتني بصوت مترقب ونظرات ثابتة شعاعها سخّن وجهي:

ـ ما رأيك لو كلفناك بالتجسس على هذه الشخصية الخطيرة جدا؟

ووضعت أمامي ملفا وهي مستمرة باجتياحي بطوفان أخضر.

بصورة تلقائية فتحت الملف الذي يحتوي على عشرات الأوراق. في الصفحة الأولى صدمت عندما رأيت صورة الشخصية الخطيرة. أنا أعرفه فهو يسكن في الطابق نفسه من عمارتي، ونعرف بعضنا منذ سنوات وبيننا تواصل عابر عند تلاقينا. هو مثلي يسكن وحيدا وفيه كثير من الشبه بي وربما مقارب لعمري. الأوراق كلها كانت معلومات عن شخصيته وعن حياته وعلاقاته وأفكاره، وغيرها. ولم أفهم سبب خطورته، لكني خمنت أنهم يشكون به لأنه شخص اعتيادي أكثر من اللازم، وهذا يدل على أنه يخفي أمورا خطيرة.

من دون تفكير ضحكت لأداري حرجي وصدمتي. خشيت من رفع عيني نحوها لئلا تكتشف ارتباكي، رغم أنها تتوقع، بل يقينا تنتظر رفضي واحتجاجي. وهذا يفسر نظراتها المتحدية. خشيت من الرفض لئلا يشكوا بنزاهتي أنا أيضا.

وإذا بها تنطق بجملة تأكيدية، فيها كلمة ظلت ترن في رأسي وقتًا طويلا:

ـ هو.. هو .. شخصية خطيرة.. هو..

فتعالت في فضائي: (( هو.. هو .. هو ..))!

لا أدري كم من الزمن بقيت منكبا على الملف. في الحقيقة خلال ثلاثة أرباع الوقت لم أكن أقرأ لأني كنت ممزقا بين مشاعر جياشة متناقضة من حيرة وعار وإثم وخوف ومهانة وسخرية. ويصدح في صدري سؤال واحد وحيد مثل صرخة في نفق:

ـ بماذا أجيبها؟

لكن سؤالي راح بالتدريج يمتزج بصوت آخر:

ـ هو، نعم هو.. المطلوب مني أن أتجسس عليه هو هو.. لقد رأيت هذه الكلمة تتجسد أمامي بقامة عملاق من دخان تنبعث منه رائحة خبز محروق.

فقلت في نفسي: أنا لم أستطع أن أعرف (من أنا)، على الأقل سأعرف (من هو).

دون قرار وجدت نفسي أرفع رأسي وأنظر إلى نهديها ذي الحلمتين المبللتين بحليب، خلف قميص أبيض وسترة زرقاء، وأنا أقول:

ـ نعم أوافق. سأتجسس عليه.. هو..

هكذا تم الأمر. وقد وعدوني بمكافآت جزيلة حسب أهمية وكمية تقاريري عنه. وكانت مهمتي الأولى، أنهم أعطوني نسخة من ملفهم الرسمي الذي جمعوا فيه معلومات عنه خلال سنوات منذ أول شبابه، وطلبوا مني قائلين:

ـ أجهد ذاكرتك لملء الفراغات في المعلومات الناقصة عنه.. هو ...

ومنذ ذلك الوقت، حصل اتفاق غير معلن بأن هذه الشخصية الخطيرة اسمها: (هو).. كأني بتجنبي ذكر اسمه أتخلص من فكرة أني أعرفه وأخونه. هم أيضا يذكرونه باسمـ (ـه).

منذ أشهر وأنا مستمر بإعطائهم تقارير كاملة عن حياة (هو) وعن نشاطاته. بل تعمدت، لكي تسهل مراقبته، توطيد العلاقة معه، فأصبحنا صديقين حميمين. وكنت دائما أستغل مهنتي كرسام، لكي أرسم شخصه مع أشياء مختلفة في شقته التي قد تكون أسرارا مهمة.

الذي زاد حماستي للعمل أنه يسمح لي بلقاء المسئولة الجميلة التي تجعلني أشعر بأنها حمامة سلام وأنا نسر مؤدب. يبدو أنها تشاركني الإحساس نفسه، فكانت تقضي الوقت معي وتطرح علي الكثير من الأسئلة، ليس فقط عنه (هو) بل عني(أنا). هي محاورة مثقفة وطالما أدخلتني في مداولات فلسفية ونفسية وتاريخية عن موضوع (الذات والهوية) وكيف أن الإنسان وحده من بين جميع الكائنات قادر على أن يعي نفسه ويبحث عن ذاته؛ لأنه الوحيد القادر على المقارنة مع الآخر. كنت أطرح عليها أسئلة فلسفية محيرة، لا أدري لماذا تجلعها تضحك، مثل: إذا كان الديك، مثلا، لا يدرك ذاته وخصوصيته الديكية، فلم لا يقفز على غير الدجاجات؟ والنجوم هي الأخرى إن كانت تجهل نجوميتها، فلماذا توافق على الاشتعال وبعث الأنوار، وعندما تتعب وتيأس تنتحر مثل البشر بإلقاء نفسها في الثقوب السوداء؟

أما صاحبي (هو) فإني لكي أخفف عني وطأة مشاعر العار لخيانتي وتجسسي عليه، وجدت نفسي مضطرا ان أكشف له حقيقة عملي، بل رحت أطلعه على التقارير والرسوم التي أدونها عنه. لكي أهادنه، اقترحت عليه أن نتقاسم المكافآت الجزيلة التي أقبضها من عملي. وبما أنه مثلي يمر بضائقة مالية فإن مقترحي قد أغراه ووافق على المشاركة بهذه اللعبة. لكني اشترطت عليه أن لا يتدخل بفحوى تقاريري ورسومي، لقاء أن أطلعه عليها قبل إرسالها. في بعض الأحيان كان لا يهتم بفحواها، وأحيانا يضحك، وفي أحيان كثيرة كان يغضب ويصرخ بوجهي، بل مرات تعرضت للضرب والتجريح أثناء ثمالته.

اضطررت أن أخفي عنه أني وضعت كاميرات سرية في شقته مرتبطة بمركز مراقبتهم. وفي الحقيقة فقد ترددت كثيرا بقبول طلبهم هذا. قالوا: إن رسومي عنه لا تكفي. وبعد مفاوضات صعبة وافقوا على غلق الكاميرا التي في غرفة نومه عند منتصف الليل. كذلك في حالة وجود زائرة لسريره.

كم تنتابني مشاعر إثم لأني كثيرا ما تمتعت طيلة هذه الفترة بمشاهدة الأفلام التي تصور(هو) وهو يعيش في شقته.

هذا اليوم أنا حزين ومبتهج في الوقت نفسه. حزين لأن (السيدة حواء) مسئولتي ذات حلمات الأمومة وعيون البحر، أخبرتني بأنهم قرروا الاستغناء عن خدماتي لأن ذلك الـ(هو) لم يعد خطيرا ولا داعي لمراقبته. كاد الأمر يصبح كارثيا لأني خشيت، بالاضافة الى فقدان عملي، أن أفقد كذلك سبب لقائي بتلك المسئولة. انا قد أدمنت رائحة الملائكة التي تنبعث منها. لكن المفاجأة المفرحة، أنها وافقت على أن تستمر حواراتنا خارج مكتبها كأصدقاء.

