جذور حكايات روحي
كان يا ما كان في سالف الزمان، عندما كان الكبار كبارا والصغار صغارا،
كان كوكبنا من أحلام وبيتنا من همسات،
وأنا طفل أحبوا في أحضان أمي الأرض،
وفي رعاية أبي السماء، ومع إخوة من جبال وغيمات.
ترضعنا الأنهار وتهدهدنا الريح.
ونحن فقراء نعتاش مثل الآخرين على ما تجود به العواصف وتجلبه الطوَفانات.
زادنا لا يتعدى أشعاراً نَسلقها بنيران الملذات،
أما شرابنا فأنوار قلوب تنبض بالأغنيات.
في النهار يجول أبي الأكوان يصطاد النجوم والأقمار،
وفي الليل يأتينا ومن جعبته تهطل الأمطار.
نعم، كان ذلك في زمان سالف بعيد،
عندما كان الكبار دائماً كبارا والصغار دائماً صغارا.
*******************************************************************************
ادناه عيّنة من قصص الفصل الاول
ـ1ـ
ماضي روحـي
عندما كنّا في الأعالي لم يكن هناك سماء،
وفي الأسفل لم يكن هناك أرض...
قبل أن تخلق المراعي وأدغال القصب
قبل أن يظهر باقي الآلهة
قبل أن تمنح لهم أسماءهم وترسم أقدارهم.......
قال الإله مردوخ:
سأخلق دماءً وعظاماً
منها سأشكل (لالو) وسيكون اسمه إنساناً
نعم، سأخلق لالو الإنسان
ليخدم الآلهة فيرتاحوا
((من أسطورة الخلق البابلية))
**************************************************************************************
الميـلاد
الأرض ــ ما قبل الإنسان
في البدء كان الوجود لا وجود.. كينونة في عدم.. حركة في ثبات.. روح في جماد.. خلود في زوال.. نور في ظلام..
وكان الإله في رحم دُرة وهو يخلق الدُرة.. وكانت روحي في روح الدرة الإلهية.
بعد أن أكمل الإله خلق الدرة، ولد منها، وكانت صرخة ميلاده:
كُنْ...!
ويرجع الصدى:
فيَكُنْ...!
فكان الكون.
الإنفجار الإلهي الأعظم، عدد هائل من الأجرام والأكوان والأفلاك، أشلاء وحمم جبارة واحتفالات نارية بحركة أزلية وبرائق خلابة... انفجارات لا تنتهي.
خلال أزمان وأزمان وأزمان من تيهان روحي في أنحاء الكون، وجدتني على كوكب الأرض.
أمضيت أزماناً وأزماناً وأزماناً في تنقلات لا تحصى من الجمادات حتى النباتات إلى الحيوانات.
مرة أخرى ثارت الأرض بانفجارات متعاقبة: براكين وزلازل وعواصف وطوفانات جبارة تمحق الحياة وتلونها بدماء.
بالتدريج يخبو الغضب وتخفت الانفجارات وتهدأ العواصف وتنقشع العتمة الحمراء. تعود البحار إلى أحواضها والأنهار إلى مجاريها. تسكب الشمس أشعة لاهبة على أديم الارض المعجون بالدم.. فكان آدم!
وجدت روحي تنبجس من بين الأطيان مع ذوات أمثالي. كنا كالفطر ننمو ونكتمل تحت الشمس. صنعنا الرب من انفجـار حاجته إلى لذة أبدية لا تنضب.. من توقه إلى جَمال أمثل وانسجام مطلق.
أنا الإنسان، ذروة الإبداع الإلهي. أنظم ما في العبث وأعقل ما في الجنون.. مخلوق على صورته، نموذج باهر لتكوينه. يميزني عن جميع كائناته. يضع فيَّ أبدع ما في خصاله:
"الخيال".. ملكة التفكير بما فوق المرئي والمحسوس، تذَّكر الماضي واكتساب الحاضر وتكهّن المستقبل.
والأهم من هذا، أني أدرك ذاتي جزءاً من ذات الخالق الأعظم، وحينما أقدسه فإني أقدس ذاتي معه. أشيّد له المعابد، وأقدّم له القرابين، وأؤلف عنه أسراراً وأساطير.
بي أنا الإنسان أكمل الإله خلقته، وأبصر وجوده، وبلساني أصبح قادراً على سرد حكاياته.
