العالم العربي الحالي، نتاج الجغرافيا والتاريخ، وليس التعريب بالقوة!

سليم مطر ـ جنيف

ـ لو ان (التعريب) انتشر بالقوة والقمع، إذن لماذا لم يتم تعريب(ايران) و(تركستان) و(افغانستان)، رغم تبنيهم للأسلام مع (العربية) كلغة ثقافة وابداع ودين؟!

ـ لو ان (التعريب) انتشر بالاحتلال، لماذا لم يتم تحويل (شعوب شرق المتوسط: العالم العربي الحالي)، الى (يونان) و(رومان) و(فرس) الذين احتلوا المنطقة(من العراق وسوريا حتى سواحل الاطلسي) لاكثر من الف عام( من 500 ق.م) حتى الفتح العربي الاسلامي؟^[1]

الامبراطورية الرومانية ووريثتها الامبراطورية البيزنطية والاثنتان قد سيطرتا على
الضفاف الشرقية للمتوسط من الشام حتى شمال افريقيا، لقرون طويلة بعد سقوط قرطاجة حتى الفتح العربي الاسلامي

، نعم صحيح ان انتشار القبائل لعربية الفاتحة في انحاء العالم العربي الحالي، لعب دورا مهما في انتشار العربية والتعريب، لكن السؤال المهم جدا والمنسي: ما الذي منع هذه القبائل العربية من الانتشار وتعريب ايران وتركستان وافعانستان، التي خضعت للجيوش العربية الفاتحة وتبنت الاسلام؟!

ـ كيف حصل ان (ايران) التي احتلت (العراق) لحوالي الف عام قبل الاسلام، عاشت العكس تماما: ان العراق رغم خضوعه التام لها، هو الذي فرض عليها، اولا (لغته لاكدية وكتابته المسمارية) ثم بعدها (لغته وكتابته الآرامية ـ السريانية) التي اصبحت (لغة الثقافة) لجميع شعوب الامبراطورية الايرانية حتى الفتح العربية الاسلامي؟! بل حتى لغتهم(الفارسية البهلوية) تاثرت واقتبست من (السريانية العراقية) كتابتها ومفرداتها!؟ ^[2]

خارطة امتداد الامبراطوريات الايرانية المتعاقبة: اخمينية ثم فرثية ثم ساسانية، وشملت العراق واجزاء من آسيا.

ـ ثم ان(ايران)، رغم القمع والمذابح ضد العراق المسيحي، فشلت تماما بنشر ديانتها(المجوسية: الزرادشتية) في العراق، بل (العراقيون) هم الذين نشروا (مسيحيتهم) في انحاء الامبراطورية الايرانية وحتى في داخل العائلة الامبراطورية!!^[3]

ـ ثم ان هولاء (المسيحيون العراقيون) الناطقون بـ(الآرآمية السريانية)، الذين صمدوا لستة قرون من القمع الفارسي المجوسي، كيف حصل انهم تحولوا، خلال اقل من قرنين، بغالبيتهم الى مسلمين وناطقين بالعربية، دون قمع ديني مباشر ولا مذابح معروفة؟!^[4]

ـ لو ان (العرب) بفضل (الدين) نجحوا بفرض(التعريب)، لماذا لم تنجح (الدولة البيزنطية المسيحية) التي سيطرت لعدة قرون، على كل (الشعوب الشرقية المسيحية) من من سوريا حتى شمال افريقيا، بتحويلها الى(بيزنطية يونانية)؟! بل الذي حصل ان هذه (الشعوب الشرقية) اصرّت على الحفاظ على هوياتها ولغاتها الاصلية: (الآرامية في العراق والشام) و(القبطية في مصر) و(الفينقية ـ الكنعانية والبربرية في شمال افريقيا). بالاضافة الى خلقها لطوائف مسيحية شرقية:(نسطورية ويعقوبية وآريوية ودوناتية.. الخ) مختلفة ومنبوذة من المسيحية البيزنطية الحاكمة؟!^[5]

ـ نفس السؤال يمكن طرحه بخصوص الدولة العثمانية(التركية المسلمة) التي احتلت (العالم العربي الحالي) لعدة قرون، دون ان تترك اي تاثير (لغوي وقومي تركي) على شعوب المنطقة؟![6]

