أمس المعارضة ويوم السلطة
جريدة الصباح البغدادية 17/5/2003

توفيق التميمي:


لا يمكن قراءة “جدل الهويات” للكاتب العراقي سليم مطر المقيم في “جنيف” من دون ان نضع اعتبارين مهمين للحكم على الاشكاليات التي اثارها هذا الكتاب خاصة فيما يتعلق بالتمايز بين الطرح الوطني الموضوعي لمسألة الهوية والاقوام الاثنية في العراق وبين ما تتبناه الاطروحة الشوفينية والرؤية العنصرية العدائية التي تبشر بها تصريحات وأدبيات بعض الرموز القومية والدينية.

اول هذين الاعتبارين:
ان سليم مطر الكاتب العراقي الذي بدأ روائيا واديبا في روايته “امرأة القارورة” وانتهى في ورشة عمله الابداعي الفكري الى تقنين اشكاليات الهوية والامة العراقية، وآليات النهوض بهذه الامة ومحاولة تأهيل هذه الهوية من جديد بعد تاريخ متواصل وسلسلة من الانتهاكات مارستها النخب الايدلوجية والثقافية  فضلا عن قمع الزعامات والسلطات الدكتاتورية المتعاقبة.
في كتابه (جدل الهويات) يتواصل سليم مطر مع اطروحات كتابه الاول “الذات الجريحة” في تشخيص الدوافع والمعوقات التي حالت دون ظهور مشروع”الامة العراقية” الى حيز الوجود والواقع التاريخي بسبب نتائج الاقصاء الطائفي والقومي والمذهبي..من جراء السياسات القامعة للأحزاب والسلطات وحتى المعارضة التي كانت تحتكم الى رؤيتها العنصرية وسياساتها الشوفينية في رؤية الهوية الوطنية لأمة العراق.
سليم مطر في كتاباته ومشاكساته الصحفية لا يتوانى عن الاشارة الى المزايدات التي تمارسها الجماعات السياسية ونخبها الثقافية ازاء اشكاليات الهوية الوطنية التي تخضع في حقيقة امرها الى مصالح براغماتية ومنافع حزبية وانسجام مع توازنات دولية مطلوبة والخاسر الوحيد في حلبة هذه المزايدات هي المكونات الوطنية لهذه الأمة العراقية.
أما الاعتبار الثاني والمهم في قراءة الكتاب فهو:
ان سليم مطر كان قد أنهى كتابه هذا قبل ان يسقط صدام بعام تقريبا. ولهذا فان ما قدمه في هذا الكتاب من مخاوف وهواجس من تفتيت لحمة الوطن العراقي وتشعيث مكوناته كانت بمثابة الاستشراف المبكر لخارطة سياسية واجندة خفية اعدت ترتيباتها في كواليس مظلمة وقاعات المؤتمرات لجماعات المعارضة العراقية، وخاصة ما يتعلق بالحقوق والامتيازات التي يبشر بها لقومية على حساب قومية اخرى او جماعة اثنية على اخرى.
يحمل الكتاب النخب الثقافية العراقية مسؤولية ضياع الهويةالعراقية كما يدين موقفها السلبي ازاء اشكاليتها لتعطي فرصة كبيرة للساسة والزعماء والعسكرفي انتهاك هذه الهوية واللعب باوراقها والمزايدة عليها.
فالنخب الثقافية العراقية “حسب وجهة نظر الباحث” هي ذات تركيبات هجينة وملامح هلامية لم تكتمل بفعل عناصر متعددة ومتشابكة ومتداخلة لا مجال للحديث عنها، ولكن يمكن التأكيد على ان هذه النخب لم تسجل احتجاجا ضد تغييب الهوية العراقية للاقوام الاثنية والدينية سواء في تاريخها السياسي ا والثقافي. كما افتقر تاريخ هذه الثقافة الى فصول الحوار بين مكونات هذه الامة، وطغت مناقب اليسار والقوميين وامجاد الدكتاتوريات على صفات تاريخ هذه الامة بديلا غير شرعي عن الصفحات التاريخية لحراك هذه الامة ومكوناتها وموروثها التراثي والثقافي والانساني.
وتثير قراءة الكتاب سؤالا لا يمكن القطع باجابته، سؤالا عموميا قد تكشف الاجابة عنه بدقة تفاصيل ضرورية تخدم الرؤية النهائية التي ارادها الباحث سليم مطر. والسؤال هو: هل تشكل مادة الكتاب..بهيئتها الصحفية.. ومقالاتها المتعددة وردودها المتناثرة تصفية حساب شخصي مع جماعة قومية معينة؟ ام ان البحث يشكل جهدا وطنيا خالصا في لملمة التراث الثقافي الوطني العراقي..على خارطته الاصلية بعد اعوام طويلة من التبعثر والتشتت والاقصاء..
وبالتالي فهو محاولة تعطف مع محاولات اخرى.. تهدف الى تشخيص العلل والمعوقات التي تقف دون انجاز ملامح المشروع الوطني للدولة العراقية. ومهما تكن الاجابة..فان الدارسة لا تحمل السلطات الدكتاتورية المتعاقبة وحدها مسؤولية ضياع الهوية الوطنية واهدار تراث مكوناتها القومية والدينية بل بالقدر نفسه تتحمل هذه المسؤولية النخب الثقافية..التي تركت توجيه الدفة وادارتها للنخب السياسية الاسيرة لأطرها الايديولوجية وعماها الشوفيني العنصري.
جميل جدا ان يفسح مجالا في دراسته  ـ بالشرح والايضاح  ـ للشعوب والاقوام الاثنية العراقية كالاكراد والتركمان واليزيدية والسريان..وليس هذا فقط بل منح ممثلي هذه المكونات فسحة ليردوا على بعض الافتراءات والاتهامات الباطلة التي تتبادلها هذه المكونات وهي خطوة في ارساء حوار وطني عراقي غايته التعايش والوئام وطي صفحة الحروب الطائفية والمذهبية والدينية.
ارفق الباحث كتابه بملاحق لمقالات وحوارات وردود مقتطعة من جرائد عراقية معارضة “قبل سقوط النظام البائد” مثل صحيفتي المؤتمر، الزمان..في سياق مادة البحث. كما ان عرض الردود يمثل نمطا تاريخيا من انماط التفكير والرؤية التي تتحكم بالذهنية السياسية ونخبها الثقافية التي تنفرد بالهيمنة على متغيرات السياسة والمجتمع في عالمنا.
يبقى “جدل الهوية” هو احد المحاولات المخلصة في اعادة الاعتبار لهوية الامة العراقية المضيعة وأحد الخطوات الفكرية والتاريخية الضرورية لارساء القواعد الصحيحة للحوار الوطني المرتقب.