باسم الإله أنشر الحب والإخوة، وأقدس العدل والحق، وباسمه كذلك أعلن الحرب وأنشر الخراب وأسفك الدماء وأمارس الطغيان. إلهي هو رمز الخير عندما أصنع خيراً، وهو أيضاً رمز الخير عندما أقترف شراً. لذته جنتي، وسأمه جهنمي، ونزواته شيطاني.
بي أنا الإنسان اكتشف الرب إنسانيته، يحمل جوعاً أبدياً إلى المعرفة وتعرية المستور وإضاءة المُعتم. تجول روحي بين جواب وسؤال، يقين وشك، تقارب وتناء. بالشك والسؤال أخاف وأبتعد، وباليقين والجواب أثق وأندمج. جوابٌ يقودني إلى سؤال، وسؤالٌ يقودني إلى جواب. هي لذة المعرفة وحركتها السرمدية.
تتعاظم قدرات خيالي وتتنوع عوالمي. أمضي شغوفاً في المساهمة بلعبة الحياة والتاريخ، ولادة وموت، دول وشعوب وأديان. انتصارات وهجرات وثورات واكتشافات... جميعها خيال بخيال في رأس الرب. جموع البشر لا تدرك أبداً حقيقة كونها شعوباً من الخلايا، تعيش نزوات الخالق، سأمها من سأمه ولذتها من لذته، تحيا وتموت وتتجدد في مخيلته.
أنا الإنسان، الرب هو خالقي، ولكني أنا أيضاً خالقه؛ لأنه بمعرفتي يكتشف ذاته. إذ جعلني عقل الوجود وكينونته العليا ومركز خياله وأسمى مراحل الانسجام والتناغم بين المتضادات: ذكورة وأنوثة، فاعل ومنفعل، حكمة ومشاعر.
أنا الإنسان، لذّة الوجود القصوى. بالارتعاشة تتحد بذرتا ذكورتي وأنوثتي، وبالارتعاشة تنمو حياتي.
أنا الحياة: شهوة الجسد للحركة والانطلاق في رحاب الطبيعة الأم.
أنا الموت: شهوة الروح للتحرر من قيود الجسد والانطلاق في رحاب الوجود الأسمى.
أنا الحُب: شهوة شهوات واتحاد الملذات وأمل الروح بتحقيق حريتها في حركة الحياة وحرارتها.
وجودي في انسجام حيرتي، في تضادي المتناغم بين إنسانيتي الفانية وكينونتي الخالدة. بين بدني الزائل وروحي السرمدية.
أنا معبر بين الحيوان والملاك.. بين البدن والروح.. بين المادة والمطلق..
جهنمي في دنيوتي، وجنتي في سماوتي.
* * *
أزمان وأزمان وقبائل روحي وشعوبها تنطلق في أرجاء كوني، تجتاز غابات وصحارى وأنهاراً وبحاراً. آلاف من حالات ولادة وموت. تستقر وتتناسل وتبني السدود وتحفر السواقي وتشيّد المدن والمعابد والأبراج.. تزرع وتصنع وتحكي وتكتب وتخـوض الحروب، وبالطين الأحمر تصنع تاريخها. تعيش طوفانات وطواعين واجتياحات جيوش غزاة.. ترحل شمالاً وجنوباً إلى أنهار وصحارى وبحار وأهوار وجبال. تولد روحي مرات ومرات، وتموت روحي مرات ومرات.
***************************************************************************************************
في البدء كان الحـلم!
الأرض ــ ما قبل الوعي
أنــــــــــــــــا
كون، وأفلاكي اسراري
صحراء، وواحاتي أحبائي
بركان، وحممي كلماتي
سماء، ونجومي أفكاري
بحر، وأمواجي أشواقي
حرب، وجيوشي أجزائي
غابة، ووحوشي أمراضي
بلاد، وشعبي أحلامي
سفّاح، وضحاياي شهواتي
معتوه، وجنوني ابداعي
غريب، وضياعي ذكرياتي
رجل، وانوثتي حناني
ماضي، ومستقبلي حاضري
نعم.. أنا.. أنا.....