أما السبب الأعظم لفرحتي، وهو أن صاحبي (هو) لم يعد خطيرا ولست محتاجا لخيانته ومراقبته. بل الأكثر من هذا أن صداقتنا أصبحت من العمق والتفاهم حيث إننا قررنا الاتحاد التام في حياتينا، روحيا وبدنيا. والذي سهل الأمر علينا أن (هو) له ذات عمري وذات ملامحي، وذات تاريخي، أي باختصار له ذات هويتي، بل ويسكن في نفس شقتي وينام على نفس سريري ويشاركني حتى أحلامي، بل.. بل.. ياللهول، له نفس كياني وبدني؟!

لهذا اتفقنا على أن يلغي اسمه (هو) ويشاركني باسمي: (أنا آدم)!

 *   *   *

اعتقد ان اغلبكم قد خمّن بأني كنت متقمصا دور(الدكتورة حواء) السيدة الجميلة ذات العيون الخضر. هذه التجربة تكشف عن مدى معاناة الأرضيين من اشكالية (الهوية) بسبب التناقض بين طرفيها: ألـ(أنا) وألـ(هو). اما نحن كما تعرفون، بفضل شفافية التخاطر بيننا حققنا الانسجام بين الـ (ذات) والـ (آخر). وهذا التوازن الفردي الداخلي، هو اساس توازننا الاجتماعي. كانت هذه التجربة غنية بصورة مضاعفة: من ناحية واجهت شخصيا هويتي الجنسية وثنائية الانثى والذكر. وفي الوقت نفسه واجهت معانات الآخرين من اضطرابات الهوية. الأرضيون يعتبرونه مرضا خطيرا يسمّونه: مرض الانفصام: شيزوفرنيا.

اختم لكم الحكاية بهذه الواقعة الطريفة: بعد مرور عامين، قابلت (آدم) مرة أخرى بالصدفة. كنت بهوية وهيئة مختلفة، على متن طائرة متجهة الى (الجزائر). كنت جالسا بجنبه وبرفقته زوجته الحامل. هو الذي بادر الى محادثتي بعد ان سمع الصديقة المضيفة، تناديني بـ (آدم). فبادر الى القول ضاحاكا: انا ايضا اسمي آدم! تجاذبنا أطراف الحديث طيلة الرحلة. مع ذلك، لم يخطر في باله انه سبق وان التقاني على شاطئ (بيروت)، وقبلها عرفني بهوية (الدكتورة حواء)، المرأة التي كان يحبها بجنون. بين حين وآخر، أسمع الحيرة في دواخله وهو يحاول ان يتفحصني ليكتشف معنى صور خاطفة يمتزج فيها وجه طبيبته مع وجهي، وأسمعه يفكّر متحيرا: أين رأيتك يا رجل؟


جيوش الحضارات!

سمعت هذه القصة من(زيـڤا: Зива) حكيمة روسية، يقدسها اهل قريتها لانها معروفة بقدراتها الشفائية وتواصلها مع ارواح الاسلاف، حسبما يقولون. ذلك المساء كنا متجمعين في اعماق غابة مثلجة تطل على (نهر الفولغا)، يدفؤنا لهيب نيران تضفي علينا الوانا نحاسية تجعلنا اشبه بقبيلة بدائية تمارس طقوسها. كنا في حلقة متماسكي الاكف، والسيدة وسطنا، ندور حولها مرتلين بصفير ريح وهفيف اشجار، ممتزجة بخرير النهر. وهي تَلُفُّ حَوْلَ نَفْسِهَا متمايلة برأسها ضاربة الأرض بقدمين حافيتين، كأنها شجرة تحفر الأرض لتمدّ جذورها. ترفع يديها نحو السماء ثم تخفضهما نحو صدرها تعانق اسلاف ليتقمصوها. بالتدريج كان يتوضح صوتها من بين حشرجاتها، وهي تسرد حكاية بلدتها التي تختصر التاريخ الديني والعقائدي للبشرية جمعاء.

  *   *   *

الحضارة سلطة!

ذات يوم، قبل آلاف الأعوام، وأنا لم أزل طفلة، دخل الجيش قريتنا النائية التي تقع عند أطراف الغابة. أحرقوا أشجارنا المقدسة وحطموا طواطمنا، وقاموا بتجميعنا نحن السكان المرتعبين. وقف قائد الجيش وبجانبه رجل بثياب غير عادية، من الواضح أنه كاهن، وخلفه كتلة كبيرة مغطاة بقماش أبيض. خطب بنا القائد:

ـ أيها الناس قد جئناكم محررين ولسنا غزاة. لا نبتغي لكم الشر أبدا، بل كل الخير والصلاح. ها نحن نجلب لكم أعظم ما في الخليقة وأسمى ما توصلنا إليه بعد أجيال وأجيال من البحث والكفاح: الحضارة.. نعم إنها الحضارة التي لم تعرفوها من قبل..

فصرخت جدتي، وهي حكيمة القرية ووريثة جدي الراحل شيخ القرية:

ـ ما هي الحضارة أيها القائد.. أهي حيوان أم إنسان؟

ـ لا أيتها الشيخة، إنها شيء أعظم وأروع لأنها تجعل منكم شعبا جديدا راقيا تتمتعون بأنوار الإيمان بدين الحق.

ـ لكن أيها القائد لدينا ما يكفي من الإيمان والدين. فنحن منذ أن وُجِدْنا، نتوارث عن أسلافنا عبادتنا للطبيعة من أشجار وصخور وحيوانات ونيران وصواعق وأمطار، لأننا نعرف أن أرواح أجدادنا تعيش فيها.

فصرخ القائد بغضب:

ـ كلا ثم كلا، أنتم تكفرون بالآلهة وتهينون العقل وتزلون عن درب الحق. كيف لإنسان عاقل أن يعبد أرواح الأسلاف ويتجاهل الآلهة الجبارة العظيمة القادرة على كل شيء قدير. هي التي خلقت كل الموجودات، أنتم وأسلافكم وغاباتكم وحيواناتكم وصواعقكم، بل الكون بأجمعه بسماواته وأراضيه.

ثم صمت ملتفتا إلى الكاهن الواقف جنبه، الذي شرع بالترنم والإنشاد وهو يزيح الغطاء عن الكتلة المغطاة فتكشفت عن تماثيل عدّة لنساء ورجال. وإذا بالكاهن وخلفه القائد وجميع الجنود يركعون مصلين أمام الأوثان وهم يرددون التراتيل.

أصابنا الذعر، وتمسكت أنا بأذيال أمي وجدتي، والتصقنا جميعا ببعضنا البعض مبهورين خائفين. نحن لم نواجه بكل تاريخنا مثل هذا الحشد الجبار من المصلين المنشدين بتراتيل عجيبة جعلتنا نرتجف تأثرا ووجلا. كان مشهد الأوثان مثيرا حقا، فإن أشعة شفق الغروب النحاسية أضفت عليها حياة وتوهجا بأنوار خلابة تنبض بأرواح الآلهة الكامنة فيها. بالتدريج شرعنا نحن القرويين (الكفرة) واحدا بعد الآخر نركع وراء الجنود، ونحن نجهد لنردد تراتيل الأوثان، آلهة الحضارة الجديدة.