ـ ثم ان (السيطرة العربية الاسلامية للعالم العربي الحالي)، لو كانت فعلا (عروبية قمعية)، كيف سمحت بصعود سلالات كثيرة (غيرعربية) حكمت عدة بلدان عربية: الاتراك والمماليك في مصر والشام والعراق، وكذلك عدة سلالات (بربرية ـ عربية)، في شمال افريقية والاندلس، مثل: الموحدون والمرابطون،^[7]الذين، على العكس، ساهموا بصورة فعالة بنشر العربية، ولم يفكّروا بابداع (لغة ثقافية بربرية)، كما فعل المسلمون الفرس والاتراك وغيرهم!!؟؟

دولة الموحدين

ـ من بين الامثلة على مدى تشجيع العرب لثقافات ولغات الشعوب المسلمة، ان اول (معجم تركي: ديوان لغات الترك: محمود بن الحسين الكاشغري: حوالي عام 1000م) قد دوّن في (بغداد) وقدمه المؤلف هدية الى الخليفة العربي العباسي:(المقتدي بالله)^[8]

ـ لو ان (الخلفاء العرب) كانوا فعلا متعصبين لـ(عروبتهم وقريشيتهم) لما جعلوا من(غير العربيات) امهات للخلفاء، ومن اشهرهن:(الخيزران البربرية: حوالي 789م) وهي زوجة الخليفة العباسي المهدي، ووالدة الخليفتين الهادي وهارون الرشيد؟!^[9]

ـ ثم اخيرا، لو ان (العرب المسلمين) كانوا فعلا متعصبين لـ(العربية) ورافضين لغيرها، كيف حصل انهم اعتبروا(اللغة السريانية المسيحية): (لغة آدم وحواء، ولغة الجنّة)، وان الرسول قد أمر بتعلمها؟!^[10]

كل هذه الاسئلة سنبحث عن اجوبتها في القسم التالي(الاسبوع القادم) من دراستنا حول تكوين العالم العربي الحالي، الذي سنبين فيه بالتفصيل الفكرة التالية:
أن (التقارب الحضاري واللغوي والمصالحي) بين (أمم العالم العربي) اساسه جغرافي بيئي تاريخي ،بدأ منذ فجر الوجود البشري قبل عشرات الآلاف من السنين، بين سواحله وجباله وبواديه المترابطة الممتدة من الخليج العربي حتى شواطئ الاطلسي. لقد بلغ هذا التراكم للتمازج الاقوامي والثقافي ذروته في الفتح العربي الاسلامي وانتشار العربية والتعريب.
ان (العالم العربي) يشبه في عملية توحده التاريخي الثقافي العديد من الاقاليم والبلدان الكبيرة، مثل: (قارة اوربا) و(افريقيا السوداء)و(شبه القارة الهندية) و(روسيا) و(الصين)، وغيرها. ان (التجانس الجغرافي البيئي في هذا العالم العربي) جعل من المحتّم ان يحصل هذا التقارب تحت راية أي دين مثل المسيحية او الصابئية او حتى اليهودية، ولغة أخرى مثل السريانية او القبطية او البربرية. ان العربي، ليس بدمّه وجيناته(المفترضة) بل هو: ((كل من نطق العربية وعاش في هذا "العالم العربي" وامتزج بناسه واكتسب عقليته:(ثقافته ونفسيته).

*   *   * 

ها هي اطراف (التحالف الحقود وغير الرسمي) التي تساهم في تشويه سمعة العرب وتاريخهم وتراثهم، وتبث سموم العنصرية ضدهم:
1ـ العروبيون الحزبيون(البعثيون والقوميون)، الذين تبنوا واشاعوا المفهوم العرقي القبائلي لـ(العرب والعروبة) وفصل تاريخهم وتراثهم عن الحقبات السابقة للفتح العربي. وهم الآن يلجأون الى شغلة (الجينات الوراثية) وخرافات قحطان وعدنان ويعرب.  بذلك يبررون دون قصد الطروحات العرقية المتعصبة المعادية للعرب، وخصوصا (طروحات) ابناء عمومتنا ودولتهم.

2ـ الاسلاميون المتعصبون، الذين يعتبرون كلمة(عرب) مناقضة للأسلام؟؟؟!!! ولكنهم بنفس الوقت يمجدون الفرس الشيعة أو الاتراك السنّة!!!؟؟؟

3ـ الحداثيون والعلمانيون الذين بغالبيتهم عرب، بل ويحملون القابا عربية:(خزرجي .. طائي.. الخ)، ولكنهم مثل الاطفال اليتامى الذي حصلوا على هدية لعبة من اسيادهم(في الخارج) اسمها: التفنن بشتم العرب والدفاع عن كل من يعاديهم!!  واعتبار التاريخ الوطني السابق للفتح العربي: النهريني العراقي والفرعوني والفينقي، وغيره، مناقضا ورافضا للحقبة العربية الاسلامية!؟ فتراهم مثل الببغاء يرددون: انا ليس عربي، انا سومري..  انا آشوري.. انا فرعوني.. انا انا؟!