أنـــا الانســــــــــــــان
* * *
وعيت نفسي.. أين أنا؟ من أنا؟! من أين أتيت؟
انتبه لنفسي عند فجر، جالس عند نخلة مطلة على شاطئ نهر. في الضفة المقابلة بساتين ومزارع وبواد تسبح في أنوار نحاسية تخترق غيوماً بيضاء. مع تصاعد الأنوار تتلألأ المياه بتوهجات شفق فجري يتمايل مع ريح شمالية ناعسة تبث انتعاشة في بدني وتغرقني في استرخاء وخدر. المشهد ضبابي هلامي مثل حلم.
ـ آدم. اصح يا آدم.. الفجر يهّل والصباح قريب.. اصح يا آدم..
أأسمي آدم؟!
أسمعه يتردد في وجود خال من بشر، بينما أفواج سنونو تشق عباب سماء متجهة جنوباً. غيوم مفعمة بثمالة ليل تترنح في السماء. بجعات بيض ساحرات تطفوا بين مويجات. بطات مع فراخها تستريح على صخور..
أحلام أحلام أحلام.. لا أتذكر من وجودي سوى أحلام. كل كوني أحلام. أحلام تمضي وأحلام تأتي، وأحلام تنتظر بأحلام. من جديد الصوت يصدح في فضاء:
ـ آدم.. آدم.. ما بك يا آدم؟ تعال يا عزيزي تعال.. نكمل سوية ما تبقى من زمان.. سأحكي لك حياتك وتحكي لي حياتي.. تعال يا آدم تعال..
دون أن أفتح عينيي أرى امرأة تنبثق من ماء بجسد حنطي مبلول وشعر حني منثور وقامة باسقة مثل نخلة في صحراء. ترفرف حولها أسراب بجع وبط وسنونو. مياه فضية تجري سواقياً على نهدين وحلمتين نديتين خلف ثوب شفاف بألوان قزحية. من جديد شعَّ صوتها مع أنوار فجر:
ـ انهض يا آدم.. هيا، انفض عنك نوماً ولوماً.. تعال نغتسل بمياه فجر وحياة.. نهار آت وربيع في انتظار.. تعال يا عزيزي تعال..
دون أن أفتح عينَي أراها تقترب وترتسم عليها ابتسامة مفعمة بحنان. أجهل هوية هذه المرأة. هكذا انبثقت فجأة مثل حورية غامضة. لكن وجهها مألوف كأني أعرفها منذ زمان!
ـ من أنت أيتها الكائنة؟
تنفرج شفتيها بكلمات تذوب في زقزقة عصافير تمرق خاطفة. من خلف السراب بدأت تطل أشعة شمس متبرجة مبرقعة بالغيوم. كانت تسطع بخطوط ذهبية نحاسية تخترق النهر وتلتحم بقدمي الغارقتين. فتغور كفي في أطيان ورمال وحصى . أحس بخدر ولا مبالاة:
ـ إني لا أعرفك أيتها الكائنة.. لكني أشعر كأني أنتظرك منذ زمن طويل.. كما ترين فإني متعب حزين أبحث عمن يعينني في غربتي..
بتدرج متصاعد تتثائب الطبيعة من حولي بأغنية فجر ربيعي يعزف ريحاً وإيقاع مويجات وزقزقة عصافير ونقيق بط وضفادع مع ترانيم خافتة بعيدة.
تبتسم الكائنة الأليفة بحنان وقطرات دافئة تنساب من جسدها على وجهي:
ـ انهض وتيقظ يا عزيزي آدم.. انتهى موسم غيابك في عوالم النسيان.. ها هو ربيع ماض يهّل وتتفتح براعم ذكريات..
استغرب كلامها. أتكون ثملة قد هدَّها عالم ليل، فأتت لتمارس معي نزوات عابثة؟
ـ اسمعي يا كائنة، أنا كائن بلا ذكريات. لو كان لي ماض، فقد صار نسياناً.
ـ أنا أعرف حقيقة عذاباتك يا حبيبي.. نيرانك، حطبها ذكريات ودخانها أشواق... تعال يا عزيزي وجرب الترحال في عوالم ماض ما انتهى، إذ لا زال هنا في أعماقي أنا.. وأنت فيه..
راح يثقل عليَّ كلامها العابث الواثق. تخاطبني كأنها حقاً مالكة مصيري:
ـ أيتها المتعالية، إني أجهل مبتغاك.. إن كنت تودين حقاً مساعدتي فاطردي عني أشباح ماضي وخلصيني من غربتي وامنحيني الأمان.