                                          

بعد قرون وقرون، وقد أصبحت أنا (أمّا) وأمّي أصبحت حكيمة بعد ان ورثت أبي شيخ القرية الراحل، دخل علينا جيش جديد بأزياء خلابة وأسلحة مرعبة. أحرقوا معبدنا وحطموا أوثان آلهتنا. تم تجميعنا نحن السكان المرتعبين، ووقف قائد الجيش وبجانبه رجل بثياب غير عادية، من الواضح أنه كاهن، وخلفه كتلة كبيرة مغطاة بقماش أبيض. خطب بنا القائد:

ـ أيها الناس قد جئناكم محررين ولسنا غزاة. لا نبتغي لكم الشر أبدا، بل كل الخير والصلاح. ها نحن نجلب لكم أعظم ما في الخليقة وأسمى ما توصلنا إليه بعد أجيال وأجيال من البحث والكفاح: الحضارة.. نعم إنها الحضارة التي لم تعرفوها من قبل..

فصرخت أمي الحكيمة:

ـ ما هي الحضارة أيها القائد.. أهي حيوان أم إنسان؟

ـ لا أيتها الشيخة، إنها شيء أعظم وأروع لأنها تجعل منكم شعبا جديدا راقيا تتمتعون بأنوار الإيمان بدين الحق.

ـ لكن أيها القائد لدينا ما يكفي من الإيمان والدين. فنحن منذ أن وُجِدْنا، نتوارث عن أسلافنا عبادتنا للأوثان التي دمرتموها اليوم في معبدنا. لأننا نعرف أن أرواح الآلهة تعيش فيها.

فصرخ القائد بغضب:

ـ كلا ثم كلا، أنتم تكفرون بالإله وتهينون العقل وتزلون عن درب الحق. كيف لإنسان عاقل أن يعبد أوثانا من حجر تصنعونها أنتم بأنفسكم. إنها جماد مثل أي حجر أصم، لا يأخذ ولا يعطي. انظروا كيف قمنا بتدميرها بكل سهولة دون أن تحرك أي ساكن... كيف يسمح لكم عقلكم تجاهل الإله الأوحد العظيم القادر على كل شيء قدير. عرشه في السماء. وهو الذي خلق كل شيء، أنتم وأوثانكم، بل الكون بأجمعه بسماواته وأراضيه.

ثم صمت ملتفتا إلى الكاهن الواقف جنبه، الذي شرع بالترنم والإنشاد وهو يزيح الغطاء عن الكتلة المغطاة فتكشفت عن صليب كبير وعليه إنسان مصلوب. وإذا بالكاهن وخلفه القائد وجميع الجنود يركعون مصلين أمام الصليب وهم يرددون تراتيل الكاهن: أبانا الذي في السماوات..

أصابنا الذعر، وتمسكت أنا بابنتي وأمي، والتصقنا ببعضنا البعض خوفا وانبهارا، فنحن لم نواجه بكل تاريخنا مثل هذا الحشد الجبار من المصلين المنشدين بتراتيل عجيبة جعلتنا نرتجف تأثرا ووجلا. وكان مؤثرا حقا مشهد الصليب الكبير وعليه ذلك الإنسان العجيب المصلوب وجراحه النازفة من ضلعه وكفيه. أشعة شفق الغروب النحاسية أضفت عليه حياة وتوهجا بأنوار خلابة تنبض بروح الإله الأوحد الكامنة فيه. بالتدريج شرعنا نحن القرويين الكفرة عبدة الأوثان، واحدا بعد الآخر نركع وراء الجنود، ونحن نحاول أن نردد تراتيل إله الحضارة الجديدة: أبانا الذي في السماوات.

بعد قرون وقرون، وقد أصبحت أنا بدوري جدة حكيمة وورثت زوجي شيخ القرية الراحل، دخل علينا جيش جديد بأزياء باهرة وأسلحة حديدية مذهلة، فجر كنيستنا وأعدم القسيس وجنود الملك. تم تجميعنا ونحن مرتعبون، ووقف قائد الجيش وفوقه يخفق علم الثورة الاحمر، وبجانبه رجل بثياب غير عسكرية من الواضح أنه إنسان مثقف. وخلف المثقف هنالك كتلة كبيرة مغطاة بقماش أبيض. خطب بنا القائد:

ـ أيها الناس قد جئناكم محررين ولسنا غزاة. لا نبتغي لكم الشر أبدا، بل كل الخير والصلاح. ها نحن نجلب لكم أعظم ما في الخليقة وأسمى ما توصلنا إليه بعد أجيال وأجيال من البحث والكفاح: الحضارة.. نعم إنها الحضارة التي لم تعرفوها من قبل..

فصرخت أنا:

ـ ما هي الحضارة أيها القائد.. أهي حيوان أم إنسان؟

ـ لا أيتها الشيخة، إنها شيء أعظم وأروع لأنها تجعل منكم شعبا جديدا راقيا تتمتعون بأنوار الإيمان بعقيدة الحق.

ـ لكن أيها القائد لدينا ما يكفي من الإيمان والدين. فنحن منذ أن وُجِدْنا، نتوارث عن أسلافنا عبادتنا للرب المصلوب، لأننا نعرف أن روح الإله تعيش فيه.

فصرخ القائد بغضب:

ـ كلا ثم كلا، أنتم تكفرون بحضارة العلم، وتهينون العقل وتزلون عن درب التقدم والرقي. كيف لإنسان عاقل أن يعبد مثل هذا الخشب وهذا التمثال الذي تسمونه ربا، وتتجاهلون أنوار العلم، الذي أثبت أنه أعظم إله حقيقي وواقعي نصنعه نحن البشر بإرادتنا وعقلنا. العلم وحده القادر على كل شيء قدير. هو الذي سيصنع لكم الخلود ويجنبكم كل المخاطر والأمراض ويمنحكم الاكتفاء والسلام. نعم العلم هو الذي سيخلق لكم الجنة على الأرض.

ثم صمت ملتفتا إلى المثقف الواقف جنبه، الذي شرع بالترنم والإنشاد وهو يزيح الغطاء عن الكتلة المغطاة فتكشفت عن مسلة كبيرة مكتوب عليها: (أنوار العلم وجنان التقدم). وإذا بالمثقف وخلفه القائد وجميع الجنود يقفون منشدين أمام المسلة:

أبانا الذي في المختبرات، وأمنا التي في المصانع..

أصابنا الذعر وتمسكت أنا بابنتي وحفيدتي، والتصقنا ببعضنا البعض خوفا وانبهارا، فنحن لم نواجه بكل تاريخنا مثل هذا الحشد الجبار من المصلين المنشدين بتراتيل عجيبة جعلتنا نرتجف تأثرا ووجلا. وكان مشهد المسلة وعلم الثورة الخفاق مثيرين حقا، فإن أشعة شفق الغروب النحاسية أضفت عليهما حياة وتوهجا بأنوار خلابة تنبض بروح آلهة العلم والتقدم الكامنة فيهما. بالتدريج شرعنا نحن القرويين المسيحيين البدائيين المتخلفين، واحدا بعد الآخر نركع وراء الجنود، ونحن نحاول أن نردد تراتيل إله الحضارة الجديدة:

أبانا الذي في المختبرات، وأمّنا التي في المصانع..

