امرأة القارورة، في طبعة رابعة(2020) جديدة معدلة:

لماذا هذه الطبعة معدَّلة ومزيَّدة؟ 

أنا وبلادي وسيدة القارورة!

IMG 20181212 WA0000 Copie

 سليم مطر ت جنيف                                                                                                                  

أخيرًا حققت رغبتي التي كنت أنتظر الفرصة لتحقيقها منذ أكثر من عشرين عامًا:

ـ أن أكتب نهاية أخرى أكثر إيجابية لـ(امرأة القارورة).

فبعد إنجاز هذه الرواية عام 1990، وهي أولى مؤلفاتي، بدأت أنتبه بالتدريج، ومع توالي الأحداث في حياتي الشخصية وفي حياة بلادي، إلى وجود علاقة غامضة مع المصير المأساوي الذي انتهت إليه شخصيات الرواية:

 في الفصل الأخير تفقد (امرأة القارورة) خلودها وتتحول إلى امرأة فانية. ثم يتم طردها من (سويسرا) لتغيب في مجاهل العراق وتنقطع أخبارها. أعقبها ضياع الأبطال، (الراوي وآدم ومارلين)، في بادية منثورة بجثث جنود ونيران أزلية، وغرقهم جميعًا في النهر. مع إشارة صغيرة لأمل يتمثل في طفو (الجنين) على المياه.

 في الحقيقة إني عندما كتبتها في (جنيف)، ورغم معارضتي الطويلة للنظام، كنت أشارك العراقيين أفراح السلام مع إيران بعد سنوات حرب كارثية. ومعها نشوة وهم انتصار وطني بسبب رضوخ الإيرانيين لقبول سلام تسبب بموت الخميني حزنًا. في نفس الوقت، منحنا الله أنا وزوجتي ابننا الرائع (باسم).

رغم كل هذه الأجواء المبشرة بالخير الشخصي والوطني، إلا أني رغمًا عني وجدت نفسي أختم الرواية بهذه النهاية الانهزامية. خضعت لهذا الإلهام الطبيعي، دون أي تساؤل عن عواقبه؟!

 ولكن لم تمر سوى بضعة أشهر، وإذا بأولى الهزائم والكوارث تحلُّ على الوطن: كارثة حرب الكويت 1991، ثم فرض الحصار الوحشي الظالم، وما سبَّبَه من موت مادي ومعنوي وحروب داخلية وهجرة الملايين إلى المنافي.
غلاف الطبعة الفرنسية:
la femme

هكذا راح العراق ينحدر في نفق ظلمات من ضياع وتدمير ذاتي. بلغ ذهولي أوجه وأنا أرى في وسائل الإعلام نفس المشهد الذي ختمت فيه روايتي: البادية بين الكويت والعراق ملطخة بجثث آلاف الجنود الذين نهشتهم قنابل وعطش وذئاب.

مع هزيمة بلادي، رحت أنا أيضًا أعيش هزيمتي، فانحدرت في عوالم مظلمة من ضياع وخمرة وحشيشة وتسكع في مراقص حتى الصباح، تمامًا مثل البطل (آدم) في الفصل الأخير الذي يعيش عذابات لا تنتهي بسبب مشاعر إثم جنونية لمسؤوليته عن ضياع سيدة الخلود. وكأني مثله قد فقدت (روحي) وتلبسني جنون إثم بأني مسؤول عن ضياع بلادي. زاد من عذابي وانتكاساتي، إحاطتي بشلّة أشخاص، يأكلهم حسد واحتقار لذواتهم بسبب الغربة وكوارث بلادنا، فصاروا مثل ذئاب مسعورة، ينهشون بي. إن أولى وأكبر علامات انحطاط الشعوب، محاربتها لعناصرها الإيجابية المنيرة، وخنوعها لكل من يقمعها ويذلُّها.

هكذا طيلة السنوات اللاحقة، أكتشف يومًا بعد يوم، كيف أني مدفوع بعفاريت مصير جهنمي، أعيش مع بلادي في كل ما سجلته من خيبات ومآسٍ لأبطالها، وكأني أجسِّد حياتيًّا ما تكهنته أدبيًّا. نعم إن الأعمال الإبداعية الأصيلة الصادقة لا تنبع من عقل المبدع وحده، بل تغذيها قوى كونية مجهولة. ربما لهذا السبب، إن المبدعين الحقيقيين هم الأقرب إلى الأنبياء، لا يعبِّرون فقط عن الواقع بماضيه وحاضره، بل "يتنبئون" بالمصير القادم. يكفينا مراجعة مؤلفات المبدعين، ونقارنها مع حيواتهم هم وعصورهم، لنتأكد من هذه الحقيقة.