اقتربت مني وفاحت منها رائحة قرنفل وهي تمّسد شعري بحنو وتهكم:
ـ اسمع يا آدم، ليس هنالك فائدة من إصرارك على النسيان.. هل تنكر بأنك أنت نفسك ليس أكثر من ذكريات؟
* * *
كم كنت أود حينها أن أنتفض ضد هذه العابثة. لكني رغماً عني كنت مرتخياً ثملاً فاقداً لقواي. لذتُ بالصمت. لم أفهم مقصدها. أستغرب عدم غضبي من عبثها وكأني سبق وأن تعودت عليها وألفت كلامها.
- لا أفهم لغتك الساخرة.. لا أعرفك ولا أقبل تدخلك.. ماضيّ أنا انتهى.. دعيني عن حكاياتك، فأنا تعبان..
لم تدعني أكمل. قاطعتني بصوت هامس يشوبه ضجر:
ـ كفاك عناداً يا آدم.. أنت تؤذي نفسك هكذا وتؤذيني معك. ألم تتعود حتى الآن على فكرة أنك مجبر على الرحيل معي؟ هل عليَّ في كل مرة أن أذكرك بأنك بلا حرية اختيار؛ لأنك بكل بساطة لا تمتلك خياراً آخر غير ما أقرره أنا لك؟ انظر حولك ياعزيزي، انتبه لنفسك ولا تغرق في أحلام...
أردتُ أن أعترض وأحتج.. لكنها ضغطت بكفها الرقيق على فمي وهي تقول:
ـ اعرف يا عزيزي، إني لا أسخر منك أبداً.. اسمع مني الحقيقة التي سبق وأن سمعتها مني مراراً ومراراً.. أعيدها عليك الآن بصراحة واختصار: أنت ياعزيزي غير موجود إلاّ هنا في أعماقي.. ماضيك وحاضرك ومستقبلك وأحلامك كلها محفوظة هنا معي في عالمي.. حياتك حياتي وترحالك ترحالي.. أوَ فهمت؟
رغم أن كلامها بدا مضحكاً وبلا معنى، إلاّ أني في أعماقي أحسسته جاداً وحقيقياً حتى بدت كتلة من دخان تتكوم في صدري. غرقنا بصمت وأنا أفكر بأن أعثر على أي موضوع مهما كان.. فلتتوقف عن مهزلتها.
ـ تذَّكر يا آدم، تذَّكر وإياك أن تنسى.. أنت نفسك ذكرى..
يا إلهي، لماذا ينتابني هذا الإحساس بالرعب؟ كيف تسنى لها أن تؤثر في؟! يكفيني أن أبادلها السخرية أو أتجاهلها حتى ينتهي الأمر. بدأت أشك بأن ما يجرحني في كلامها هو إحساسي بأنه يحتوي على بعض من الحقيقة، أو ربما كل الحقيقة... مستحيل!
أنا على يقين بأني كائن.. وأني موجود هنا.. في هذه الأطيان والأشجار والمياه والسماء والفجر البازغ، فكيف تريد هذه الكائنة أن تقنعني بأني هكذا مجرد أحلام وذكريات؟!
ـ أرجوك كفي عن مزاحك.. ألا ترين كيف أنا حائر وتعبان.. أخبريني، من أنت؟
ـ أوه يا إلهي، متى أتخلص من هذه المشكلة التي مللت تكرارها معك منذ الأزل. اسمع يا آدم.. يا رجلي ويا سيدي، أنت لا يمكنك أن تحيا أو تبقى في أي مكان أو زمان من دوني أنا. حكاية وجودك محض أحلام تستمد حياتها من أحلامي أنا.. أنت رجل أحلامي، وعندما أنام أنا تستيقظ أنت في روحي..
أكررها عليك: أنت بكل بساطة يا عزيزي غير موجود.. نعم غير موجود إلاّ كحلم وتاريخ مخزون هنا في رأسي..انظر حولك.. يا حبيبي.. يا سيدي.. انظر أين أنت..
لاحت قطرات تتوهج في مقلتيها، بينما أصابعها تمَّسد شعري وتهمس في أذني بأغنية عن زمن يمضي وأسراب طيور لن تعود.
فقط في تلك اللحظة، انتبهت إلى غرابة الكون المحيط بنا!