                  

هكذا مضى أكثر من قرن، وها انا قد اصبحت امّا لجدّة. كما تروني ارقص بينكم عند اطراف الغابة، على شاطئ النهر، لنهلل ونسبّح جميعا بأرواح الاسلاف الساكنة حولنا هنا، في الصخور والاشجار والحيوانات والصواعق والشمس والمطر.

 *   *   *

اثناءها، كنت اتذكر المرشد(أولوف) وحكايته عن(جدنا القرد) والاساس الثقافي الذي استمد منه خياله. أما مع هذه السيدة فكان الامر مختلفا. رغم جهدي للتوغل في اعماقها والبحث عن مصدر حكاياتها المتجاوزة للأجيال والازمان، لم اصل الى منبع الجذور، لانها تمتد في اعماق المجهول. لا ادري الى اين؟ وكأنها حقا قد عاشت هذه الحيوات المختلفة!

قبل أيام حينما حدّثت أمي، عن تجربتي واستغرابي من حالة هذه السيدة وأشخاص آخرين، أجابتني بابتسامة حنون:

ـ إياك ان تنظر الى اهل الأرض بنوع من الاستعلاء، مثل بعض الرفاق الذين عرفتهم. دون قصد انزلقوا في غرور المتفوقين الذين يعتقدون انهم عارفون بأهل الأرض أكثر منهم. الانسان يبقى انسانا، في أي وطن وكوكب.إنه مثل الكون، مهما توغلنا فيه وكشفناه، أدركنا اكثر اننا نجهله!


عالم سين!

ان (التأمل) لدى الأرضيين يعني نوعا من الصلوات المسموعة او الصامتة التي تساعد الإنسان على الانقطاع عن سطوة العقل والحسابات. الانسياب في دواخله للتواصل مع اعماقه المجهولة المتصلة بالجذر الكوني المطلق. من اجل تحقيق نوع من الراحة والانسجام مع الذات. نحن (السيلاميين) قد نسينا هذه الطريقة التي كانت ايضا معروفة عند اجدادنا. فنحن بفضل (الصفاء الفردي والجماعي) نعيش في حالة من (التأمل) الدائم والتلقائي حتى اننا لم نعد ننتبه لها. وعينا العقلي الحسابي لم يعد منفصلا عن وعينا الروحي الداخلي.

ان (انجلينا) النجمة السينمائية التي ذكرناها في (جزيرة الصفاء)، هي التي عاشت هنا هذه التجربة، حين ذهبت كعادتها للاستلقاء على رمال شاطئ المحيط. بعد ذلك حينما التقيتها في (باريس) تركتها تسرد عليّ ما عاشته ذلك اليوم.

  *   *   *

تلك العصرية من شهر شباط، استلقيت على رمل الشاطئ منتعشة بعد سباحتي بين امواج المحيط الباردة والهائجة في مثل هذا الموسم. استغرقت بقراءة الصفحات الاخيرة من الكتاب الذي أقرضني إياه صديقي (إمانوئيل). تواقة لاعرف اكثر عن (عقائد النهرين) وخصوصا عن اله القمر(سين) الذي يرمز للعوالم المعتمة والخفية للانسان. اتوقف احيانا عن المطالعة لمعاينة الناس حولي: عوائل تتناول الطعام، اطفال يمرحون بالكرة، بعض المتحمسين الذين يتحملون السباحة بين الامواج الباردة. اعاين السماء المحمرة باشعة شمس تغيب خلف افق المحيط، تاركة مكانها للقمر المكتمل الذي يفرض سطوعه بهدوء.

تركت نفسي اهبط بالتدريج الى عالمي الداخلي. عساني بالتأمل الذاتي اغوص في اعماقي بحثا عن انسجام وهدوء. يُخيّل لي بان بدني كأنه مسكون بأقوام متمردة مشاكسة. عقلي اشبه بزعيم حائر ومتعب عاجز عن فرض طاعته. ارغب بكل إرادتي نشر السلام بين مكنوناتي.

مويجات الماء تداعب اقدامي بمرح وتردد. بهدوء اغرق في اغفاءة يهدهدني صوت حنون لامرأة قريبة تحكي لطفلها قصة (الطوفان) ومعاناة(نوح) مع قومه. بصوت مرتفع ووقور مقلدة صوت الرب الآمر: ((شيّد سفينة)). وكانت آخر الكلمات التي سمعتها قبل ان اغرق في النوم.

لا أدري كيف حصل، استيقظت فجأة على نغزات خفيفة. فتحت عيني مفزوعة وسط ظلمة وصمت مطبقين وكأني وحيدة في منتصف ليل حالك تحجب السحبُ كواكبه. عندما حاولت أن أنهض، شلتني كف قوية مصحوبة بصوت رجولي صارم:

ـ ششش.. توقفي عن الحركة واسمعينا جيدا..

بالكاد تمكنت من الاتكاء على ذارعي، وأغمضت عيني متجنبًة نور مصباح سلط على وجهي.

قلت مرتعبًة:

ـ ماذا يحصل.. من أنتم؟

ـ ليس مهمًّا من نحن، بل المهم أن تكوني عاقلة وتتعاوني معنا..

حينها انتبهت الى انهّ صوته مألوف، لا أدري أين سمعته؟!

عبر انعكاس النور ميزت بضعة أشخاص يحيطون بالرجل الذي يكلمني.

ـ مـ.. مـ؟!

ـ اسمعي.. أنت مكلفة بمهمة الهبوط إلى (عالم سين).. اللجنة العليا قررت ذلك.

ـ لا أفهم!

ـ ستفهمين وستجعليننا نفهم معك، عندما تكونين هناك.. هذه هي مهمتك.

ـ لا أفهم!

ـ كفّي عن السؤال.. قلنا ستفهمين... سنساعدك على الهبوط. وتقومين بجولة استكشافية..

ـ لماذا أنا؟!

ـ اسمعي، الأمر لا يحتمل أي جدل. اللجنة العليا اختارتك، لأنك الوحيدة المؤهلة للدخول إلى (عالم سين). الطبيعة شاءت ذلك. اعلمي جيدًا أنك أنت نفسك بحاجة لهذا الاستكشاف.. سترين..

فجأة امتدت عشرات الأيادي نحوي، وسحبتني إلى المياه وأنا مفزوعة مشلولة. لحظة إطلاقي لصرختي غطت المياه وجهي وملأت فمي، والأكف لا تكلّ عن تكبيلي وإغراقي في مياه معتمة تبتلعني في قعرها. صرخاتي تختنق. أذوب كثلج او تراب. تبددت في الأعماق وفقدت وعييّ..

     فتحت عيني في عالم غريب زاخر بألوان وموجودات متنوعة متناقضة: شمس ونجوم وقمر تضيء وتنطفئ بين نهار وليل. مدن تنتشر في ارجائها وحولها غابات وبساتين وجبال وصحارى وأنهار وبحار. فيها القديم العتيق وفيها الحديث الوهاج. أبنيتها بمختلف الأنماط والأزمان والثقافات: شرقية بمساجد ومعابد مزخرفة زاهية الالوان، وغربية تجمع بين كنائس روما وناطحات سحاب امريكا. دروبها فقيرة وعرة قذرة، وغنية مبلطة وعرة. مزدحمة بحشود بشر، رجال ونساء، متنوعون مثل بيئتهم، بمختلف الأشكال والأزياء والأزمان . لكن.. ياللهول جميعهم، أقول جميعهم يشبهونني وثيابهم بلون بنفسجي. أعمارهم تقارب عمري الحالي.