زادت قناعتي بهذه الفكرة، عندما أدركت مع الزمن وتوغلي في متاهات ذاتي، أن شخصيَّتَي (امرأة القارورة) و(آدم)، تمثلان معًا، دون أن أعي (هويتي) بجميع أبعادها الذاتية والوطنية والإنسانية، بل حتى الكونية. (سيدة القارورة) هي ذاتي المكبوتة وأمي المفقودة، وتاريخي المنسي، وبلادي المهجورة، والعالم الذي أعيش غريبًا أبديًّا فيه، والكون الذي يخلبني بأسراره ومجاهله. ليس صدفة أنها كانت أولى مؤلفاتي، ورمزًا لميلادي الأدبي والحياتي، وميلاد ابني دلالة ديمومتي. ثم إن هذه الرواية هي فاتحة لدخولي إلى (عالم الهوية والبحث عن الذات)، الذي دون أي قصد أو قرار، أصبح شغفي الأوحد في جميع نتاجاتي الأدبية والفكرية.

أخيرًا عام 2001، وبعد ظهور السرطان في حنجرتي، وعيت لذاتي وتمردت على مصيري وغيرت نمط حياتي تمامًا. الحنجرة مكان الصوت والتعبير وصرخات الغضب المكتوم التي ما كفت عن حرقي بلهيبها. لقد استند تحسني هذا على بصيص أمل بالتغيير أوحت به مشاريع المعارضة حينذاك. لكن الاجتياح الأمريكي عام 2003 الذي فتح أبواب جهنم وحشود شياطين الكون على العراق، سرعان ما بدد هذا الأمل. انفجرت الحرب الطائفية الأهلية وشرع الخراب يتراكم فوق الخرابات السابقة. وعدتُ أنا أيضًا لأنتكس من جديد، صحيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا، لكني بقيت أيضًا كعادتي أقاوم وأقاوم لأحافظ قدر ما أستطيع على شعلة الإبداع الأدبي والفكري. حتى بلغت الكارثة ذروتها بظهور وحش داعش في 2014.

خلال هذه السنين الطويلة، ومع إصداري العشرات من الكتب الفكرية والأدبية، أعدت إصدار روايتي بطبعات عديدة في (بغداد) و(بيروت). دائمًا هنالك هاجس لا عقلاني وصوت طفولي في داخلي يطالبني: آه لو أصدر جزءًا آخر مكملا، أعيد فيه الخلود لسيدة قارورتي، والحياة والاستقرار لأبطالي. عساني بذلك أمنح لحياتي أنا ولبلادي بعضًا من أنوار أمل وحياة.
غلاف الطبعة الانكليزية:
The Woman

لكن المشروع ظلَّ دائم التأجيل إذ كنت أحسُّه مفتعلا إبداعيًّا، وصعبًا في زحمة نشاطاتي الكتابية المتعددة. فجأة في نهاية 2018 بعد أن عُرض عليَّ طبعة جديدة للرواية، وإذا بفكرة جديدة لم تخطر على بالي من قبل، رغم سهولتها ووضوحها:

ـ يكفيني إضافة فصل جديد، بدلا من كتابة رواية ثانية مكمِّلة!

يبدو أن تغافلي عن هذا الخيار طيلة تلك السنين لم يكن صدفة، بل لأننا، أنا وبلادي، لم نكن مهيأين للخلاص من تلك المآسي. لكن خروج العراق من نفقه الطويل بعد نهاية داعش ومعها مشاريع الانفصال العنصرية والأحقاد الطائفية، انبثقت طاقة إيجابية كفيلة بمنحي الأمل لحياتي أنا ولحياة بلادي!

في هذا الفصل التاسع الجديد الذي أضفته، أفرغت في صفحاته المعدودة خلاصة علاقتي مع (سيدة القاروة)، هويتي وتاريخي ومتاهات روحي. إن إعادتها إلى (قارورة خلودها) وإلى حياتها معي في (سويسرا)، محاولة لإعادة التوازن والاستقرار لـ(روحي وهويتي) الممزقة بين بلادي ومنفاي.

وفي نفس الوقت قمت بمراجعة الرواية وعدَّلت فيها أمورًا صغيرة لكنها كثيرة، أشبه بمن يقوم بإصلاح داره لتتلاءم مع مستجدات الزمن. إذن يمكنني القول: إن هذه الطبعة الجديدة من (امرأة القارورة) هي طبعة أمل وحياة لي ولبلادي ولكل من يقرؤها..