بدا محيط الوجود دائرياً والسماء قبة مقعرة!. ثم شَرَعَتْ كفي مرتعشة تحفر الارض وتكوّر كتل ممزوجة برمل وطين وحصاء وإثل، وعندما وضعت رأسي على صدرها فاح منها عبق أرض وامتلأ فمي بطعم طين. دون أن أفتح عيني وجدت نفسي أهمس لها:
ـ أوه يا حوائي.. يا سيدة وجودي ومالكة روحي.. اعذريني عن النسيان، أعترف لك الآن.. أنت بيتي.. أنت وطني.. أنت حلمي.. أنت ماضيّ وحاضري.. أنت روح حيواتي السابقة واللاحقة.. أنت سر وجودي وخلودي وأحلامي..
رحماك يا سيدتي أعينيني فأنا تعبان ونار حنين تحرق حناياي وما عاد في روحي صبر. أنا سفينة بلا ربّان وسط أمواج عاصفة وغيوم كالحة. يا جليلة، أحلّفك بهذا الوجود، بسماء ونهر ونخيل وفجر ساطع، بعشق مجبول بأعوام، أنيري لي دربي، دلّيني على بر الأمان.. أنا تعبان..
أحس باختلال وزن كأني أعوم على جسدها. الأرض تميد بي كحبات هواء وماء منساب. قوة غامضة تشدني إلى جميع الأنحاء تكاد أن تمزقني إلى أشلاء مثل مركب تعصف به ريح.
حينها وأنا في لجة الضياع أدرك أن الفعل الوحيد الذي يمكنني القيام به؛ لإنقاذ نفسي، أن أفتح عيني.. قررت من دون تردد أن أفتح عينَّي لأشاهد الحقيقة كما هي.. كما هي حتى لو كانت وهماً وحلماً..
عندما فتحتهما لم أرَ، بل عشت كما لم أعش من قبل:
وجدت نفسي أطوف في حوائي. هي المياه الفياضة والكون المتفجر.. كيانها مرسوم بخطوط من أنوار وألوان وانفجارات بركانية.. شعرها شموس ووجهها سماوات ونهديها جبال وجسدها أمواج فضية. من عينيها ينبثق وهج ساطع يغمر الكون فتهتز الارض وتتهشم السماء كمرايا. يفيض النهر بأمواج تمتزج بشظايا أنوار تنتثر في أعالي سماوات. يستحيل الكون إلى احتفالات أسطورية من شلالات بيضاء زرقاء خضراء ذهبية لأنوار ومياه وثلوج وغابات جبلية.
في اللحظات الأخيرة، بينما أنا أغرق وأذوب كثلج في أحضان كونها، وتتفكك أعضائي بإرهاصاتها المتفجرة، وتتبخر أنفاسي بشهقاتها الملتهبة، وتبدو كل حياتي مجرد أحلام بأحلام، ولا شيء فيها غير وهم وخيال.. رغم ذلك، هنالك في أعماقي يقين ما بعده يقين، إنَّ لي ماضٍ من دم وطين، وتاريخ أحمق طويل، ومستقبل سيولد بكل يقين.
*************************************************************************************************************************************
مناجاة قابيل: رحماك يا رب.. قتلت أخي!
الأرض ـ فجر الإنسان
إلى أرواح جميع إخوتي في الوطن وفي الأرض جمعاء،
الذين قتلهم إخوتي في الوطن وفي الأرض جمعاء!
أوه يا لخطيئتي التي ما بعدها خطيئة.. لقد قتلت أخي، بيدي الآثمتين هاتين.. نعم أنا قابيل ابن آدم، قد قتلت أخي وحبيبي هابيل. وا ويلتاه ها أنت يا حبيبي، بدن بلا حياة..، فمك لا ينطق وعيناك نائمتان..
لا أدري منذ كم من أزمان وأزمان وأنا أحملك على ظهري هائماً في البراري حائراً، أستغيث بالله وأمي وأبي لتعود إليَّ كما كنت دائماً. أنت جامد بلا حياة، أداعبك فلا تضحك.. أمنحك الطعام فلا تأكل.. أناديك، أستغيث بك، فلا تسمعني... يا أخي، اهمس لي ولو بشهقة، أشفق عليَّ ولو بنظرة..