لا ينتبهون لي. أنا واحدة منهم. ينتابني فقدان. من الطبيعي أن تكون في زحام، ولكن المذهل أن يشبهوك جميعا، بل هم أنت ذاتك، في حركاتهم وأصواتهم ونظراتهم. أكاد أفقد توازني. ممزقة بإحساس أني لست أنا.. أنا هُم. كأني أخطبوط بمليون رأس وذراع وقدم . من كثرتي وتعددي لم أعد أعرف كم أنا ومن أنا!

فجأة يحصل أمر غريب. يعتم الجو وتتفجر رعود وصواعق وسط زخات مطر طوفانية. ردود فعل أغلبهم مماثلة للجو. صراخ وتقاتل فيما بينهم. رجال يعولون ونساء يستغثن. بعضهم يهرب إلى أبنية وغابات وحدائق. آخرون يهتفون ويهللون مشجعين المتقاتلين. أقلية يحاولون تهدئة وتفريقا. أما أنا فأبقى مشتتة حائرة بين هروب وتهليل وتهدئة.

بالتدريج يصفو جو ويشحّ مطر وتختفي رعود وصرخات، وتشرق سماء بشمس وديعة. إذ بالمتحاربين يتحاضنون متضاحكين كأنهم انتهوا من مسرحية هزلية. ثم يشرعون برقص جنوني. في زوايا معتمة يتعانق أحبة بانتشاء، وعقلاء يلقون خطبًا تدعو لحوار وسلام.

   أنظر حولي باحثًة عما يساعدني لتحديد وضعي، ومع من يمكنني أن أتحدث. سؤال محير يشغلني:

ـ كيف أعود إلى عالمي وأتخلص من هذا العالم العجيب الذي ورطوني فيه. وما علاقة هذه الجموع من الأشباه بي أنا؟ لماذا تراهم يتقاتلون فجأة بجنون وعويل، ثم فجأة ينطلقون ساخرين راقصين بانتشاء طفولي؟ إنه حقا لعالم مجنون عابث بلا منطق ولا نظام.

                                                    

وأنا أتجول بحثا عما وعمن يعطيني توازنا وتفهما، أنتبه إلى أني مطوقة بدائرة من أناس. ربما عشرات، يبحلقون فيّ بوجل وتقديس، وهم يتقربون مني مرددين عبارات طقسية أشبه بصلوات. كي أداري خوفي وذهولي، أضحك كأني أشارك بنوع من لعبة طريفة. أحاول أن أشق طريقي بينهم وأتخلص من طوقهم، لكنهم يتكاتفون بقوة ويسدون علي أي منفذ هرب. حينها ودون قصد، وأنا أحس باختناق، أطلق صرخة وحشية يمتزج فيها غضب ورعب:

ـ اللعنة.. ماذا تريدون؟ ما هذه المهزلة؟ دعوني أخرج وإلا طلبت الشرطة. النجدة.. النجدة.. تعالوا خلصوني..

لكن ياللعجب، رجال ونساء، أراهم فجأة يسجدون حولي وهم يهمسون برجاء واعتذار كأنهم يرتلون دعاء:

ـ رحماك يا سيدتنا.. استري علينا، نحن أتباعك.. أنسيتينا؟

ـ يا إلهي لا أفهم ما يجري، من أنتم؟!

ـ كيف تتنكري لنا ونحن منك وإليك، لا ننتظر منك غير اعترافك بنا.. رحماك يا سيدتنا اقبلينا.. أحبّينا.. اقبلينا .. أحبّينا..

بعد حوارات مرتبكة وصرخات هامسة، أضطر أخيرا أن أردد بصوت متعب:

ـ نعم نعم يا ناسي، أنا أقبلكم وأحبكم.. أقبلكم وأحبكم.. لكن أرجوكم دلوني على دربي، أنا ضائعة، لا أدري في أي عالم أنا؟

يهدأون ويتهامسون فيما بينهم، ثم أخيرًا يتوجهون إلي طالبين أن أرافقهم..

أسير معهم وهم يحتفون بي، حتى إني أشعر بخجل من نفسي. عمري كله لم أشته أن أكون سيدة لأحد، ولا أن يكون أحد سيدي. نبلغ أحراشا مخبأة في حديقة عامة. يفتحون بابا في الأرض ويتوسلون إلي بكل خشوع أن أتقدمهم وأدخل. تبدو درجات سلم تهبط في نفق أو مغارة مظلمة. وقبل أن أشرع بالدخول تمتد أياديهم وتخلع عني ثوبي. حينها فقط أنتبه إلى أني أرتدي سبعة أثواب بالوان الطيف السبعة: بنفسجي، نيلي، ازرق، أخضر، أصفر، برتقالي، أحمر. وهاهم يخلعون عني ثوبي الأول: البنفسجي.

أهبط وحيدة، أهبط إلى مجهول. نور خافت يشعّ من حولي ويكشف دربي. يومض من صدري، من قلبي!

بعد سبع درجات أجد نفسي في عالم أسفل لا يختلف عن عالمي السابق، لكنه أكثر عتمة. سكانه أيضا جميعهم، رجال ونساء، يشبهونني لكن بعمر يقل عن عمري الحالي، ربما بسبع سنوات. وهم أيضا يعيشون في أمزجة متقلبة وعادات غريبة لا تختلف عن سابقيهم.

                                                      

هكذا يظل يتكرر هبوطي في متاهات العالم الذي قالوا عنه (عالم سين). طوابق سبعا يقطنها ملايين وملايين البشر، أطفال ومسنون، ذكور وإناث، عقلاء ومجانين، أحبة وناقمون، طغاة وقديسون. كلهم أمثالي وأجزائي.

في كل طبقة يقودني بعض أشباهي يخلعون عني ثوبا، كي أهبط درجات سبعة تقودني إلى عالم آخر، يقطنه أشباهي. كلما هبطت، يصغر عمري ويتضاعف نور قلبي، مع تزايد عتمة عالمي.

في كل طبقة يتكرر المشهد ذاته: تطوقني حشود من أشباهي خاشعة راجية أن أعترف بها. وفي كل مرة أصرخ بهم جزعًا:

ـ نعم أنا أقبلكم وأحبكم جميعا، خيركم وشريركم. نعم أقبلكم وأحبّكم، أقبلكم وأحبّكم. لكن رحماكم ساعدوني كي أعود إلى عالمي.. ساعدوني، أنا ضائعة هنا في متاهات وحشود عالمكم..

أظل أصرخ وأصرخ حتى يُبَحَّ صوتي، بعدها يهدأون ويقودونني إلى طابق أسفل..

في الطبقة السادسة أجد نفسي طفلة بثوب برتقالي، في عالم أطفال في سن السابعة. سماء مغيمة وفضاء مترب وأرض منثورة بأطفال يحبون. جميعهم يشبهونني شكلا. أنا خائفة حائرة لكن نور قلبي يزداد سطوعًا.