4ـ  متعصبوا القوميات غير الناطقة بالعربية، مثل (بعض الاكراد) و(بعض البربر)، وغيرهم، الذين تم تعليمهم الطريقة الشهيرة الخاصة بـ(ابناء عمومتنا): استخدام سلاح التأثيم والصراخ بالمظلومية، للتغطية على بث سموم الحقد والعنصرية الهمجية ضد العرب والتاريخ العربي.  وهم لا يدركون بأن العداء لاخوتهم في الوطن، لا يخدم ابدا حقوقهم بل ويورطهم في مشاريع جهنمية حربية، لا تستفيد منها غير تلك الشياطين الخارجية!

ــــــــــــ

المصادر:

---

[1] ـ عن الدولة المسيحية البيزنطية وسيطرتها شعوب الشرق، ابحث عن دراستنا المفصلة، في موقعنا:
ـ نحو رؤية جديدة لتاريخ الاديان: مثال المسيحية والاسلام.. سليم مطر

ـ كذلك دراستنا: الاصول الدينية العراقية المصرية للأديان السماوية: اليهودية والمسيحية والاسلام.. سليم مطر

[2] ـ عن التبعية اللغوية والحضارية الايرانية للعراق، ابحث في موقعنا عن دراستنا:
ـ جميع الامبراطوريات الايرانية، بدأت ثم انتهت في العراق! سليم مطر

[3] ـ عن القمع والمذابح التي ارتكبتها ايران المجوسية ضد المسيحيين العراقيين، ابحث عن دراستنا في موقعنا:
كفاح اهل العراق، قبل الاسلام، ضد الاحتلال الفارسي المجوسي! سليم مطر

[4] ـ عن كيفية تبني غالبية المسيحيين العراقيين للأسلام والعربية، ارجع الى دراستنا اعلاه رقم(1)

[5] ـ عن المسيحية السريانية والقبطية، في زمن البيزنط، ابحث عن دراسة مفصلة ومهمة:
ـ الإســـلام والســريـــان تـــــاريخ مشتـــرك.. بقلم قداسة البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص

ـ كذلك عن المسيحية في شمال افريقيا، ابحث عن دراسة جيدة:
ـ انتشار الديانة المسيحية في إفريقيا خلال الاحتلال الروماني وموقف السلطة الرومانية منها: بن عطا الله عبد الرحمان / مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية

[6] ـ نعم هنالك تركمان في العراق وسوريا، لكن الحضور التركي في المنطقة سبق الدولة العثمانية بقرون، منذ ايام الخليفة المعتصم الذي شيد لجيشهم سامراء.

[7]ـ عن البربر ودولتي المرابطين والموحدين، ابحث عن العنوانين، كذلك:
ـ Vie et mort des empires berbères/ Pascal Buresi dans mensuel 336

[8]ـ ابحث عن: (ديوان لغات الترك) ، كذلك يمكن مطالعته كاملا وتحميليه.

[9] ـ عن الخيزران بنت عطاء البربرية، ابحث عن اسمها. اختلف المؤرخون حول أصول الخيزران، فمنهم من قال إنها جارية عربية استقدمت من اليمن. ان من اهم من اكد إنها بربرية استقدمت من المغرب:

    ـ جلال الدين السيوطي/ تاريخ الخلفاء/ ص 321

[10] ـ عن السريانية لغة آدم والانبياء الاوائل، ذكرها:

ـ روي محمد بن عمر المدائني بسنده ان الرسول طلب من زيد بن ثابت تعلم السريانية.

ـ كذلك حديث نبوي، ورد في صحيح ابن حبان عن ابي ذر.
ـ الشيخ المفيد في كتابه(الاختصاص : ص 264)

ـ الجزء الثامن من كتاب ”العلل ومعرفة الرجال“ (5822) للإمام أحمد بن حنبل
كذلك اعتبر ابن حزم الاندلسي، السريانية اصل العربية:

(ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول)

ـ ذكر ابن كثير فى تفسيره عند قوله تعالى فى سورة الشعراء "بِلِسَانٍ عَرَبِى مُبِينٍ" قال "واللسان يوم القيامة بالسريانية، فمن دخل الجنة تكلم بالعربية" رواه ابن أبى حاتم، وذكر ابن القيم فى كتابه (حادى الأرواح)

ـ جاء في مصنف ابن أبي شيبة (10 / 474): حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي، قال: كلام الناس يوم القيامة السريانية.