يا الله يا خالق الأكوان هب الحياة من جديد إلى توأمي هابيل.. أنت الذي زَيَّنَّت السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْتها رُجُوماً للِّشَّيَاطِين. أنت الذي يَعْلَم غيب السماوات والأرض وما نبدي وما نكتم.. أنت الذي شئت أن تجعل في الأرض خليفة وتخلق بشراً من طين. رغم احتجاجات ملائكتك الذين قالوا:
ـ إنك ستجعل فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟
نعم إنك يا ربي خلقت أبي آدم من تراب، كالفخار، وخاطبته: كن فيكون..
ثم أمرت ملائكتك: اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
وبعد أن خلقت أمي حواء من ضلع أبي، خاطبته: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ.
لكن شهوة التمرد وملاكك إبليس الثائر ضدك انتقم وأزلَّهما عن طريقك وأخرجهما من نعيمك.
فاهتزت صرختك الغاضبة يا ربي هادرة في أقاصي الكون:
ـ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ.
وعندما شرع أبي وأمي بالبكاء وطلب الغفران، خاطبتهما أنت التواب الرحيم:
ـ اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
* * *
كيف يا إلهي تركتني أقتل شقيق عمري وعضيدي وخليلي.. كيف أعيش من بعده.. كيف أبقى في هذه الدنيا وأنا قاتله وهو توأمي، هو ذاتي أنا.. آه من الغيرة، كم هي جبّارة طاغية لا ترحم. كنت راعياً وأخي مزارعاً، نعيش بمحبة وتعاون. وعندما طلبت يا ربي قرباناً لك، قدم أخي حملاً سميناً وقدمت أنا ثماراً، لكن نيرانك الهابطة من السماء أكلت حمل هابيل وأبَتْ ثماري. وعندما صرختُ أنا به دون تفكير (لأَقْتُلَنَّكَ)، إذا به يرد عليَّ بهدوء:
ـ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ من الْمُتَّقِينَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ..
حينها اجتاحني غضب أرعن فحملت حجراً أسود ورميته به. أنا يا ربي أردت فقط أن أوذيه وأبكيه، لا لأقتله، لكنه أطلق صرخة وجع لم أسمع لها مثيلاً ما زال صداها يلهب أعماقي، وسقط أرضاً وسوائل حمراء حارة تنزف من رأسه مثل حمم براكين. وإذا بصوتك الجليل يا إلهي يهز الوجود صارخاً:
ـ ماذا فعلت يا قابيل يا ابن آدم؟ هاهو دم أخيك يعول شاكياً في أنحاء الأرض، لتحل عليك اللعنة من ذات الأرض التي فتحت فيهها لتشرب دم أخيك من يدك. مهما كافحت فلن تمنحك ثمارها، ستظل إلى الأبد تائهاً هارباً في البراري والقفار.
* * *
ايه يا وحوش الغاب والبراري تعالي ابكي معي، اندبي هابيل، انهشيني عذبيني، خذي مني روحي كما أخذت أنا روح أخي.. وأنت يا حجر، آه نعم أنت يا حجر من أين أتتك تلك القدرة العجيبة لتسلب مني روح مَن لا روح عندي من بعده؟ كيف أذوق الطعام يا حبيبي وأنت جائع.. كيف أنام وأنت في نومتك الأبدية.. سأظل أحملك على ظهري حتى يستجيب الله لدعائي ويعيد الحياة إليك.
وأنتم يا أبي وأمي وإخوتي، لا تسامحوني أبداً على خطيئتي، ولن أعود إليكم إلاّ وأخي يسير أمامي حياً مثلما كان.. أنت يا حواء يا أمي وسيدتي ومانحتي الحب والحياة، كيف لي أن أعود إليك وقد قتلت ابنك وحبيبك هابيل.
وأنت يا شقيقتي يا توأمتي ومعبودتي، اهجريني امقتيني؛ فأنا لا أستحق منك غير الصد والهجران؛ لأن حبي لك وغيرتي عليك هي التي زرعت الضغينة في قلبي ضد أخي وسوَّلت لي قتله كي تظلين أنت توأمي لي وحدي..
تعالي يا طيور احملينا أنا وأخي إلى أقاصي الأكوان، إلى سابع السموات، هنالك في عرش الخالق العظيم، أريد أن أطلب الرحمة، أبكي وأستغيث وأستجير بالقادر الجبار أن يأخذ روحي ويمنحها لأخي كي يعود حياً وأنا أرحل إلى عوالم الغياب.
آه تباً للحب الذي يخلق الحقد.. كيف لشتلات النور أن تثمر الظلام.. ولأغاني الفرح أن تبكي العيون؟!