في الطبقة السابعة، يصير العالم مظلما تماما وكأني في ليل بلا قمر ولا نجوم. أنا جنين وقلبي يصبغني بنور أحمر. تصدح في الظلمات معزوفة هائلة من شهقات وهمهمات. أطوف في مياه إقيانوس بلا آفاق، أتهادى مثل سمكة نائمة. مشدودة إلى حبل سرة هابط من مجهول. أطياف متوهجة كنجوم تحوم فوقي وتحط برفق وتداعبني بحنان. أصوات رجال ونساء، شبان وشابات، أطفال بمختلف الأعمار. طيف أمي يحوم فوقي. تداعبني وتنشد أغاني نسيتها. طيف ابي يحوم بعصبية مثل نسر يحرسني. أطياف كثيرة تحوم فوقي، إناث وذكور، بينهم أجدادي وأقاربي، ممن عرفتهم وأحببتهم.

تمتد يد كونية تسحبني بهدوء نحو أعماق واعماق عالمي السابع. أنا روح من نور أهبط من شجرة الانوار الكلية. احمل في كينونتي حيوات كثارا عشتها خلال حقب وحقب. تحرسني أطياف أسلافي وأحبائي في إقيانوس تاريخي..

أنا رفرفة فراشة، خفقة طير، عبقة ورد، هالة قمر، وهجة شمس، شهقة وليد..

أنا صفاء كلي، زهرة نور في شجرة الرب. موجة وبحر. عابرة ومطلقة. فانية وخالدة. انا.. انا المخلوقة والخالقة.

                                            

أفتح عيوني، لأجد نفسي مستلقية على رمال الشاطئ، وأمواج المحيط تداعب أقدامي وتنثر رذاذا على بدني. حولي أطفال يتضاحكون وعشاق يتداعبون. فوقي يتوسط السماء، بدر يشعّ بهالة وهاجة من سبعة الوان قزحية تغطي نجوما تلمع تهلل لجموع طيور تطوف برقصات ثملة. تمتد أكف حنونة تمسد شعري بغصن زيتون، مصحوبة بأصوات أمومية حنونة هامسة:

ـ اطمئني يا حبيبتنا.. نحن نقبلك.. نحن نحبك. دعي أسلحتك وسرّحي جيوشك وأعلني سلامك الأبدي، فها أنت قد بلغتِ (شاطئ الصفاء)..

 *   *   *

تصف(أنجلينا) التجربة التي يجب ان يمرّ فيها أي إنسان من أجل اكتساب (قدرة التخاطر)، وبلوغ (عالم الصفاء): الهبوط الى عوالمه الداخلية السبعة حتى بلوغ جذورها الاولى الممتدة في مجاهيل الكون.

ان أهل الأرض مثلنا، اعماقهم لها سبع طبقات، ليست هرمية بل حلزونية. أعلاها غصون السمو الروحاني، وادناها جذور الغرائز الجنينية البدنية، المرتبطة بدورها باغصان السمو الكوني المطلق.

علما بأن لديهم ميراثات من مختلف شعوبهم، مثل الاغريق والعرب والصينيين، اعتبروا دواخل الانسان واسعة ومعقدة مثل الكون. اشتهر الهنود بفكرة(الشكرات السبعة). وتشيع عندهم اسطورة بابلية قديمة عن هبوط (عشتار) آلهة الحياة والخصب، الى العالم السفلي، إذ تجتاز سبع بوابات لعوالم مختلفة. كذلك ظهر عندهم في العصر الحديث علماء نفس، امثال (فرويد) و (يونغ ) وغيرهم، جهدوا لتخفيف هذه الظلمة، وقالوا بوجود (انات) سفلى وعليا عدة، وغيرها.

    ان أية انتقالة كبرى في حياة الانسان(كذلك المجتمع)، اشبه بحالة ولادة، تسبقها صدمة ومكابدات، من أجل تحريره من عقله، وجعله في اتصال مباشر مع نفسه العميقة. هذه هي الطريقة التي اعتمدناها نحن مع(أنجلينا) ومع جميع الأرضيين الذين نتفق على أنهم مؤهلون لتقبل(شفافية التخاطر والمكاشفة) وبلوغ (عالم الصفاء).


استراحة واعتراف!

وأنا أكتب هذه الصفحات الأخيرة، أدرك أن هذا الكتاب لم ينته بعد. دونت المئات من قصص وتجارب إخوتنا الأرضيين، وسأستمر في ذلك، لأني سأظل دائمًا على علاقة بهم، لسبب ستفهمونه بعد قليل.

أعترف أن هذه القصص، لم تكن غايتي منها فقط إمتاعكم وزيادة معارفكم، بل خصوصًا من أجل الشكوى لكم والتفريج عما يجول في دواخلي من تفاعلات وتحولات وصراعات، تمتزج فيها المتعة بالعذاب. فشخصيات هذه القصص لا يعيشون فقط في كوكب الأرض، بل يعيشون هنا في كوكب روحي أنا، ومنهم صارت تتشكل هويتي. إنهم أطفالي الذين يعينوني على التعبير عن ذاتي.

حرصًا على عدم التأثير على قراءتكم، فضَّلت ترك اعترافاتي إلى نهاية الكتاب. الآن يمكنني السماح لنفسي بالكشف لكم كيف غيرتني هذه السنوات التسع، أو بالأحرى (استأرضتني[*]) وأضافت لهويتي السيلامية صفات جديدة. لم أعد أنا كما أنا، ذلك (السيلامي) المتَّزن المنسجم مع ذاته ومع محيطه. لا أبدًا، فأنا الآن مختلف. هويتي الأصلية بلونها السماوي الصافي الطفولي، صارت لوحة خلابة بحشود ألوان ورموز غامقة ومتوهجة. روحي التي كانت مجمع حيوانات سيرك مدجّنة، صارت الآن غابة حيوانات مضطربة. والأهم من هذا، أنَّ نظرتي نحو كوكبنا العزيز لم تعد كما كانت.

أعترف لكم أنِّي على الأرض، على الأرض فحسب، عرفت مَنْ أنا حقًّا. بدأ هذا عندما رحت أفطن إلى أنِّي أكثر حساسية من زملائي المبعوثين. صحيح جميعنا نعاني من ثقل التفاعل النفسي والمعنوي مع أبناء عمومتنا، لأننا نعرف أسرارهم دون أن يعرفوا أسرارنا. نراقب حيواتهم دون القدرة على التأثير. هذه المعاناة كنت أشعر بها أضعاف ما يشعر به رفاقي. اتضح لي تمايزي عندما بدأت أتلقى تنبيهات المسؤولين للتحكم بمشاعري.

أنا الوحيد، دون قصد، انزلقت في هوس خاص سأخجل من ذكره لكم لولا أن جميع رفاقي ورفيقاتي يعرفون به. فنحن كما تعلمون حتى على ذلك الكوكب نبقى فيما بيننا في تواصل تخاطري دائم. كانت لهفتي عظيمة لمعرفة حياة ودواخل الفنانين والأدباء الأرضيين، وخصوصًا الذين سبق لي وأن أعجبت برواياتهم وأشعارهم وأفلامهم ولوحاتهم وأغانيهم. رحت أستغل أية فرصة كي أتقرَّب منهم وأقيم علاقات مع بعضهم. بل كنت أمضي فترات أختار أحدهم، مبدعًا أو مبدعة، دون أن يدري أتعقبه لأراقب دواخله وهو في بيته أو مكتبه، كي أتمتع بمتابعة عملية إبداعه للوحته أو قصته أو أغنيته، أو تمثيله على خشبة المسرح. حينها أحصل على متعتين في آن واحد: متعة متابعة إبداعه الظاهر والمعروف الذي يشاهده الجميع، وفي نفس الوقت، متعة متابعة ما يجري في دواخله أثناء عملية الإبداع من تردد وقلق وتناقضات وحوارات وتعديلات، قد تؤدي بالبعض إلى الانهيار أو الجنون أو حتى الانتحار. كثيرًا ما تتراءى لي دواخل المبدع أشبه بمحكمة بدائية محشورة بأناس يهمسون ويصرخون باتهامات ودفاعات وتهديدات ورجاءات وأحكام عادلة وظالمة. نعم إن فناني الأرض، وأقصد المبدعين الحقيقيين الصادقين، وهم أقلية، يختلفون عن فنانينا، لأنهم عمومًا أناس مُعذَّبون مُرهفون جدًّا إلى حدِّ الجنون. يحسّون رغمًا عنهم بالعزلة، لعدم قدرة المحيطين بهم على مشاركتهم في بلوغ عوالم عليا زاخرة بحيوات وخيالات وأرواح طائفة، لا يدركها إلّا البشر الحساسون والمضطربون عاطفيًّا.

من كثرة ولعي بإبداعات الأرضيين، صرت مع السنين، مثلهم أمزج بين الواقع والخيال، بين الحياة المعاشة وعوالم الإلهام العليا. كثيرًا ما يحصل أني من شدة متابعتي وولعي بإبداع معين، إلى حد الانفصام عن شخصيتي وتقمص أخرى مبتدعة، أنتبه لنفسي متجمدًا في حديقة أو محطة، متخذًا هيئة تشبه أحد التماثيل أو اللوحات، أو شخصيات فيلم أو مسرحية أو رواية!

طبعًا، كما تعلمنا وتعودنا جميعنا في كوكبنا، كنت مستمرًّا بمراقبة دواخلي وما يحصل فيها من تحولات واضطرابات. بالتدريج رحت أنتبه إلى أن جوهر اختلافي عن رفاقي ورفيقاتي، يكمن في ازدواجية شخصيتي. كما لو أن ثمة شخصين يعيشان في داخلي، أحدهما أبويٌّ غضوب انضباطي، والثاني طفولي طيب رقيق وانبساطي. كثيرًا من الأحيان يشتد الجدال بينهما فأحس روحي أشبه ببرلمان أرضي منقسم بين يسار متطرف ويمين متطرف، كل واحد منهما يرغب بموقف أو سلوك مناقض للآخر، وأنا بينهما دائم المعاناة، لدرجة فقداني سيطرتي على نفسي، فأشرع بالصراخ والهيجان لتفريغ شحنات غضبي.

في كوكبنا لم أكن أهتم بجذور أعماقي قبل ميلادي. كنت مثلكم أعيش صفاء الشفافية مع ذاتي ومع مجتمعي بانسجام وانسيابية. لكن هناك على الأرض اختلف الحال. الزخم غير المنقطع من الاكتشافات والصدمات والانفعالات المستمرة كل يوم وكل ساعة، صار أشبه بمخالب تحفر في دواخلي لتكشف لي عن خبايا لم أعرفها من قبل. كابوس راح يتكرر أستيقظ منه مختنقًا باكيًا: كأني أنا نفسي مع نفسي، طفلان متماثلان، فجأة تهب عاصفة تخطف مني مثيلي، وأنا أكافح للتمسك به وهو يتناءى في الغياب...

ذات يوم شكوت حالي لأبي وسردت له كابوسي، وإذا به بصورة لم أتوقعها، يعانقني بحرارة ويعتذر بصوت مضطرب أقرب إلى البكاء، مصحوبًا بصرخات وضحكات أطفال المدرسة المجاورة لبيته. بكلمات قليلة كشف لي السرَّ الذي لم يخطر على بالي:

ـ عذرًا يا صغيري آدم، لم نفقه أنا وأمك أن الأمر سيؤثر عليك هكذا، تصورناه حادثًا عابرًا لا يستحق مكاشفتك به. أقول إنك في رحم أمّك لم تكن وحيدًا، بل كان معك توأمك يشاركك وجودك طيلة الأسابيع الأولى.

طبعا أمّي وأبي منذ الأسبوع الأول كانا قد علما بوجودنا من خلال تواصلهما التخاطري معنا. أخي المسكين، لسبب غير واضح، مات وسقط من رحم أمي دون إرادتها.

هكذا إذن عرفت بأني، كما يقول أهل الأرض، أعاني من عقدة (التوأم المفقود). أنت حتى وإن لم تتذكر توأمك، تحمل في أعماقك مشاعر الإثم والمسؤولية وكأنك أنت سبب موته، مع ازدواجية حادة في الشخصية، وبحث دائم عن إنسان تندمج معه للتعويض عن توأمك المفقود.

هكذا هي مفارقات الحياة، هناك على الأرض، كوكب الغموض والأسرار، اكتشفت أهم أسرار حياتي، الذي أخفاه عنّي أقرب أحبائي في كوكب الشفافية والصفاء!

أما القضية الثانية التي تخص علاقتي بكوكبي، فإنكم عمومًا على دراية بها. إنها تتعلق بالعقاب الظالم الذي ظلّ يتعرض له المبعوثون الذين يرتبطون بعلاقة إنسانية عاطفية مع أهل الأرض. إنها بالنسبة لي لا تتعلق فقط بموقف المسؤولين عن هذه السياسة، بل تمسّ جوهر العقلية السائدة في كوكبنا.

طيلة القرون الثلاثة ظلّت هذه الهيئة خاضعة لمحاذير وممنوعات مبالغ بها وتعسفية. كما حصل لأبي، فإن القاعدة المتبعة أن يتم التخلي عن المبعوثين الذين يصرُّون على ارتباطهم الأرضي واستقرارهم هناك، ويُمنعون من أي اتصال بكوكبنا. كذلك يُشترط عليهم التعهد بالحفاظ على سرِّ كوكبنا بصورة مطلقة. وكانت الحجة المعلنة التي أقنعتنا جميعنا نحن السيلاميين، أن الأرضيين غير مهيئين بعد لاكتشاف كوكبنا والتعايش الطبيعي مع مجتمعاتنا.

جميعهم تزوجوا وأنجبوا واندمجوا تمامًا في مجتمعاتهم الأرضية. طبعًا قيادتنا لا تقطع علاقتها بهم تمامًا، بل يبقون يتعاونون معنا بصورة أو بأخرى. يُحرص على متابعتهم للتأكد من عدم انزلاق بعضهم نحو سلوك أناني شرير فيستغل إمكانياته الهائلة بمعرفة دواخل وأسرار الأرضيين. جميعهم بقوا محافظين على روحنا الإنسانية القائمة على مبادئ: (المحبّة والجمال). جميعهم، مع دعمنا وتشجيعنا، استثمروا قدراتهم للبروز في مجالات عديدة مفيدة للبشرية، كمبدعين ثقافيين وقادة مصلحين في مختلف المجالات. بين حين وآخر نعطيهم الموافقة على لعب أدوار خفية معينة، مثل كشف أسرار ومؤامرات بعض الدول والقادة التي قد تهدد مستقبل وسلامة الأرض، وحسب مقتضيات استراتيجيتنا.

بعد مطالبات وجدالات لأكثر من قرن، وافقت هيئتنا قبل بضعة أعوام، على أن يُسمح لهم بالكشف عن أصلهم السيلامي فقط لزوجاتهم وأزواجهن. وفي حالة نشوب الخلافات والطلاق وغيرها، فإن الشريك، دون علمه، يتعرض لنوع من "تنظيف ذاكرته" من كل ما عرفه عن كوكبنا.

لكن هذه السياسة بقيت ظالمة، ليس فقط ضد المبعوثين المرتبطين بالأرض، بل أيضًا ضد عوائلهم وأحبابهم في كوكبنا، إذ يُحرمون من التزاور الطبيعي معهم ولقائهم. ولا زالت حتى الآن ذكريات معاناتنا، أمي وأختي وأنا من حرماننا من أبي.

هناك على الأرض ومع الاكتشافات والصدمات والتغييرات التي كنت أعيشها، بدأت بالتفكير في السؤال التالي: كيف حصل أن سكان كوكبنا راضون عن هذه السياسة الظالمة؟ من المعلوم أن جميع قرارات قياداتنا في جميع المجالات، تتخذ باتفاق جماعي وشفافية كاملة غير قابلة للتلاعب والضغط والخداع.

هذا السؤال العصي، كعادتي عندما أحتار، أثار انفصاميتي النفسية والعقلية، ودخلت في جدالات نارية بين يميني ويساري، أبوتي وطفولتي، سيلامي وأرضي، ومقارنة دائمة بين عقليتنا نحن وعقليتهم. هل حقًّا نحن كما نعتقد، متقدمون عليهم كثيرًا من الناحية النفسية-الأخلاقية، وقراراتنا حقًّا جماعية؟ إذا كانت شفافيتنا كاملة، كيف حصل أن أمّي وأبي نجحا بإخفاء أهم أسرار حياتي؟ يقينًا هنالك أعماق بعيدة في نفوسنا لم تبلغها قدراتنا التخاطرية بعد، أشبه بأكوان بعيدة وثقوب سوداء غامضة. ولعلَّ هذه الأعماق هي مكمن الغرائز وبرامج الجينات، ومنها تلك الطبيعة التي كانت سائدة عند أسلافنا، ولا زالت موجودة عند الأرضيين: سيطرة أقلية فاعلة على الأغلبية، بصورة توافقية يرضى بها الجميع دون حتى أن يدركوها، أي ما يطلقون عليه بـ"النظام الهرمي"، الذي تقوم على أساسه المجتمعات في كل مكان وزمان.

هذا بالضبط التفسير الوحيد المعقول الذي يجعلنا منذ قرون نرضى عن هذه السياسة الظالمة ضد إخوتنا المبعوثين، دون سؤال أو اعتراض. رغم أنها بالحقيقة لا تمثل ضمائر الأغلبية بل تلك الأقلية المتعالية من أصحاب القرار. نحن في العمق لا نختلف عن الأرضيين ولا عن أسلافنا، رغم الاختلاف الكبير في درجة السيطرة والخضوع. نعم هذه طبيعة بشرية كامنة في أعمق أعماقنا، في جيناتنا. أنا لا أطالب بإلغائها، فهذا مستحيل، بل أطالب بوعيها والانتباه إلى تأثيرها على سياستنا.

إن هذا الاكتشاف جعلني أكافح منذ أعوام لإقناع رفاقي بهذا الظلم وأنه لا يمثل فعلا الأغلبية. أخيرًا أثمر كفاحنا أنا ورفاقي عن رفع الظلم وإقرار سياسة جديدة لم نحلم بها. يقينًا أن المهتمين منكم قد عرفوا بالقرار الجديد والهام جدًّا الذي تم اتخاذه، المتضمن:

نعم نحن متفوقون على إخوتنا الأرضيين، بشفافيتنا وسلامنا الذاتي والاجتماعي، لكنهم هم أيضًا متفوقون علينا بلهيبهم الإبداعي الجمالي الفني والأدبي. إذن علينا التحلي بالتواضع والعدالة والأمر الواقع، والإقرار بأننا قدر ما نعمل على نشر تأثيرنا على حياتهم، نقبل أيضًا بتأثيرهم على حياتنا. وهذا يعني مثلما نحن حاضرون على كوكبهم وفي مجتمعاتهم، أن نقبل بحضورهم الفعلي في كوكبنا ومجتمعاتنا. بل نحن بحاجة إليهم أيضًا من الناحية البيولوجية من أجل ضخ دماء جديدة في إنسان كوكبنا وتنويع جيناتنا وإغناء نسلنا وأجناسنا. لهذا تمت الموافقة على تعديل سياستنا إزاء الرفاق والرفيقات"المستأرضين" الذين يقعون في حُبِّ الأرض والأرضيين: لا يتم طردهم من البعثة ومن كوكبنا، بل يبقون رفاقنا ومبعوثين كالعادة، ويحق لهم التنقل بين الكوكبين. الأهم من هذا، أنهم يحق لهم جلب عوائلهم، أزواجهم وأبنائهم، إلى كوكبنا، بعد التأكد من صلاحيتهم النفسية والبدنية وقبولهم باكتساب (قوة التخاطر)، كي يتمكنوا من العيش بيننا والتواصل معنا بصورة طبيعية وعادلة.

بهذه المناسبة، أود أن أزفَّ لكم الخبر الطيب التالي:

أنا واحد من هؤلاء الذين أستأرضوا ووقعوا في حبِّ الأرض، أو بالأحرى في حب "أرضية". وهي الممثلة العالمية(أنجلينا) التي حكيت لكم بعضا من سيرتها في جزيرة الصفاء وعالم سين. صحبتها معي لنقيم حفل زفافنا بين الأهل والأحبة، ونمضي شهر عسلنا في جنان الصفاء.

أما الجزء الثاني والمهم جدًّا من هذا الخبر السعيد، أن أبي وعائلته الأرضية، سيحضرون حفل زواجي، بعد أن سُمح لهم بزيارة كوكبنا وحتى إمكانية الاستقرار فيه إذا رغبوا.

ما هذا؟!

أسمع صوتًا غريبًا لم أعرفه في كوكبنا!

جرس النقال.. مستحيل!!

أسمع زوجتي أنجلينا تجيب وتتحدث مع أصدقاء..

ها هي تناديني:

- أسرع يا عزيزي آدم، أدونيس وريم ينتظرانا قبل موعد السينما، في مقهى الشانزليزا.

لا أفهم ماذا يحصل.. هل هي تهذي، أم...م م..، أأنـ......اااا؟!

أنجلينا عزيزتي، أين نحن؟

و.. و.. كتابي هذا؟!

  



[*] [*] استأرض، من أرض، وهنا بمعنى انتمى للأرض.